الأئمة وحكومات عصورهم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
كيف تعاطى أئمة أهل البيت

هل أعلنوا ضدها الكفاح المسلح؟
أم اعتزلوا الساحة وتركوا الشأن العام منشغلين بالعبادة والعلم؟
أم كان لهم مستوى من التعاطي والتعامل مع الواقع السياسي القائم؟
الأئمة يرون أن إمامة الدين وقيادة الأمة منصب إلهي، لا تكون إلا بالتأهيل والتعيين من قبل الله تعالى، عبر رسوله المصطفى

كما أن أولئك الحاكمين من أمويين وعباسيين، لم يأتوا برضا الأمة واختيارها، وإنما عن طريق القوة والغلبة، وعبر التوارث العائلي للسلطة والحكم، ولم يسيروا في حكمهم وفق تعاليم الشرع ومناهج العدل.
لذلك من الطبيعي أن يكون موقف الأئمة مخالفاً لتلك الحكومات، والتي مارست عليهم مختلف ضغوطاتها لرفضهم السير في ركابها.
لكن مخالفة الأئمة لحكومات عصورهم، لم تدفعهم لتبني منهج العنف والكفاح المسلح، كما هو رأي فرقة الخوارج، ورأي الزيدية، لعدم صحة هذا المنهج وصلاحيته في نظر الأئمة، إلا كحالة إضطرارية يفرضها ظرف إستثنائي.
كما لم يختاروا لأنفسهم طريق العزلة والانكفاء، والإعراض عن قضايا الأمة، فسيرتهم وتاريخ حياتهم ينبض بالحركة والنشاط في مختلف المجالات، مما يعني حضورهم وتواجدهم في ساحة الأمة، وذلك يقتضي ـ بطبيعة الحال ـ مستوى من التعامل والتعاطي مع السلطات الحاكمة في عصورهم.
ضرورة التعاطي:
مع مخالفة الأئمة لسياسات تلك الحكومات، وتحفظاتهم على أشخاص الحاكمين،إلا أن التعاطي والتعامل مع الواقع القائم كان مفروضاً في بعض الأوقات، حيث يضطر الإمام إلى المجاراة والمداراة، وكان ضرورياً في غالب الأحيان، وذلك لحماية الوجود الاجتماعي التابع لأهل البيت

فالأئمة وشيعتهم كوجود اجتماعي له ضروراته المعيشية، ومصالحه العملية، التي تستلزم نوعاً من العلاقة والارتباط مع السلطة، لتوفير تلك الضرورات، وحماية المصالح، حيث تمثل السلطة قوة مركزية مهيمنة، يصعب تسيير كثير من أمور الناس مع إعتراضها.
وليس مطلوباً من شيعة أهل البيت أن يعيشوا الضيق والعسر والتهميش ما وجدوا لدفع ذلك سبيلاً، فمبادئ الشريعة قائمة على أساس رفع الحرج والعسر عن المكلفين، يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ سورة البقرة آية 185. ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ سورة الحـج آية 78.
وما أحكام التقية التي تعني الحفاظ على النفس والمال والعرض، ضمن تفاصيلها المذكورة في الفقه إلا شاهد على هذه الحقيقة.
من ناحية أخرى فإن الأئمة يهمهم حفظ مصالح الإسلام والأمة، وإذا كان قد انتزع منهم حقهم في القيادة والزعامة، فإن ذلك لا يعني عدم مبالاتهم بقضايا المصلحة العامة للدين والمجتمع الإسلامي.
لذلك كانوا لا يترددون في القيام بأي دور، وإبداء أي رأي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحفظ ما يمكن حفظه من مصالح المسلمين، ولارتباط الشؤون العامة بالسلطة، فإن الأئمة كانوا يتعاطون معها من أجل تصحيح بعض السياسات، وترشيد بعض المواقف، وتقديم الرأي الصائب، وتبيين المفاهيم والتشريعات الإسلامية.
بين الرسالية والعاطفة:
لا ينطلق الأئمة في مواقفهم وعلاقاتهم من موقع العاطفة والانفعال، وليست لهم مصالح ذاتية يتمحورون حولها، فأولويتهم خدمة الرسالة ومصلحة الأمة، لذلك فهم لا يعبأون بما يقع على ذواتهم من حيف وتجاوز، ولا يجعلون منه حاجزاً يمنع تعاطيهم مع خدمة المصالح العامة.
فإبعادهم عن موقع الخلافة، والعدوان على بعض حقوقهم المعنوية والمادية، لم يتحول إلى عقدة في نفوسهم، تدفعهم إلى المقاطعة والانسحاب، أو تجعلهم يتصرفون تجاه الحكام من وحي الحقد الشخصي وحب الانتقام.
«يقول الإمام علي

إن البعض يتصور خطأً أن الأئمة


فالإمام موسى بن جعفر الكاظم

وللإمام محمد الباقر

ومن أسماء أولاد الإمام علي بن الحسين زين العابدين

وفي أولاد الإمام الحسن بن علي

كما سمّى الإمام علي بن أبي طالب

وكانت هناك صلات تداخل عائلية عبر المصاهرة بين أُسرة أهل البيت

كما أن الخليفة الثاني عمر تزوج أم كلثوم بنت الإمام علي

وتزوج الإمام الحسين ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وهي سبط لأبي سفيان بن حرب بن أمية، وأمها ميمونة بنت أبي سفيان، لذلك فإن علي الأكبر إبن الإمام الحسين

ونريد أن نرعى هذا الرحم، فإن شئت آمناك؟)) فسخر منه علي بن الحسين وصاح به: (( لقرابة رسول الله أحق أن ترعى))[9] .
وأم الإمام جعفر الصادق هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر حفيدة الخليفة الأول أبي بكر. وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، لذلك ورد عن الإمام جعفر قوله: «ولقد ولدني أبو بكر مرتين»[10] .
كل هذه الأمور تؤكد أن علاقة الأئمة مع الخلفاء والحاكمين في عصورهم كانت تتجاوز الانفعالات الشخصية، مع وضوح موقف الأئمة المبدئي من تلك الحكومات، لكن أخلاقهم السامية، واهتمامهم بالمصلحة العامة، هي التي توجه تعاطيهم وتعاملهم مع الحاكمين.
منحى التواصل:
لموقف الأئمة المبدئي من تلك الحكومات فإنهم لا يقبلون أن يكونوا جزءاً منها، ولا أن يسبغوا عليها التأييد، ومع تبيين موقفهم هذا لأتباعهم، إلا أن التاريخ ينقل عنهم حالات من التواصل واللقاءات مع حكام زمانهم، بعضها بإرادة أولئك الحاكمين، والبعض الآخر بمبادرة من الأئمة، كما يظهر من سياق الروايات التاريخية، وتهدف هذه اللقاءات إلى تخفيف الضغوط على الأئمة وشيعتهم، وإلى تقديم التوجيه والنصح للحاكمين، وخدمة مصالح الرسالة.
ففي حياة الإمام الحسن بن علي


وفي حياة الإمام محمد الباقر


«وينقل المجلسي في البحار عن (قرب الإسناد) كتاباً أرسله الإمام موسى الكاظم

«كما أورد الصدوق في عيون أخبار الرضا وصفاً مفصلاً لزيارة قام بها الإمام موسى الكاظم للخليفة هارون الرشيد، عندما قدم إلى المدينة، عند ذهابه للحج، وكيف استقبله هارون وأجلّه وحادثه، ثم تفقد أمور عياله، وقدّم له مبلغاً من المال»[14] .
ولا تكاد تخلو حياة إمام من مثل هذه المشاهد.
وهي تعطي صورة عن بعد من أبعاد تعاطي الأئمة مع الحاكمين.
تقديم الرأي والنصيحة:
من الطبيعي أن يواجه الخلفاء والحكام وأن تواجه الأمة، مشاكل وتحديات، في تسيير أمور الدولة الإسلامية الناشئة، والمجتمع الإسلامي الجديد، فهناك إشكاليات فكرية، تنشأ من الاحتكاك بثقافات الأمم الأخرى، وهناك مسائل مستجدة في قضايا المجتمع والحياة، تحتاج إلى استنباط رؤية الإسلام وأحكامه فيها، كما أن بناء أجهزة الدولة، وتحديد مواقف السلطة، في الشؤون المختلفة الداخلية والخارجية، تطرح تساؤلات خطيرة.
وأئمة أهل البيت

ولابد أنهم يشعرون بالمسؤولية تجاه الدين والأمة، ويسعون جاهدين لسدّ الثغرات، ومعالجة المشاكل، ما وجدوا لذلك سبيلاً، وإذا لم يكونوا في موقع القيادة الفعلية، فإنهم لا يبخلون بتقديم رأيهم ومشورتهم للحاكمين، من أجل إصلاح الممكن، ودعم الكيان الإسلامي، في مواجهة التحديات.
وتتحدث المصادر التاريخية عن مواقف عديدة أبدى فيها الأئمة آراءهم للخلفاء والحاكمين، بطلب منهم، حيث يرجعون إلى الأئمة مستشيرين مستفتين، أو بمبادرة من الأئمة حينما تقتضي المصلحة العامة.
علي والخلفاء:
تحت هذا العنوان ألف أحد علماء العراق المعاصرين هو الشيخ نجم الدين العسكري كتاباً قيماً طبع سنة 1380هـ في 324 صفحة، جمع فيه المواقف والموارد التي بذل فيها الإمام رأيه للخلفاء، فيما كانوا يواجهونه من مشكلات وتحديات في الميادين المختلفة، معتمداً على المصادر الحديثية والتاريخية من السنة والشيعة.
وقد أحصى عشرة من تلك المواقف في عهد الخليفة الأول أبي بكر، منها ما نقله عن تاريخ اليعقوبي قال: وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله

«ومنها ما نقله عن كنز العمال أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق أنه وُجد رجل في بعض ضواحي العرب يُنكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر جمع لذلك ناساً من أصحاب رسول الله

«ومنها ما نقله عن الرياض النضرة بسنده عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى أبي بكر يسألونه عن شيء من صفات رسول الله

أما عن عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقد أثبت المؤلف إحدى وتسعين قضية استشار الخليفة فيها الإمام علياً، أو بادر الإمام إلى طرح رأيه حولها. وهي قضايا متنوعة في مجالات السياسة والحكم والاقتصاد ومجالات الفكر والتشريع.
كإستشارة الخليفة له في التصرف فيما يفضل من بيت مال المسلمين، وفي مقدار ما يأخذه الخليفة له ولعياله، وفي حكم بيع حلي الكعبة أو تقسيمه، وفي تعيين حد الشارب للخمر.
وذكر شور الإمام علي للخليفة عمر بأن يذهب بنفسه لفتح بيت المقدس.
وكان لعلي رأي في تقسيم سواد الكوفة أخذ به الخليفة عمر. وكذلك في تعيين إبتداء التاريخ الهجري حيث نقل عن كنز العمال من تاريخ البخاري ومن مستدرك الحاكم وعن تاريخ الخلفاء للسيوطي: أن أول من كتب التاريخ عمر لسنتين ونصف من خلافته بمشورة علي بن أبي طالب.
كما أشار علي على الخليفة عمر أن لا يذهب بنفسه لمحاربة الفرس خلافاً لرأي جمع من الأصحاب فأخذ الخليفة برأي علي.
وقد نقلت مختلف المصادر عن الخليفة عمر قوله: لولا علي لهلك عمر، وقوله: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: قضية ولا أبو حسن لها. وهي تكشف عن مدى الدعم والمساندة التي قدمها الإمام علي للدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر.
وعن عهد الخليفة عثمان نقل المؤلف عشر قضايا، راجع فيها الخليفة الثالث الإمام علياً. كما أن كتب التاريخ نقلت نصائح الإمام للخليفة ودفاعه عنه عند الفتنة التي حدثت في عهده وأدّت إلى مقتله.
وحتى معاوية بن أبي سفيان ومع تمرده على السلطة الشرعية للإمام علي، إلا أن الإمام لم يبخل عليه بالرأي، وخصوصاً في الإجابة على مسائل في التشريع، وفي دفع إشكالات غير المسلمين، وأثبت المؤلف سبع مواقف في هذا المجال.
وقد حصلت مثل هذه المواقف لسائر أئمة أهل البيت مع خلفاء زمانهم، نأمل أن يتصدى بعض المحققين لجمعها، كما فعل الشيخ نجم الدين العسكري بخصوص سيرة الإمام علي، لتبيين جهود الأئمة وسعيهم في تسديد مواقف الحاكمين، وخدمة مصلحة الدين والأمة.
رفد الدولة بالكوادر:
كان الأئمة يشجعون بعض تلامذتهم وأتباعهم من ذوي الكفاءة والإخلاص، أن يدخلوا في أجهزة الدولة، للدفاع عن مصالح الإسلام، وحقوق الناس، وما ورد عنهم من النهي عن الدخول في مؤسسات الحكومات، إنما يخص مجالات الظلم والعدوان، وكذلك بالنسبة لذوي النفوس الضعيفة، الذين يخشى عليهم من الذوبان والتأثر بالأجواء السلطوية.
لقد كان سلمان الفارسي والياً على المدائن من قبل الخليفة عمر.
وكذلك كان عمار بن ياسر أميراً على الكوفة من قبل الخليفة عمر، كما بعثه الخليفة عثمان مفتشاً إلى مصر للنظر في أوضاع الولاة.
وموسى بن نصير القائد العسكري المحنك صاحب الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب، والذي كان طارق بن زياد مولى له يعمل تحت إمرته وتوجيهه، هذا الرجل كان من خواص أتباع أهل البيت

وكان عبد الله بن النجاشي من أصحاب الإمام جعفر الصادق والياً على الأهواز من قبل المنصور العباسي.
أما علي بن يقطين فشأنه معروف حيث كان وزيراً لهارون الرشيد، وله مكانة كبيرة عند الإمام موسى الكاظم، وقد رغب في ترك منصبه لكن الإمام أصر عليه أن يبقى فيه، وقال له: «لا تفعل فإن لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزاً، وعسى الله أن يجبر بك كسيراً، أو يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه»[17] .
وكذلك داود بن زربي الذي قال عنه الشيخ المفيد: أنه من خاصة الإمام الكاظم وثقاته، ومن أهل الورع والعلم والفقه، وتشير كتب الرجال إلى أن له خاصية بالخليفة هارون الرشيد، وأن الإمام الكاظم كان حريصاً على بقاء هذه العلاقة وحمايتها.
إلى أسماء أخرى عديدة من تلامذة الأئمة وأصحابهم في مختلف العهود كانوا يتبؤون مواقع في أجهزة السلطة والحكم، أو لهم علاقة طيبة مع الحاكمين.
نحو دراسة موضوعية:
غالباً ما تطرح سيرة الأئمة

وهناك من يصوّر حياة الأئمة وكأنها عالم من المآسي والظلامات والاضطهاد، لا وجود فيه لأي إنجاز أو مشاركة إيجابية، حيث تتلخص حياة كل إمام في معاناته والمصائب التي حلت به.
وقد يطرح البعض حياة الأئمة في المنحى العلمي والعبادي وكأنهم لا شأن لهم في السياسة والثورة، ولا إهتمام لهم بالقضايا العامة.
إن هذه الطروحات الآحادية لا تقدم صورة موضوعية شاملة لحقيقة سيرة الأئمة ومواقفهم، وقد يصبح كل واحد من هذه الطروحات مبرراً لتوجه حادّ لا يأخذ بعين الاعتبار سائر الجوانب والأبعاد.
إن تسليط الأضواء على العلاقة والتعامل الإيجابي الذي كان بين الأئمة وحكومات عصورهم، لا يعني التجاهل لموقف الأئمة المبدئي تجاه تلك الحكومات، ولا يعني التنكر للجوانب الأخرى التي تتمثل في مواقف المخالفة والاعتراض من قبل الأئمة، أو الإساءة والاعتداء الواقع عليهم من بعض أولئك الحاكمين.
لكن المقصود من بحث هذا الموضوع رسم الجانب الآخر من الصورة، والذي قد يكون مهملاً أو متجاهلاً، لتكون الصورة موضوعية كاملة، تستفيد منها الأجيال المعاصرة بما يساعد على تنمية الوعي، وتطوير الممارسة السياسية الاجتماعية.
وصلى الله على نبيه المصطفى وآله الهداة الميامين.