احترام الناس من أهم العبادات
للدين مهمتان رئيسيتان في حياة الانسان:
الاولى: تنظيم علاقة الانسان مع ربه، بأن يتعرف على خالقه، ويؤمن به وبوحدانيته، ويلتزم بعبادته والخضوع له. ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ ﴾[1] .
الثانية: تنظيم علاقة الانسان مع أبناء جنسه، بحيث تكون قائمة على العدل، والاحترام المتبادل للحقوق ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾[2] .
فعلاقة الانسان مع الناس قضية جوهرية من صميم الدين، وهي ليست متروكة لمزاج الانسان واهوائه، فلست حراً في ان تتعامل مع الآخرين كما تحب وتشاء، بل انت مقيد بضوابط شرعية تلزمك بمراعاة حقوق الآخرين، واحترام مصالحهم المادية والمعنوية.
واذا آمن الانسان بربه والتزم بأداء الواجبات العبادية لله من صلاة وصوم وحج وما شابه، فإن ذلك لا يحقق له حالة التدين، ولا يوفر فيه مصداقية العبودية لله تعالى، ما لم يقترن بحسن علاقته مع الناس، وادائه لحقوقهم.
فكما امرك الله تعالى بالصلاة والصيام وسائر العبادات، امرك ايضاً بالعدل والاحسان، والتعامل الصحيح مع المحيط الاجتماعي، ولا يصح لك ان تأخذ بجزء وتترك الجزء الآخر.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾[3] .
ثم ان الايمان بالله، واداء الشعائر والعبادات، ثمرتهما ونتيجتهما يجب ان تظهر وتنعكس على سلوك الانسان وتعامله مع الناس، والاّ فما جدوى ذلك الايمان الذي لا يردع عن الظلم؟ وما قيمة تلك العبادة التي لا تدفع الى الخير؟
في رؤية الدين لا شيء أسوأ من ان يعتدي الانسان على حقوق الآخرين، او يسيء اليهم مادياً أو معنوياً، ان الله تعالى قد يغفر للانسان اذا ما قصّر أو أخطأ تجاه خالقه شرط التوحيد ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[4] . ولكنه تعالى لا يتساهل ولا يغفر للانسان تقصيره وخطأه تجاه الآخرين.
ويصنّف الامام علي


«ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فاما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله.. وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، واما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص هناك شديد»[5] .
ويقول

ان ايذاء أي انسان بجرح مشاعره أو اهانة كرامته، أو تشويه سمعته، يعتبر ظلماً لا يترك، بل يحاسب عليه الانسان يوم القيامة حساباً عسيرا.
والاساءة الى الغير قد تكون بكلمة أو تكون بحركة وتصرف معين، فقد ورد أن رجلاً ثرياً جاء الى رسول الله



فقال الرسول

قال: لا.
قال

قال: لا.
قال

قال: لا.
قال

فاعترف الرجل الثري بخطئه واعتذر من الفقير باذلاً له نصف امواله، لكن الفقير رفض ان يأخذ منه شيئاً قائلاً: اخاف ان يدخلني ما دخلك[6] .
كان سعــد بن معاذ صحابياً جليلاً مجاهداً في سبيل الله حتى اصيب بجرح خطير في المعركة واستشهد بعد فترة من المعاناة والالم، وقد شهد الرسول

«اللهم ان سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، وقضى الذي عليه، فتقّبل روحه بخير ما تقبلت به روحاً» وعند وفاته شارك الرسول في تشييعه ودفنه، ومع هذه المكانة والمنزلة الا أنه اصابته ضمّة - أي عصرة في قبره - على حد قول رسول الله

فإيمان سعد وجهاده وصحبته للرسول

فلنكن حذرين جداً في تعاملنا مع الآخرين، وحتى عوائلنا وابنائنا، فاننا محاسبون امام الله تعالى عن تصرفاتنا مع الناس، ولن تغني عنا صلاتنا ولا عباداتنا اذا ما قصرنا او تجاوزنا على حقوق الآخرين المادية أو المعنوية.
يبالغ بعض المتدينين في ادائهم لبعض الشعائر والاعمال العبادية، بطريقة تسبب ايذاءً ومزاحمة للأخرين، ويتصورون انهم بتلك المبالغة ينالون الاجر والثواب من الله تعالى، وفي الحقيقة إنهم يحمّلون انفسهم الوزر والاثم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
فمثلاً: ما يحدث في الحج من محاولة بعض الحجيج الاقتراب من الكعبة في الطواف او استلام الحجر الاسود، بطريقة المغالبة والمزاحمة، مما يؤدي الى الاضرار بالنفس وبالآخرين، وايذاء الغير حرام بينما تقبيل الحجر الاسود مستحب وكذلك الاقتراب من الكعبة، وهل يصح اداء المستحب بارتكاب المحّرم؟
وقد نجد بعض الناس يحرصون على ان يكونوا في الصفوف الاولى لصلاة الجماعة، وذلك مستحب بلا ريب، وفيه اجر كبير لكنه اذا استلزم ايذاء الآخرين ومدافعتهم، وجرح مشاعرهم، فانه يتحول الى سبب للاثم والوزر.
وضمن هذا السياق ما تعارف عليه البعض من رفع صوت المكبرات والسّماعات (الميكرفونات) اثناء تلاوة القرآن، أو قراءة الادعية، ومجالس العزاء، في اوقات راحة الناس المجاورين للمسجد أو الحسينية أو المنزل مع عدم الحاجة الى ذلك فالمستمعون عدد محدود داخل المكان، وصوت المكبّرة يخترق المسافات، مما يزاحم راحة المجاورين، وقد يكون فيها مرضى أو اطفال أوما اشبه، أو أن صوت المكبّرة يزاحم مجلساً آخر ومسجداً آخر، فتتعارض الاصوات وتتداخل مما يعطي انطباعاً سلبياً عن الحالة الدينية، واغلب المساجد في بلادنا يستخدمون مكبّرة الصوت اثناء صلاة الجماعة، وبشكل مزعج، رغم تحذير وزارة الاوقاف من ذلك، حتى اصبح البعض من الناس يهربون من مجاورة المساجد، بسبب ذلك الازعاج.
ان مثل هذه الممارسات خطأ، يكسب اصحابها الاثم، لانه لا يطاع الله من حيث يعصى، ولا يرضى الله تعالى بايذاء الآخرين وازعاجهم.
يهتم الإنسان المسلم بالتزاماته العبادية مع الله كالصلاة والصوم والحج... ويحرص على تأديتها حسب الأحكام الشرعية، متقرباً بذلك إلى الله تعالى. وما ينبغي التأكيد عليه هو أن احترام مشاعر الناس، ورعاية حقوقهم المعنوية، لا يقل أهمية عند الله تعالى من تلك العبادات والشعائر الدينية، بل يظهر من بعض النصوص والأحكام أولوية حقوق الناس. كما ورد عن الإمام علي

ونذكر بعض الموارد التي يتبين منها موقعية احترام مشاعر الناس في الإطار العبادي.
1- إن المبادرة للصلاة إذا حان وقتها أمر مطلوب من الناحية الشرعية وإذا أقيمت الصلاة للجماعة تكون أكثر تأكيداً، ورسول الله


2- ويصلي رسول الله


3- ويسمع رسول الله


وفي رواية عنه

وعن أنس بن مالك: وإن كان

4- عن أبان بن تغلب قال: كنت مع أبي عبد الله جعفر الصادق


قلت: رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته.
قال:« يا أبان اقطع طوافك، وانطلق معه في حاجته فاقضها له.»
فقلت: إني لم أتم طوافي.
قال:« إحص ما طفت وانطلق معه في حاجته.»
فقلت: وإن كان طواف فريضة؟
فقال: «نعم وإن كان طواف فريضة.»
إلى أن قال

فقلت له: جعلت فداك فريضة أم نافلة؟
فقال:« يا أبان إنما يسأل الله العباد عن الفرائض لا عن النوافل»[14] .
5- وللصوم المستحب فضل عظيم وأجر كبير، لكنك إذا دعيت للطعام من قبل أحد اخوانك المسلمين، فإن استجابتك له أرجح عند الله تعالى من اكمال الصيام.
ورد عن الإمام محمد الباقر

وفي حديث آخر: «من دخل على أخيه وهو صائم تطوعاً فأفطر كان له أجران: أجر لنيته لصيامه، وأجر لإدخال السرور عليه»[16] .
إن هذه الأحكام والتوجيهات الدينية تريد تربية الإنسان المسلم على احترام مشاعر الآخرين، وحفظ كرامتهم ومكانتهم، وأن ذلك مورد لرضى الله سبحانه، ومخالفته توجب سخطه، والمتدين الذي يهتم بضبط أحكام وضوئه وصلاته، عليه أن يكون أكثر اهتماماً بضبط أسلوب تعامله وعلاقته مع الناس. فقد قيل لرسول الله


إن سيرة الرسول

كان من صفاته

وكان يتفقد أصحابه، ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه.
ومن جالسه لحاجة صبر له حتى يكون هو المنصرف عنه.
ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول. وكان

وقد روى بعض خدمه أنه قال: خدمت رسول الله

وكان من عادته أنه يجيب الناس الذين ينادونه بأحسن جواب، فكان إذا ناداه أحد قال له: «لبيك».
وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله

وروى بعض أصحابه أنه

وكان يتعاون مع أصحابه، كأنه احدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير. فقد كان في سفر فأمر باصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال


وكان إذا استمع إلى أحد لا ينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه.
وكان إذا أخذ بيده أحد، لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنسان يده.
وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.
ويكرم من دخل عليه، وربما بسط إليه ثوبه، ويؤثره بفراشه الذي تحته، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه.
وقد روى سلمان الفارسي رضي الله عنه: دخلت على رسول الله

وإذا كان يصلي وجاء إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته، ثم يعود إلى صلاته.
وكان يؤتى بالصبي الصغير فيدعو له بالبركة، أو يسميه، أو يؤذن في أذنه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، وربما بال الصبي عليه فيصيح عليه بعض من رآه حين بال، فيقول

وكان إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال: «نعم، لكن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له»[18] .
وخرج رسول الله

وجاء إعرابي فبال في جانب من المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي


وفي رواية قام إعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي

ومرّ

واستقصاء أخلاقيات رسول الله
