مقوّمات السلم الاجتماعي
لا يناقش أحد في أهمية السلم الاجتماعي وضرورته، ولو أُجري استبيان أو استفتاء عام في أي مجتمع بشري، لما صوّت أحد لصالح الاحتراب والنزاع الداخلي.
لكن السلم الاجتماعي له مقومات وأركان لا يتحقق إلا بتوفرها، وللفتن والصراعات أسباب وعوامل لا تُدرأ إلا بتجنبها.
فالمسألة ليست في حدود الرغبة والشعار، أو في وجود القناعة النظرية، بل ترتبط بواقع حياة المجتمع، وشكل العلاقات الحاكمة بين قواه وفئاته.
ولعل من أهم مقومات السلم الاجتماعي الأمور التالية:
السلطة والنظام:
حيث لا يستغني أي مجتمع بشري عن سلطة حاكمة ونظام سائد، يتحمل إدارة شؤون المجتمع، وتعمل القوى المختلفة تحت سقف هيبته. وإلا كان البديل هو الفوضى، وتصارع القوى والإرادات.
جاء في لسان العرب: قوم فَوضَى: مختلطون، وقيل: هم الذين لا أمير لهم ولا من يجمعهم، قال الأفَْوَهُ الأَوْدِي:
لا يَصُلُح القوم فَوضَى لا سَراة لهم *** ولا سراة إذا جُهالهم سادوا[1]
وأورد الآمدي التميمي في غرر الحكم ودرر الكلم عن الإمام علي

أي إذا كان أمام المجتمع خياران: حاكم ظالم أو تمزق وحرب أهلية، بالطبع كلاهما خيار سيئ لكن الأول أقل ضرراً من الثاني.
ولما سمع الإمام علي

ونقل هذا النص عن الإمام علي المتقي الهندي في كنز العمال ص751 من الجزء 5 حديث رقم 14286 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وأورده الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في الكتاب المصنف ص315 ج 15 حديث رقم 19753.
لقد كان من سمات حياة العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام، غياب السلطة المركزية، حيث كانوا يعيشون وضعاً قبلياً تسوده النزاعات، وتكثر فيه الحروب، ولا يخضع لنظام أو قانون، إلا بعض التقاليد والأعراف التي لا تصمد أمام نوازع الشر، وغرور القوة.
وبسبب ذلك لم يكن لهم كيان ولا شأن بين الأمم، وحينما جاء الإسلام استوعب تلك القبائل المتناحرة، ووحدها تحت لوائه، وصنع منها أمة متماسكة لم تلبث أن أخذت بأزمة قيادة العالم.
يقول تعالى مذكراً بهذا الإنجاز الإيماني العظيم: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [4] .
ولمواجهة آثار ورواسب حياة الجاهلية السابقة للإسلام، أكدّت تعاليم الدين وتشريعاته على أهمية النظام والقيادة في المجتمع، وأن لا يعيش الإنسان خارج هذا الإطار. جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله

وورد مثله في أصول الكافي عن الفضيل بن يسار قال: ابتدأنا أبو عبد الله جعفر الصادق



ولعل في الحديث إشارة إلى أن عدم وجود نظام حكم وسلطة مركزية، هو سمة من سمات المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، فمن تبنّى هذا التوجه فهو يشكل امتداداً للوضع الجاهلي.
من هنا اتفق علماء المسلمين إلا من شذّ منهم على أن الإمامة في الأمة أمر واجب، وهو مذهب السنة جميعاً، ومذهب الشيعة جميعاً، ومذهب المرجئة جميعاً، ومذهب الكثرة الغالبة من الخوارج، والكثرة الغالبة من المعتزلة.. وإن اختلفوا في مصدر الوجوب هل هو العقل أو الشرع؟
قال الماوردي (توفي 450هـ) في الأحكام السلطانية:
واختلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟ فقالت طائفة: وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين... وقالت طائفة أخرى: بل وجبت بالشرع دون العقل، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية..[7]
والمشهور عند أهل السنة أن وجوب الإمامة بالشرع دون العقل، بينما يرى الشيعة وجوبها بحكم العقل.
بل يربي الإسلام أبناءه على النظام حتى في تجمعاتهم الصغيرة فقد جاء في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله

وعلى الصعيد العائلي فقد جعل الإسلام قيادة العائلة بيد الزوج تأكيداً لمنهجيته في النظام والقيادة.
ومن واقع التجربة رأينا كيف عانت الشعوب التي افتقدت سلطة الدولة، وأصبحت نهباً لمطامع المليشيات والأحزاب المتصارعة على السلطة والحكم، كما حدث في لبنان والصومال وأفغانستان.
فلا يمكن الحديث عن سلم اجتماعي في حال غياب الدولة بل هو الفتنة والاضطراب والدمار.
العدل والمساواة:
المجتمع الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، وينال كل ذي حق حقه، ولا تمييز فيه لفئة على أخرى، هذا المجتمع تقل فيه دوافع العدوان، وأسباب الخصومة والنزاع، أما إذا ضعف سلطان العدالة، وحدثت ممارسات الظلم والجور، وعانى البعض من الحرمان والتمييز، وأتيحت الفرصة لاستقواء طرف على آخر بغير حق.
فهنا لا يمكن التوفر على سلم اجتماعي، وحتى لو بدت أمور المجتمع هادئة مستقرة، فإنه استقرار كاذب، وهدوء زائف، لا يلبث أن ينكشف عن فتن واضطرابات مدمرة. من هنا جاء تأكيد الإسلام على ضرورة العدل وأهميته في حياة البشر، واعتبره هدفاً أساساً لبعثة الأنبياء وإنزال الشرائع الإلهية. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[9] ، والقسط هو العدل. ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾[10] .
ويصوّر لنا الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه تحت رقم 2587 مدى اهتمام الرسول

يقول الحديث الذي رواه حصين عن عامر قال: سمعت النُعمَان بن بشير (رضي اللَّه عنه) وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسـول الله







والمجتمع هو عائلة كبيرة، وعدم المساواة بين أبنائه، وتمييز بعضهم على البعض الآخر، جور يزرع الضغائن والأحقاد، ويضعف حالة المودة والإخاء. فالطرف الذي يحظى بالامتيازات يشعر بالحصانة والعلو تجاه سائر الأطراف، مما قد يدفعه للطغيان والعدوان، كما أن الطرف الذي يقع عليه التمييز يشعر بالغبن والاضطهاد، فيضعف ولاؤه لمجتمعه ووطنه، ويتحيّن الفرصة للإنتقام وإعادة الاعتبار، وقد يفتش عن جهات داخلية أو خارجية يستقوي بها، مما يخلق ثغرة في أمن المجتمع والوطن، تنفذ منها مؤامرات الأعداء ودسائسهم.
يقول الإمام علي

وهكذا فإن العدل يقي المجتمع أخطار التمزق والفتن، وجميل جداً ما رواه المجلسي في بحار الأنوار في الجزء 74 والصفحة 165 منسوباً إلى رسول الله

3.ضمان الحقوق والمصالح المشروعة لفئات المجتمع:
فإذا كان المجتمع يعيش نوعًا من التنوع والتعدد، في انتماءاته العرقية أو الدينية أو المذهبية، أو ما شاكل ذلك من التصنيفات، فيجب أن يشعر الجميع وخاصة الأقليات بضمان حقوقها، ومصالحها المشروعة، في ظل النظام والقانون ومن خلال التعامل الاجتماعي.
وهذا وإن كان متفرّعاً على موضوع العدالة والمساواة، لكن أهميته تقتضي التركيز عليه. فعلماء الاجتماع يصنفون المجتمعات من حيث درجة تنوعها وانسجامها إلى ثلاثة أصناف:
1- المجتمع المتجانس:
ولا يوجد في العالم مجتمع واحد متجانس كليًا وبشكل مطلق وإنما يقصدون به التجانس النسبي وليس المطلق، وهو الذي يتكون من جماعة واحدة منصهرة اجتماعيًا وثقافيًا، فتتوحد الهوية الخاصة والعامة في هوية واحدة جامعة وتسود في هذا المجتمع عملية الانصهار.
2-المجتمع الفسيفسائي:
وهو الذي يتألف من عدة جماعات تغلب هويتها الخاصة على الهوية العامة، وتتصف العلاقات فيما بينها بالتراوح بين عمليتي التعايش والنـزاع وعدم الاتفاق على الأسس.
3- المجتمع التعددي:
وهو الذي يتشكل من عدة جماعات تحتفظ بهويتها الخاصة ولكنها تمكنت من إيجاد صيغة تؤالف بين الهوية الخاصة والهوية العامة، لكنها قد تتعرض لهزات بسبب تدخل خارجي أو تسلط لجهة داخلية على حساب أخرى.
فمع وجود التنوع والتعدد في المجتمع، لا بد من ضمان الحقوق والمصالح المشروعة للجميع، ليعيش الجميع في إطار المصلحة المشتركة، وفي بوتقة الوطن الواحد.
ومبادئ الإسلام وشرائعه العظيمة تقدم النموذج الأرقى للتعايش بين الناس على اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم، على أساس العدل والمساواة، وضمان الحقوق والمصالح المشروعة للجميع.
ففي السنة الأولى لتأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وضع الرسول


وقد تضمنت هذه الصحيفة الاعتراف بمواطنة غير المسلمين وعضويتهم في تكوين المجتمع الجديد، وحددت الواجبات التي عليهم والحقوق التي لهم، شأنهم في ذلك شأن المواطنين المسلمين.
تقول إحدى فقرات تلك الصحيفة التي أملاها الرسول

«وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم.....» وفي فقرة أخرى: «وإن على اليهود نفقتهم, وعلى المسلمين نفقتهم, وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة, وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم, وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه, وإن النصر للمظلوم, وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين, وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» ويمكن مراجعتها في السيرة النبوية لابن هشام.
وشبيه لها ما كتبه الرسول


وفي حديث آخر: « من ظلم معاهدا, أو انتقصه حقا, أو كلفه فوق طاقته, أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه, فأنا حجيجه يوم القيامة » (رواه أبو داوود و البيهقي).
هكذا يرعى الإسلام حقوق و مصالح من ينتمي إلى دين آخر و يعيش في كنف المجتمع الإسلامي.
أما عن التعامل مع فئة من المسلمين لها مذهب أو مسلك مخالف, ففي سيرة الإمام علي


وجاء تحت رقم (19776) عن كثير بن نمر قال: بينا أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله فأشار عليهم بيده: «اجلسوا، نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم، إلا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا، لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا. ثم أخذ في خطبته.»
وجاء تحت رقم (19788) عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي، فسئل عن أهل النهر أهم مشركون؟ قال: «من الشرك فروا». قيل فمنافقون هم؟ قال: «إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً». قيل له: فما هم؟ قال:« قوم بغوا علينا.»
وينقل الإمام الشيرازي أنه:
لما ظهر الخوارج وأخذوا ينتقصون الإمام ويكفرونه ويقولون: لا حكم إلا لله، لم يتعرّض لهم الإمام بسوء، بل كان (كما في رواية) يجري عليهم عطياتهم من بيت المال. وقد أراد أصحاب الإمام قتال هؤلاء بادئ الأمر، ولكن الإمام أبى عليهم ذلك، وأنكره وقال: إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن أفسدوا قاتلناهم.
فقولـه: إن تكلموا حاججناهم، يعني أن الأمر بحاجة إلى المحاججة، فما دام لا عدوان على نحو الإجرام منهم فهم وشأنهم.[13]
هكذا يضمن الإمام علي وهو الحاكم الشرعي لفئة مخالفة فكرياً، ومناوئة سياسياً، حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالفرصة متاحة أمامهم لعرض آرائهم، والمساجد مفتوحة لهم كسائر المسلمين، وحصتهم من عطاء بيت المال مضمونة.
وسياسة علي

كما تكشف هذه المواقف عن عظمة نفس الإمام علي

بهذه المقومات يتجذّر السلم في المجتمع، وتوصد أبواب الفتن والنزاع، وإذا حصلت بادرة من بوادر الشر أمكن تطويقها ومحاصرتها، وهبّ الجميع لمقاومتها.