مرجعية العقل
أشار سماحة الشيخ حسن الصفّار في كلمة الجمعة الماضيةإلى الأهمية التي يوليها الإسلام ـ ممثلاً في نصوصه الشريفة من القرآن الكريم والروايات الشريفة ـ للعقل، ولمرجعيته الحاكمة على تصرفات الإنسان المسلم ومواقفه، وأشار في ثنايا الكلمة إلى بعض الأسباب التي قد تدعو البعض إلى تعطيل العقل وإتباع المألوف والموروث، بين هذه الأسباب: عدم الثقة بالعقل، إتباع السلف، إتباع الزعامات والقيادات دون وعي وبصيرة، مسايرة التيار الاجتماعي.لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يواجه رسول الله محمد

وفي ذلك درس وعبرة لجميع المصلحين والرساليين بأنَّ مَنْ يحمل رسالة الإصلاح فعليه أن يتوقّع الأذى والمعاناة، فإذا كان رسول الله


وقد كانت أوجه المعاناة التي عاناها الرسول



حينما يتّهم الإنسان بمثل هذه التهمة التي يكون الغرض منها إسقاط قيمته واعتباره و إثارة انفعاله وغضبه لا يجد منطقًا عقليًّا يمكن أن يواجه به هذا الاتهام، لكن رسول الله


وهذه نقطة أساسية يركّز عليها القرآن، ألا وهي «مرجعية العقل»، ففي آياته الكثيرة استنهاض للعقل وتأكيد لدوره كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾. فالله تعالى وهب الإنسان هذا العقل ليفكر به ولا يجمّده، فلا قيمة للعقل إذا كان الإنسان يترك للآخرين في أكثر المواقف أن يفكروا بدلاً عنه.
إن النصوص الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة توجّه الإنسان أن يثق بعقله ثقة تامة، فالعقل حجّة باطنة للإنسان.
يروى عن رسول الله




لكن المشكلة أن أكثر الناس يجمّدون عقولهم، ولا يستخدمونها في أكثر القضايا، وربما يرجع ذلك لأسباب، أذكر منها أربعة:
1. عدم المبالاة وعدم الثقة بالعقل:
حيث يعتبر البعض أنه لا يستطيع أن يرجح فكرة على أخرى لأنها فوق إدراكه ولا رأي له فيها، فيستهين بعقله، ولا يثق بقدرته العقلية، فيأخذ برأي الآخرين.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن بعض القضايا تحتاج إلى تخصص، كالمسائل الطبية والعلمية البحتة، والعقل هو من يرشدنا إلى الرجوع إلى المتخصص فيها، وهذا لا خلاف عليه. لكن الحديث حول ما إذا كانت هناك فكرة حول شأن عام يمكن للإنسان أن يعطي رأيه حولها، ومع ذلك لا يبادر أو يستصغر عقله، بينما الأصل أن الإنسان يستطيع أن يفكّر في كل قضية، بشرط أن يتوفر على معرفة جوانبها وأبعادها.
2. إتباع السلف:
البعض يجمّد عقله اعتمادًا على مَنْ سلفه من الآباء والأجداد، يقول تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[10] ، فتجد البعض يقفل أمامك النقاش بحجة أن السلف قالوا في هذه النقطة كذا وكذا، وهذا منطق خاطئ، لأن المطلوب من الإنسان أن يفكّر كما فعل ذلك السلف، فإن وجد ما قاله السلف صحيحًا اتبعه، وإلا خالفهم، فقد لا يكون السلف مصيباً في مسلكه، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾[11] .
3. إتباع الزعامات:
بعض الناس يبتلون بإتباع زعاماتهم السياسية أو الاجتماعية أو الدينية إتباعاً أعمى، فيجمّد عقله لصالح رأي تلك الزعامات، وهذا أمر أشار إليه القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ﴾[12] .
إنه لا يصحّ للإنسان أن يجمّد عقله إتباعاً لزعامة معينة، وإنما عليه أن يكون واعيًا ومنتبهًا.
لقد جاء الحارث بن حوط إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب



فأجابه الإمام علي

وهذه نقطة ينبغي أن يتنبه إليها عامّة الناس عندما يتخذون شخصًا معينًا زعيمًا أو قدوة، فليس من الضروري أن تكون القيادات في جميع قراراتها مصيبة، فعلى الناس ألا يعطلوا عقولهم، فيتبعون قياداتهم اتباعًا أعمى من دون وعي وبصيرة وتفكّر.
والنصوص الشريفة تشير إلى هذا المعنى، حيث يروى عن نبي الله عيسى بن مريم

فإذا كان هناك أناس في مسار منحرف وقالوا كلمة حقّ، فَلْنَقبلْها منهم، والعكس صحيح، فلو أن أناسًا من أهل الحق صدر منهم ما هو باطل فيجب ألا نقبله منهم، إذ على المسلم الواعي أن يزن الحديث وما يعرض عليه من آراء وأفكار. وكما وصف القرآن الكريم المؤمنين العقلاء بأنهم ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[14]
وفي هذا المعنى يقول الإمام علي

4. الانسياق مع التيار:
قد ينتمي الإنسان إلى جماعة أو قبيلة فيأخذ بأقوالهم وما يدور في أوساطهم دون أي تفكير أو تمحيص، وهذه النقطة من المشاكل التي يعاني منها كثير من شبابنا وأبنائنا، فيتأثرون بأجواء الصداقة والصحبة (الشلّة)، فيقومون بكثير من الأعمال الطائشة بسبب تواجدهم في هذه الأوساط السيئة.
بينما لو أخذنا أحدهم جانبًا وسألناه عن رأيه فيما يقومون به لاستنكره، وأجابك بأنه يقوم به جريًا مع الجماعة.
إن علماء الاجتماع المعاصر يتحدثون عن «نظرية العقل الجمعي»، ويعنون بها أن الإنسان حينما يكون ضمن جمع تسيطر عليه العقلية الجمعية السائدة. وذلك لأن الإنسان ضمن الجمع يلقي بالمسؤولية عن كاهله، وعلى العكس فيما لو كان فردًا، حيث يتردّد في اتخاذ الموقف ويحسب له حسابات من جهات متعدّدة، أما إذا كان مع الجماعة فلا يشعر بثقل المسؤولية، لأن الحالة الجمعية تشعر الإنسان بأنه معذور، فالمسؤولية لا يتحملها بمفرده، وإنما الجماعة ككل، وكذلك بسبب وجود العدوى النفسية التي تنتقل في الجوّ الذي يحيط بالأفراد، فالإنسان يجد نفسه مندفعًا مع الجماعة.
وبالإضافة إلى هذين السببين يوجد جانب الإيحاء، حيث أن الحالة العامّة والسائدة توحي بأن ما يقومون به صحيحًا.
وقد يكون في الآية الكريمة ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾[17] ، إشارة إلى تجاوز تأثيرات العقل الجمعي.
وهذه الحالة عند العرب في الجاهلية كانت مشكلة حقيقية واجهها الرسول


وللأسف قد نعيش في بعض مجتمعاتنا العربية هذه الروح القبلية إلى الآن، فالقبيلة تنتخب من يراه شيخها مؤهلاً لدخول البرلمان.
وقد لا يكون الانتماء القبلي وحده هو المعطّل للعقل، فهناك الانتماء الفكري أو الحزبي، فالانتماء إلى الطائفة والحزب والجماعة ذات التوجّه المعيّن فيه إيجابيات كثيرة، ولكنّه يحمل بعض السلبيات، وبالذات إذا كان المنتمي غير واعٍ، بحيث يسير في مسار هذه الجماعة دون أن يتفكّر فيما يقوم به وما تتخذه هذه الجماعة من قرارات ومواقف.
وفي هذه النقطة أشير إلى أن مسألة التقليد لا تخلو من الوقوع في بعض الأخطاء من قبل البعض، إذ من المفترض أننا حينما نقلّد مرجعًا جامعًا للشرائط يجب أن تكون مسألة التقليد عملية واعية، فنقلّده في مجال الخبرة والاختصاص، وهذا ما يشير إليه الفقهاء في رسائلهم العملية، فيذكرون أن التقليد مورده الأحكام الشرعية الفرعية، ولا تقليد في أصول الدين، ولا تقليد في تحديد الموضوعات الخارجية.
وفي هذا المجال لو تواجد مثلاً شخص والمرجع الذي يقلِّده في مكان لا يعرفان بالدقّة جهة القبلة فيه، فرجّح المرجع جهة معينة أنها اتجاه القبلة بينما رجّح المكلف جهة أخرى، فلا يجب في هذه الحالة على المكلّف الذي يقلّده أن يتّبعه في هذه المسألة، لأنها من الموضوعات الخارجية التي لا تقليد فيها.
وكذلك في مسألة رؤية الهلال، إذا رأى المكلف هلال شهر رمضان أو اطمأن من شاهدين عادلين، ولم يثبت الهلال لدى مرجعه، فإنه يجب عليه العمل برؤيته واطمئنانه وإن خالف المرجع.
ومن المفترض أن هذه المسألة واضحة للجميع، ولكن المشكلة أن الكثير من الناس لا يأخذون لأنفسهم هذه الصلاحية، فينتظر كل شيء من المرجع، وهذا بالضبط ما رأيناه في الأسبوع الماضي بخصوص ما أثير حول جواز الاكتتاب في أسهم إحدى الشركات، حيث يسأل أكثر الناس: ما فتوى المرجع في الاكتتاب في هذه المؤسسة؟
وقد أجاب أكثر المراجع وفقًا للسؤال الذي وُجِّهَ إليهم، فإذا كتب في صياغة السؤال أنها شركة لها أنشطة تحرّض على الفساد والإفساد، سيكون الجواب بالحرمة، وإذا صيغ السؤال أنها شركة لها أنشطة عادية، كأي مؤسسة أخرى، سيكون الجواب بالجواز.
إن بعض القضايا والموضوعات قد يحتاج تشخيصها وتحديد شرعية ممارساتها إلى نوع من الخبرة، ولذلك يحتاج كل مجتمع إلى أن يكون فيه مجموعة من أهل الخبرة وذوي الاختصاص يحددون الموضوعات الخارجية ذات الطابع العام، لأن المرجع لا يمكنه أن يشخّص ويحدد بالنيابة عن أهل البلد موضوعاتهم الخارجية.
إن الموضوعات الواضحة يستطيع كل مكلّف بنفسه أن يحدد موقفه الشرعي منها، كتشخيص حالة الضرر التي تجيز الإفطار في الصوم. ولكن الموضوعات التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة بالقواعد الشرعية ذات العلاقة تحتاج إلى مجموعة من نفس المجتمع تحددها، بحيث يوثق بتحديدهم وتشخيصهم للموضوع، ويأتي في هذا السياق دور الوكلاء والممثلين للمراجع في مجتمعاتهم، حيث يمكنهم أن يحددوا موضوعات الفتاوى، ويشخصوا الظروف في مجتمعاتهم، وقد تنطبق على بعض الموضوعات عناوين ثانوية، فما يكون جائزاً أو مستحباً في مكان وزمان، قد لا يكون كذلك في مكان وزمان آخر.
نسأل الله تعالى أن يمنحنا البصيرة في دينه والتزام العمل بأحكامه إنه ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين.