كيف نواجه التعصب؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
تنقسم الأمراض الخطيرة التي تصيب جسم الإنسان إلى نوعين: الأول منها يهدد بالقضاء على حياة المصاب، ويؤدي به إلى الموت، لكنه لا ينتقل بالعدوى إلى الآخرين، فضرره في حدود الشخص المبتلى به. بعكس النوع الثاني من الأمراض وهي ذات القابلية للسراية والانتشار، فإنها تعتبر الأكثر خطورة وتهديداً للصحة والحياة على المستوى البشري العام.
إن مرض الأورام الخبيثة (السرطان) مرض شديد الخطورة، لكنه ليس معدياً ولا ينتقل ضرره إلى الآخرين، لذلك تتجه جهود المعالجة نحو شخص المريض، أما مرض فقدان المناعة (الإيدز) مثلاً، أو الالتهاب الرئوي اللانمطي (سارز) فإنه بالإضافة إلى خطورته الذاتية على حياة المصاب، يشكل تهديداً خطيراً للصحة العامة، لقابليته للسراية والانتشار، لذلك يعلن المجتمع الدولي تعبئة شاملة لمواجهته وتقليص رقعة انتشاره.
ويمكننا تشبيه الأمراض الفكرية بهذين الصنفين من أمراض الجسم، فهناك أفكار خاطئة تقتصر آثارها السلبية على حياة المعتنقين لها، والمؤمنين بها، كأصحاب مختلف المعتقدات والأفكار المجانبة للصواب، فهم وحدهم يتحملون مسؤولية آرائهم وتوجهاتهم في آثارها الدنيوية، ونتائجها الآخروية، يقول تعالى: ﴿قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[1] ، ويقول تعالى: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ﴾[2] .
إنه ينبغي بذل الجهود لهداية كل حائد عن الصواب في آرائه ومعتقداته، لكنه إذا أصر وتمسك بفكرته فضرره على نفسه ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾[3] .
لكن المشكلة تكمن في نوع آخر من الأفكار الخاطئة، التي تدفع أصحابها إلى الإضرار بالآخرين، وتنمي لديهم نوازع الحقد والكراهية على الغير، وتحفزهم نحو العدوان عليه.
ويعبّر عن هذا النوع من الأفكار بالاتجاهات التعصبية السلبية، حيث تنطوي على حالة من الكراهية والازدراء للآخر، تدفع للبطش به، والاعتداء على حقوقه المادية والمعنوية.
ويرى علماء النفس، أن حالة التعصب السلبي إتجاه له مكونات ثلاث: معرفية وانفعالية وسلوكية، فالمكوّن المعرفي للاتجاه التعصبي عبارة عن الادراكات والمعتقدات والتوقعات في ذهن المتعصب تجاه الطرف الآخر، وغالباً ما تأخذ هذه المعتقدات والادراكات صورة القوالب النمطية، ويعرّف القالب النمطي بأنه: ((تصور يتسم بالتصلب والتبسيط المفرط عن جماعة معينة، أو أنه يمثل تعميمات مفرطة عن خصائص مجموعة من الأشخاص ينتمون إلى فئة اجتماعية معينة، وقد تقوم هذه التعميمات المفرطة على أساس سلوك شخصي معين، أو مجموعة قليلة من الأشخاص، الذين ينتمون إلى هذه الفئة. وقد تنطوي هذه القوالب النمطية على بعض الفروق الحقيقية في الخصال، في صورة مشوهة، بالإضافة إلى أن بعض مظاهرها الأخرى يتم تلفيقها تماماً)).[4]
أما المكوّن الانفعالي، فيشتمل على المشاعر السلبية، مثل الازدراء والخوف والحسد والكراهية. ويعني المكوّن السلوكي الممارسات والمواقف العملية التي يسعى المتعصب لاتخاذها ضد الآخرين. بدءاً من المقاطعة وتجنب التعاطي معهم، إلى التمييز الضار، حيث يأخذ المتعصب على عاتقه السعي لمنع المستهدفين من الحصول على التسهيلات والامتيازات التي يتمتع بها الآخرون، كفرص التعليم، والوظائف العالية، وقد تتطور الحالة إلى سلوك عنفي يتمثل في العدوان الجسماني والسطو على الممتلكات.
الاتجاهات التعصبية وخطورتها:
تارة يكون التعصب حالة فردية يبتلى بها بعض الأشخاص، لأسباب وعوامل خاصة، وأخرى يكون التعصب اتجاهاً وتياراً في المجتمع، له ثقافته ورموزه وكياناته، وذلك هو ما ينذر بأخطار وأضرار كبيرة، على مختلف الأصعدة من حياة المجتمع.
فأولاً: تصبح فئة من أبناء المجتمع ضمن هذا الاتجاه التعصبي عناصر معقدة، تنمو في نفوسهم نوازع الحقد والشر، وتتجه طاقاتهم نحو الهدم والتخريب، وكلما اتسعت رقعة الاتجاهات التعصبية، خسر المجتمع المزيد من أبنائه، الذين يتحولون إلى عناصر سلبية هدّامة، بدل أن يبنوا حياتهم ويخدموا مجتمعهم.
ثانياً: مع نمو الاتجاهات التعصبية يفقد المجتمع وحدته واستقراره، حيث من الطبيعي أن يصبح لكل اتجاه تعصبي ضد فئة من المجتمع صدى ورد فعل عند الفئة المستهدفة، يشكل حالة مضادة للدفاع عن الذات وحماية المصالح، فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع، وميدان إحتراب، بين فئاته المتمايزة عرقياً أو دينياً أو سياسياً. وبذلك تنهار وحدة المجتمع، ويتقوض أمنه واستقراره.
ثالثاً: تشوه الاتجاهات التعصبية سمعة الجهة التي تنتمي إليها، من عرق أو دين أو مجتمع أو وطن، فتضطرب علاقاتها مع الجهات الأخرى، وقد يتورط المجتمع بكامله في صراع ونزاع مع مجتمعات أخرى، لوجود اتجاه تعصبي في أوساطه.
الدين هل ينتج تعصباً؟
أن يتمسك الإنسان بدينه الذي اختاره بقناعة وإدراك، وأن يلتزم بتعاليمه وأحكامه، فذلك أمر مرغوب ومطلوب، وإذا أُعتبر ذلك تعصباً فهو من النوع الإيجابي، كما يقول الإمام علي : «فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور».[5]
وما نلحظه من بعض الجهات الغربية والمتأثرين بها، من إطلاق صفة التعصب بالمعنى السلبي، على مظاهر الالتزام الديني عند المسلمين، كتطبيق الشريعة الإسلامية، والأخذ بأحكام الدين كالحجاب واجتناب المحرمات، هذه النظرة تدخل ضمن إطار الحرب النفسية والإعلامية على الإسلام والمسلمين.
إن تمسك المجتمع بقيمه وأعرافه وتقاليده غير المسيئة للآخرين، ليس تعصباً سلبياً، بل هو نوع من الأصالة، والحفاظ على الهوية، وممارسة حق التعبير عن الذات.
لكن ما تعاني منه جميع الأديان هو بروز توجهات تعصبية سلبية في أوساط معتنقيها، ضد الآخرين، حيث تعتقد هذه التوجهات بأنها مكلفة من قبل الله تعالى بفرض ديانتها على الناس، وأنها مخولة بمعاقبة المخالفين لها، فهي تمتلك الحقيقة المطلقة، والآخرون في كفر وضلال، وعليهم الخضوع والإتباع، وإلاّ استحقوا الردع والتأديب.
وتمارس هذه التوجهات نزعاتها التعصبية ليس ضد أتباع الديانات الأخرى فقط، بل تمتد إلى داخل دائرة الدين نفسه، فهي لا تقبل بوجود الرأي الآخر، وتريد فرض فهمها للدين على جميع معتنقيه، دون أن تفسح المجال للمذاهب والاجتهادات الأخرى.
إنه يمكن القول بجزم، أن الدين في مفاهيمه وتعاليمه الواقعية، التي أوحى بها الله تعالى لأنبيائه، لا يمكن أن يسمح أو يجيز حالة من التعصب العدائي ضد أحد من أبناء البشر، إلا أن يكون معتدياً ظالماً.
فالبشر خلق الله وهو تعالى رحيم بعباده، وقد منحهم حرية الإرادة والاختيار، ولا يرضى أن يصادر أحد هذه الحرية من الناس، لذلك فحدود صلاحيات الرسل والأنبياء هي التذكير والتبليغ، ولا حق لهم في الفرض و الإكراه يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾[6] ، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.[7]
ومنح الله تعالى البشر حق الكرامة، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[8] فلا يمكن أن يسمح بالاعتداء على هذا الحق الممنوح من قبله تعالى.
إن المؤمنين بالله حقاً يجب أن تفيض قلوبهم بالمحبة للناس، والرفق بهم، والاحترام لحقوقهم وكرامتهم، فقد ورد في الحديث عن رسول الله : «الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله».[9]
وآيات القرآن الكريم كلها دعوة واضحة صريحة للدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾[10] ، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[11] ..
ومنهج الأنبياء في الدعوة إلى الله قائم على أساس مخاطبة العقل والوجدان، واستخدام أفضل أساليب الجذب والاستقطاب، بالكلمة الطيبة، والأخلاق الحسنة، والتعامل اللائق: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[12] .
فسلوكيات الحقد والازدراء، والإساءة للآخرين، تتناقض تماماً مع مفاهيم الدين وتعاليمه. وإذا كان المنظرون لهذه الاتجاهات التعصبية يستدلون ببعض النصوص الدينية، لتبرير توجهاتهم وممارساتهم، فإن الإشكال في فهمهم وقراءتهم لهذه النصوص، وفي التعامل معها منفصلة عن منظومة القيم والمفاهيم الإسلامية.
وقد تكون لبعضهم أغراض ونوازع سيئة يستغلون النصوص ويوظفونها لتبريرها وتمريرها، لكن قيم الدين ومبادئه الأساسية ترفض هذه التوجهات، فالله تعالى لا يقبل بالظلم والعدوان، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.﴾[13]
وما نلحظه من هذه الممارسات التعصبية، من قبل بعض الفئات المنتمية إلى الحالة الدينية الإسلامية، يشكل كارثة في تاريخ الإسلام والمسلمين المعاصر.
لقد غررت هذه التوجهات التعصبية بمجاميع من أبناء المسلمين، وخاصة الشباب، لتقذف بهم في أتون معارك خاسرة، داخلية وخارجية، انطلاقاً من تصورات قاتمة سوداء، ومشاعر سلبية بغيضة، تجاه مجتمعاتهم والعالم.
وأشعلت هذه التوجهات نار الفتنة الداخلية بين المسلمين، عبر إثارة النزاعات الطائفية المذهبية، وابتذال فتاوى التكفير واتهام الناس في أديانهم، ورميهم بالشرك والابتداع، لمجرد الاختلاف في الرأي والاجتهاد. ونتج عن ذلك ظهور جماعات عنف وإرهاب، تنتهك الحرمات، وتسفك الدماء، وتنشر الرعب والاضطراب في بلاد المسلمين.
كما وفرت هذه التوجهات التعصبية، أفضل الفرص لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين على مستوى العالم، ولارتباك علاقات الدول والمجتمعات الإسلامية بسائر الأمم والقوى الدولية.
ومؤلم جداً أن يقترن اسم الإسلام بالإرهاب على الصعيد العالمي، وتتخذ مختلف دول العالم إجراءات مشددة تجاه المؤسسات والأنشطة الإسلامية، وتجاه الرعايا المسلمين.
مواجهة التعصب:
لا يكاد يخلو زمن من أزمنة تاريخ الأمة من وجود اتجاهات تعصبية، منذ أن ظهرت فتنة الخوارج سنة 37هـ، لكن وجود هذه الاتجاهات كان في الغالب محدود الانتشار والتأثير.
أما في هذا العصر فقد أصبحت تياراً واسع الانتشار، عظيم التأثير، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، مما جعلها من أكبر التحديات في واقع الأمة.
لقد أسهمت عوامل مختلفة داخلية وخارجية في صنع هذه الظاهرة التعصبية، وفي تغذيتها وتنميتها، مما أتاح لها التجذر والتغلغل في كثير من البقاع والأوساط، ووفر لها مستوى هائلاً من القدرات والإمكانات.
ولا بد من تظافر الجهود الواعية، واستنفار القوى المخلصة، لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، التي تهدد مستقبل الإسلام والأمة، بما تسببه من انقسام وتمزق داخلي، ومن تقويض للأمن الاجتماعي، وتعويق للتنمية، وتأجيج لصراع الحضارات بين الإسلام وسائر الأمم.
إن المواجهة القمعية لا تكفي وحدها للتغلب على هذه الظاهرة الخطيرة، بل قد تزيدها في بعض الأحيان تصلباً وشدة، والمطلوب اعتماد برامج وخطط شاملة لمعالجة جذور الاتجاهات التعصبية، وللحد من قدرتها على التأثير والانتشار.
ولعلماء النفس والاجتماع، دراسات وأبحاث قيمة، في مجال معالجات حالات التعصب، ومواجهة الاتجاهات التعصبية، كما أن في تجارب الأمم المعاصرة ما يمكن الاستفادة منه على هذا الصعيد. فقد واجه الأمريكيون منذ النصف الأول للقرن العشرين، مشكلة الاتجاهات التعصبية العنصرية ضد الزنوج السود من الشعب الأمريكي، كما واجه الأوربيون اتجاهات النازية التعصبية.
وفي تعاليم ديننا وتراث حضارتنا كنوز من المعارف والتجارب التي تضيء لنا طريق الخلاص من هذه الفتن العمياء.
برامج التربية والتعليم
في مرحلة الطفولة وفي أحضان العائلة، ثم من خلال برامج التعليم، تتشكل الصورة الأساسية لشخصية الإنسان.
وطبقاً لما لاحظه الباحثون في علم النفس والاجتماع، فإن الأطفال في سن الخامسة وما قبلها، لا يستوعبون حالات التمييز فيما بينهم على أساس أي انتماء عرقي أو ديني أو طبقي، بل ينجذبون إلى بعضهم، ويشتركون في اللعب، دون وجود مشاعر تمييزية.
لكنهم في سنّ السادسة وما بعدها يتأثرون بأجواء محيطهم العائلي، في تكوين الانطباعات والمشاعر للفرز بين أقرانهم وأندادهم من الأطفال، على أساس إختلاف الانتماءات.
وفي مرحلة الشباب من سنّ الثانية عشر إلى السادسة عشر وما بعدها، يكون استعداد الأبناء أكثر للتعاطي مع حالات الفرز والتمييز، واتخاذ المواقف تجاه الآخرين. وتكون حالة الاندفاع والحماس، والعنفوان العاطفي في مرحلة الشباب، أرضية مساعدة للاستجابة للاتجاهات التعصبية. لذلك تهتم مختلف التيارات والتوجهات باستقطاب الشباب، للاستفادة من قوة حماسهم واندفاعهم في خدمة خططها وبرامجها.
وهنا يأتي دور التربية العائلية، والمناهج التعليمية، في توجيه مشاعر الأبناء، وترشيد توجهات الشباب، ليستقبلوا الحياة بروح منفتحة، ونفسية طيبة، غير ملوثة بالعقد والأحقاد.
ويظهر من دراسة حالات التعصب القائمة في مجتمعاتنا، أن التربية العائلية، وبعض المناهج التعليمية، تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في زرع بذور هذه الاتجاهات التعصبية، وتنميتها في نفوس الأبناء والطلاب.
إن الإمعان في تشويه صورة الآخر أمام الأبناء والطلاب، ووصفه وتعريفه بطريقة غير موضوعية، ثم التعبئة والتحريض ضده، بإثارة مشاعر الكراهية والعداء، والذي قد يصل إلى تجريده من كل قيمة وحق، كل ذلك يهيئ المتلقي (الابن/الطالب) للاستجابة للتوجهات التعصبية، والانخراط في صفوفها، والتفاعل مع ممارساتها العدائية.
ولم تسلم حتى مناهج الكليات والجامعات من هذا المطب الخطير، يقول باحث أكاديمي في مقال تحت عنوان التنمية الأكاديمية لاتجاهات التعصبية[14] : ((يسعى القائمون على التعليم بداخل الكليات إلى تنمية الاتجاه الواحدي بما يتضمنه من قيم سلبية تتجسد في الأنا، وجعل الآخر شرطاً للنجاح بالقضاء عليه أو إبعاده أو إقصائه، فتسود في المجتمع الاتجاهات العصبية))، ويضيف هذا الباحث: ((يظهر من الكتاب التدريسي المقرر نصاً الرغبة في تكوين القوالب النمطية للجماعات الأخرى المذهبية، ويلحظ في ذلك التكوين قيامه على صورة مشوشة أو مختزلة في شخصيات معينة، أو تلفيقها من جمع كثير قد لا يصدق على تلك الجماعة، أو ادراكات خاطئة)).
إن مكامن القوة في ديننا وعقيدتنا الإسلامية كبيرة وعظيمة، ولسنا بحاجة إلى الأساليب الملتوية لإقناع أبنائنا بصحة مبادئنا وأفضليتها، كما أن تعاليم الإسلام في التعاطي مع الآخرين، تنطلق من احترام إنسانيتهم، وإنصافهم، وإظهار الأخلاق الرفيعة لهم. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾.[15] ، ويقول تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.[16]
ومن الضرورة بمكان، إعادة النظر في أساليب التربية العائلية، ومناهج التعليم، لتنقيتها من كل ما يخالف قيم التسامح، وأخلاق التعامل الإنساني، من أجل توفير تربية سليمة، وتعليم صحيح، يؤهل أبنائنا للنجاح في تطوير قدراتهم، وخدمة أوطانهم، وتنمية مجتمعاتهم، وإعطاء صورة مشرقة عن دينهم أمام العالم.
العلاج المعرفي:
تنمو جذور التعصب في أرضية الجهل والانغلاق، حيث تتأسس القناعات، وتُتخذ المواقف، بناءً على تصورات خاطئة، وتقويمات نمطية، ونظرات ناقصة، وفي أجواء انفعالية تعبوية.
ويحرص قادة الاتجاهات التعصبية على إبقاء أتباعهم في ظروف كهفية انطوائية، بعيداً عن وسائل المعرفة الحرة، وتأثيرات الرأي الآخر، ويصنعون حولهم سياجاً من المحرمات والمحظورات، فالإطلاع على كتب الآخرين حرام لأنها كتب ضلال، ومخالطة المخالفين إثم باعتبارهم مبتدعة.
كما يجري ترويض عقولهم وأفكارهم، لمنعها من الحركة والنشاط خارج سياق ما يلقنونهم إياه، حيث لا يحق الاعتراض، ولا يصح النقاش، فذلك نوع من التمرد على الشرع، والتشكيك في النص المقدس.
وهكذا تصبح اجتهادات بعض أعلام السلف، وقيادات هذه التوجهات، سقفاً لا يمكن تجاوزه، ولا مجال للعقل في مناقشتها، أو التفكير في بدائل لها.
وبمقدار ما تتسع رقعة هذا الجهل والانغلاق، تتوفر أرضية نمو الاتجاهات التعصبية، وهنا يأتي دور المعرفة والثقافة، فانتشارها وتوفر مصادرها المتنوعة، يشكل وقاية وحصانة لأبناء المجتمع من تأثير اتجاهات التعصب، ويساعد في إنجاح جهود المعالجة والخلاص.
إن فرض الحدود والقيود في بعض مجتمعاتنا على النشاط المعرفي والثقافي، حيث لا تتاح الفرصة في وسائل الإعلام، وحركة الإنتاج والنشر إلا لاتجاه آحادي، تعتبر عاملاً مساعداً يصب في خدمة الموقف التعصبي.
وضمن سياق العلاج المعرفي لا بد من ضخ ثقافة إيجابية، تدعو إلى التسامح واحترام حقوق الإنسان، وتركز على المشترك الديني والوطني، لقد تجاهل الخطاب الديني المعاصر في معظمه، طرح كثير من القيم والمفاهيم والآداب الإسلامية، التي تنظم العلاقة مع الآخر، والتعامل معه على أساس إنساني قويم، يمثل الأصل في رؤية الدين للإنسان، واهتمامه بحفظ حقوقه وكرامته، وبالغ هذا الخطاب في التركيز على أحكام وضعها الإسلام للحالات الاستثنائية في التعامل مع الآخر.
فمثلاً: حين يكون الآخر معتدياً يجب جهاده ومواجهته، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾.[17] ، ويقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.[18]
أما في الحالة الطبيعية حينما لا يكون هناك عدوان فالعلاقة تأخذ مساراً إيجابياً قائماً على الإنصاف والإحسان يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.[19]
فالبر والقسط هو الأصل في العلاقة والتعامل مع الآخر، أما المواجهة والعداء فهي رد فعل على عدوان الآخر إذا حصل.
ومثال آخر يرتبط بأسلوب الدعوة والإرشاد فالأصل فيه هو الرفق، واستخدام اللغة المؤدبة مع الآخرين، يقول تعالى لنبييه موسى وهارون : ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[20] . ويقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.[21]
إننا في حاجة لبعث مفاهيم الإسلام حول أصول التعامل الإنساني، وضوابط العلاقات الاجتماعية بين بني البشر، ولنشر ثقافة حقوق الإنسان، وآداب التخاطب مع الناس.
مسؤولية القانون:
أولى مهام السلطة القانونية في أي بلد وضع التشريعات والقوانين لحماية حقوق الناس، ورعاية مصالحهم، وحماية الأمن الاجتماعي، وذلك لا يتحقق إلا بمنع وتجريم حالات الإساءة والاعتداء. والتحريض عليها أو الدفع باتجاهها.
إن فسح المجال للاتجاهات التعصبية، لكي تنشر أفكارها السلبية، وتوزع اتهاماتها الخاطئة، التي تثير نوازع الكراهية، وتكرس الانقسام والأحقاد بين الناس، لن يؤدي إلا إلى استحكام هذه الاتجاهات، ونموها في مختلف الأوساط. مما يهدد أمن الوطن واستقرار المجتمع.
ويمكننا أن نستنتج من الأحاديث الواردة عن رسول الله في التحذير من الإساءة لغير المسلمين من أهل الذمة، اهتمام الإسلام بالحد من أي توجه تعصبي سلبي. فقد جاء في سنن أبي داود أنه قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.»[22]
هكذا يعتبر نبي الإسلام أن الإساءة إلى مواطن غير مسلم، ولو بانتقاصه أي التقليل من شأنه، خصومة مع رسول الله تستوجب المحاسبة يوم القيامة.
«وحدث مرة في مجلس حفيد رسول الله الإمام جعفر الصادق أن رجلاً سب مجوسياً، فزجره الإمام جعفر ونهاه، فقال الرجل: إنه مجوسي نكح أخته! فأجابه الإمام: ((ذاك عندهم نكاح في دينهم)).»[23]
إن قوانين الدول الغربية، ومواثيق حقوق الإنسان، تمنع وتجرّم أي دعوات تحريضية على الكراهية، أو تشجيع على ممارسة الإرهاب والعنف ضد الآخرين، أو أي تصرف تمييزي.
ومجتمعاتنا الإسلامية أولى بمثل هذه التشريعات لوضع حد للخطابات التعبوية التحريضية المثيرة للفتن والانقسام، والمهددة لأمن المجتمع واستقراره، ولمنع أي ممارسات تمييزية بين المواطنين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ما فسد من أمورنا، ووحد كلمة المسلمين على الخير والتقوى إنك أرحم الراحمين.