الأفكار التصحيحية ورؤية النور

تعليق لفضيلة الشيخ محمد الصفار على موضوع الأستاذ عبدالعزيز قاسم الذي كان بعنوان (الشيخ الصفار في اثنينية الخوجة) المنشور في الرسالة ملحق جريدة المدينة...

نص المقال:

كم هو صعب في مجتمعنا العربي الحبيب أن تكون مفكراً أو مبادراً أو جريئاً في الإعلان عن مواقفك وآرائك، وكم هو مر ير جداً أن تكون مصلحاً متطلعاً تحركك قناعاتك وإحساسك بواجبك، فتسعى نحو الخير والصلاح لأهلك.

وإذا ما قلت للصعوبة سأحاول وهمست للمرارة انك ستتحمل، وعاكست الظروف المثبطة، إذاً فلتستعد للسهام الهوجاء المنطلقة، وللاتهامات المجردة عن كل دين وضمير وخلق، لأن حياتك ستتحول كلها إلى أزقة حرب مفتوحة، وسترى نفسك في كل موضوع (تعالى في مكانته أم استتفهته واستصغرته) بين مطرقة وسندان، مطرقة الجماهير ذات الوقع الشديد الذي لا يرحم، وسندان الظروف التي لا تستجيب إلا لماماً وببطء السلحفاة.

اتهامات يتفنن الشيطان في صنعها فتجري على السنة الناس الهواة، اتهامات بالعمالة والمهادنة والخيانة والتنازل عن قيم الدين، وثوابت العقيدة، وأركان الإسلام، وأجب أن كنت تُسمع الموتى وكما يقول الشاعر:
 

قد قيل ما قيل إن صدق وإن كذب فما اعتذارك من قول إذا قيلا


بالطبع نفوس الناس يا أستاذ عبد العزيز طيبة، وسجاياهم حسنة، لكن الشحن البغيض وثقافة الكره والتخريب لها من يحركها من عصابات المهمات القذرة في كل مجتمع، مهما تعدد وتنوع الشعار الذي تختفي وراءه تلك العصابات.

ذاك هو حديث عامة الناس وما تثيره مجالسهم العادية البسيطة، لكن هناك أصواتاً أخرى هي من المثقفين ومن يحسب عليهم ويصنف إلى جانبهم، أصوات تحمل نبرة التظلم والتذمر، فيصيغون موقفهم باعتبارهم مهمشين ومتآمر عليهم، ولا يطلعون على الأمور إلا بعد تخصيبها ووصولها إلى قاب قوسين أو أدنى من الاستخدام الخادع، وأنهم لا يُدعون ويُطلعون على الأمور إلا للإستفادة والتبرك بمواقفهم، وتمليح الطبخة بأسمائهم، لذلك ينأون بأنفسهم عن العمل والنشاط لشروطهم التعجيزية والمبالغة في الاعتداد بدورهم وبأنفسهم، وكأنهم القوة التي إن غضبت توقفت حركة الحياة وان رضيت صنعت المعاجز، هذه الكأنية كذبها الواقع ولا زال يقطع أشلاءها ليثبت أن العمل والنشاط والمبادرة والفكر المعطاء النير هي التي تعطي الحضور والتأثير وتفرض التغيير في الواقع مع كل النعيق والضجيج المفتعل.

ذاك هو الوضع الذي يعيشه فضيلة الشيخ حسن الصفار في مجتمعه كما أرى وأسمع وأبصر وألاحظ وأحلل، واقصد بمجتمعه هنا مجتمعه الشيعي الخاص الذي يفتخر بانتمائه إليه، وهذه الصورة التي عكستها لا تمثل إلا جانبا من المعاناة والألم، والذي قرر الشيخ الصفار ومنذ نعومة أظفاره ، وليونة جلده، وسهولة أن ينال منه، أن لا يستجيب له ولا يخضع لضغطه على حساب قناعاته، وهذا يعرفه كل الجيل الذي عايش الشيخ يافعا وشابا إلى يومنا هذا، فكيف به وهو الآن في هذا المستوى من التجربة والنضج والوعي والتفكير.

أردت بما سبق يا أستاذ عبد العزيز أن أبين أن قولك عن (تذرع الشيخ بالنضج والزمن) ليس له موقع من الإعراب في سجل الشيخ، ولك أن تستنطق لحظات ذلك السجل ومفاصله بحلوها ومرها، وماضيها وحاضرها لتسمع صوتها يجلجل بالآية القرآنية المباركة ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا.

بقي أن أُوفَق لتقريب الصورة الأخرى لمجتمعنا، وهي صورة كبيرة جداً، لا أقول عرضها السماوات والأرض، ولكنها تملاً قلب المصلح إحساساً بالرضا، وتحفز نفسه لخدمة أهله ومجتمعه، إنها الصفاء والنقاء لدى الشريحة الكبرى من أبناء المجتمع، والوعي الذي تزداد رقعته يوماً بعد آخر، والمناصرة التي يعجز الشكر عن مكافأتها.
وهناك الأقلام المثقفة والواعية وهي للحق اغلب مثقفي مجتمعنا والسواد الأعظم من أقلامه، إنها ساحة كبيرة وبحر واسع يتحرك فيه الشيخ الصفار، وهو في زيادة ومد كلما كان الشيخ في نشاط ومبادرة وعطاء ﴿و إن ليس للإنسان إلا ما سعى

أخي الأستاذ عبد العزيز:
لكثيرين من بلادنا الكبير «السعودية» قرأت مقالات وكتابات كانت تحث الشيخ الصفار على المضي في الإصلاح، وأن أمامه طريقا طويلا، وأن مذهبه يحتاج إلى الكثير من النقد الداخلي والإصلاح الجذري، كل ذلك قرأته وسمعته مشافهة مراراً وتكرارا،ً لكن لم أتوقع أن تخطه أناملك يا سيدي الكريم، في مقالك (الشيخ الصفار في إثنينية الخوجة) في الرسالة بتاريخ 12/5/2006لقد كانت العبارة التي قرأتها قاسية جداً (إنني هنا أدعو الشيخ حسن الصفار إلى أن يخطو خطوات اكبر نحو تجديد وتصحيح كثير من الآراء الجامدة في الفقه الجعفري، وقد آن الأوان كي يفسح لآرائه التصحيحية أن ترى النور داخل منظومة الفكر الشيعي، متجاوزاً ما كان يتذرع به في السابق، أي مراعاة النضج والزمن).

ولي مع كلمات المقال همسات محبة في أذني الأستاذ عبد العزيز:

الأولى:
ينطلق الشيخ الصفار من قناعاته التي يعتقدها، ويراها من صميم مذهبه وعقيدته ولا يتحرك ركضاً وراء تقدير الآخرين من أبناء بلدنا الكبير ولا يلهث وراء إعجابهم، وليس هذا مما يحث خطاه ويحرك خطواته نحو إبداء آرائه وقناعاته، فالمصلحون والمجددون (مجاراة لمفردتك) لن يكونوا مصلحين ومجددين وجل همهم ومبتغاهم هو تقدير هذا وذاك لهم أو إعجابه بهم.

وما أبداه الشيخ من رأي حول بعض ممارسات عاشوراء نابع من قناعة ترسخت في نفسه، فبحث وفحص وسأل واستشار، وحين استحكمت القناعة عنده لم يتأخر عن الكشف عنها، والقوة في عرضها على مجتمعه،وعبارتك يا أستاذ عبد العزيز(تلقفها المهتمون بكثير من التقدير لهذه الشجاعة الأدبية التي انعكست إعجاباً بنضج فكر الشيخ الصفار ومن معه) لا تشبع شيئا في نفس الشيخ ولا تدغدغ شعورا، ولا تدفع لأي أمر على صعيد عقيدته وفقهه، لأنها لم تكن محركا في لحظة من اللحظات.

الثانية:
قلت في مقالك انك (تدعو الشيخ حسن الصفار إلى أن يخطو خطوات أكبر نحو تجديد وتصحيح كثير من الآراء الجامدة في الفقه الجعفري)، وهذا يفترض أن يكون للشيخ الصفار أجندة اصلاحية في فقه الشيعة وعقائدهم، وعلى ما أعلم ليس للشيخ الصفار أجندة إصلاحية في آراء الفقه الجعفري، ومنظومة الفكر الشيعي، فهل هي أجندة يقترحها الأستاذ عبد العزيز؟ فإن كان الرد بنعم وهو المنساق من كلامه، فهذه أجندة من خارج السياق، ومن خارج المذهب، وإذا كان هنالك إصلاح وتجديد، فما أعهده واعرفه أن التجديد ينطلق من الداخل وبقناعة ترتبط بالمجدد والمصلح، وليست دعوات تتوارد من الخارج.

ليس هذا لحساسية ما يأتي من الخارج، فنحن وإياكم تلاميذ لآيات القرآن الكريم ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ بل لأن التغيير في كل معتقد وفقه وملة لا يكون إلا من خلال أُطرها وقنواتها الطبيعية، التي إذا اقتنعت بالتجديد انبرت إليه وتحملت ويلاته.

الثالثة:
إلى أين (يخطو خطوات اكبر)؟ ما الذي يرضيك يا أستاذ عبد العزيز ويرضي من سميتهم (بالأحبة) وهم أحبة بالفعل، هل عليه أن يخطو خطوات أكبر حتى يتطابق فهمه العقدي والفقهي مع فهمك، وعمله في كلا المسلكين مع عملك؟ إن كل الخطوات والمبادرات النابعة من الداخل الشيعي قد لا يعتبرها الطرف الآخر شيئا محرزا ومعتدا به، بل ويرغب في المزيد، وربما يكون هذا هو شعور الشيعي أمام الخطوات التي يقوم بها السني، إن التصنيفات جعلت الواحد منا يرى الآخرين من عقيدته ومدرسته بعيدين عنه إذا اختلفوا معه في أمر بسيط فما بالك إذا كان الاختلاف على مستوى الاعتقاد والحكم الفقهي.

الرابعة:
أليس خلطا علينا أن تقول (وكما طالبنا ونطالب الفعاليات والمرجعيات السنية بعصرنة فقهها وتجديده والكفّ عن الغلو الطائفي، فإن من واجبنا أيضا مطالبة الشيخ حسن الصفار ورفاقه من الوسطيين بمحاربة الأدبيات الطائفية الغالية داخل الفكر الشيعي حيال الآخر السني) أنا أوافقك في الشطر الأول لأنك ستتحرك في فضائك المتاح لك، والذي ربما يقبل مطلبك فيه بالعصرنة وربما لا يقبل، أما بالنسبة للشطر الثاني فمرحبا بطلبك وكلنا يشترك معك في هذا الطلب، لكن أُبشّرك يا أستاذ عبد العزيز أن هذا الفضاء له رجاله وعلماؤه ومثقفوه الذين يتحركون من داخله ومن خلال معادلته، هؤلاء هم من سيريحك في الطلب والضغط، وهم الأقدر على التأثير في ساحتهم، إذا فلينشغل كل مهتم ومثقف وحريص بموقعه وساحته وخندقه، ولينجز ما أمكنه من مهام، وليعلم أن الخندق الآخر يعيش حراكه الداخلي، وتموجاته الطبيعية.

الخامسة:
هل ما تراه يا أستاذ عبد العزيز من (تجديد وتصحيح كثير من الآراء الجامدة في الفقه الجعفري) يراه الشيخ الصفار؟ أم أن رؤيتك مع احترامي وتقديري لشخصكم الكريم من خارج المنظومة التي أنتجت هذه الأحكام، ورؤيته من خلالها وبها ومعها؟ وهي بالتالي منسجمة ومتوافقة مع تراثه بكامله ولا يرى داع إلى تغييرها أو تجديدها.

السادسة:
أيثبت الإنسان مصداقيته في دعوته للوحدة والتعاون والأخوة بين المسلمين وأبناء الوطن الواحد بتجديد فقهه وعقيدته؟ إذا ما معنى عبارتك (مثل هذا التصحيح ومثل تلك الصراحة أدعى كثيراً لقبول الشيخ وترسيخ مصداقيته)؟

ولو انحرفنا عن الموضوع قليلاً فهذا نوع من الفرض، وهو شبيه بما تدعو به أمريكا كلا من إيران وسوريا والسودان والسعودية أن تخطو هذه الدول خطوات كبيره في الإصلاح كي تثبت مصداقيتها و احترامها في المجتمع الدولي، لكن هذا شأن يختلف كثيراً عن الآراء الفقهية والعقدية في أي مذهب وأية ملة،فإذا كنا لا نقبل هذه اللغة في الشأن السياسي، فكيف نقبل قرع مفرداتك في موضوع خطير وحساس يرتبط بفقهنا وعقيدتنا؟

ثمّ هل بدأ المثقفون والمتنورون أيضا يتدخلون في قلوب الناس ويفتشون شراينها ليمحصُّوا مصداقيتهم من عدمها؟

أليس هناك من يكفي المتنورين هذه المهمة، ممن يعتقدون أنهم باب التوحيد الخالص، وغيرهم ملوث قبوري مشرك، لا يجوز التعاون معه حتى يعلن إسلامه على نهج خاص ومدرسة خاصة وربما شيخ خاص؟

هل المطلوب من الذي يقول ﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ أن يثبت مصداقيته بتغيير فقهه وعقيدته في أمة تحفظ آيات القرآن وتحسن تجويدها وترتيلها، وهي تنادي ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ؟

على الطرف الآخر هو أن يثبت مصداقيته في التعامل مع المختلف إذا مد يده إليه، وأن يقبله كما هو، وليس العكس بأن يركض من مد يده وبخطوات كبيرة كما تريد يا أستاذ قاسم كي يكسب وِدّ هذا ويحظى بالمصداقية عند ذاك.

ختاما :
أصحاب الشأن وأهل المذهب هم وحدهم الذين يقررون ما هو جامد وما ليس كذلك، ويشخصون ما يجب أن يجدد، كل ذلك من قناعة ترسخ في وجدانهم وتنسجم مع منظومتهم، وليس لعامل الزمن ولا ضغط الناس ولا نضجهم دخل في ذلك، كما أن الأجندة لو كانت ووجدت فستكون داخلية خالصة لا تقبل تسلل أحد إليها، ولا مزايدته فيها.

ولك في القلب يا أستاذ عبد العزيز كل التقدير والمحبة التي تجاري محبتك للشيخ ومن معه وتنافسها.

 

صحيفة المدينة، ملحق الرسالة، الجمعة 13/ 5/ 1427هـ