العمل: عز وقوة
إنما خلق الله تعالى الإنسان في هذه الحياة، ليكدح ويعمل، فهو مزود بطاقات وقدرات لا بد من تفعيلها بالسعي والحركة، وإلا كان وجودها عبثاً ولغواً، كما أن الفاعلية والنشاط هو الطريق إلى استثارة قدرات الإنسان وبلورة مواهبه، ومن دون ذلك تبقى كامنة معرضة للضمور والتلاشي.
وكلما زاد سعي الإنسان، واشتدت حركته، ظهرت كفاءاته، وأنصقلت شخصيته، من خلال كدحه وعمله، فيجب أن يكون في حالة سعي وكدح دائم، ما دام على قيد الحياة، يقول تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ ﴾[1] .
ومطلوب من الإنسان إعمار الكون، استثمار خيراته ونعمه، فالأفلاك والمجرات التي تسبح في الفضاء، والخزائن الكامنة في أعماق الأرض، والثروات التي تملأ قاع البحر، وكل هذا الوجود الكوني العظيم مسخر لمصلحة الإنسان، ومهيأ لكي يمارس في ربوعه الإنسان دور القيادة والسيادة، كخليفة من قبل الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[2] .
ويقول تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَـلاَئِفَ الأَرْض ﴾[3] .
وذلك يستلزم إعمال الفكر، وبذل الجهد، وتكثيف العمل والنشاط، لتحمل مسؤولية الخلافة، والقيام بدور الإعمار والقيادة، لذا نجد بعض الأحاديث تحث على العمل لإعمار الأرض، وبعث الحياة في الوجود، كالحديث المروي عن رسول الله :«ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة»[4] .
وفي حديث آخر عنه : «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»[5] .
والعمل هو مضمار التنافس بين بني البشر، لتحديد مكانتهم في الدنيا والآخرة، فالقرب من الله تعالى، والفوز بجنته، ونيل رضاه، لا يتحقق إلا بالعمل الصالح، والتقدم في الدنيا، وإحراز المكاسب أيضاً لا يتأتى إلاّ عن طريق العمل.
فالعمل هو الذي يصنع واقع الإنسان في الدنيا والآخرة ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظـْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[6] ، ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[7] .
بل إن مهمة الحياة إظهار كفاءة الإنسان وجدارته، عن طريق التنافس العملي، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾[8] .
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[9] .
حينما يعمل الإنسان ويتحرك، يبدو له وكأنه صرف من جهده وطاقته، واستهلك من قوته وراحته، وفي الحقيقة فإنه في ذات الوقت الذي أعطى فيه يكون قد أخذ أكثر مما أعطى. ذلك أن العمل والحركة مصدر قوة للنفس والجسم.
فعضلات الإنسان، وأجهزة جسمه، لا تتوفر على القوة بالخمول والاسترخاء، بل إن ذلك يصيب الجسم بالترهل، ويعرضه لمختلف الأمراض، وملحوظ في هذا العصر، كيف أن مجموعة من الأمراض المنتشرة، كالسمنة والكولسترول والسكر والروماتيزم وغيرها، مما يطلق عليه أمراض العصر، تنشأ من قلة حركة الإنسان وضعف نشاطه.
ومن الناحية النفسية: فإن العمل يملأ الفراغ النفسي، والذي يسبب الكآبة والضجر، ويرفع معنويات الإنسان، عبر شعوره بأن له دوراً وإنتاجاً، كما يجعله أكثر تفاعلاً مع الطبيعة والحياة والمحيط الاجتماعي.
يقول الإمام علي بن أبي طالب

وعن التأثير النفسي للعمل يقول

وباعتبار ما ينتجه العمل من مكاسب للإنسان فإن تراكمها يعني المزيد من القوة في واقع الإنسان. وقد كان فلاسفة العصور الوسطى يقولون: إن للعمل مهمة مزدوجة لأنه لا بد للعامل من أن يحقق شيئاً من جهة، كما انه لابد له من أن يصنع ذاته حين يعمل من جهة أخرى، وحين تحدث موينير (Mounier) زعيم النزعة الشخصانية في فرنسا، عن أبعاد الفعل الأربعة، فإنه كان يعني أن الفعل يعدل من الواقع الخارجي ويصنع ذواتنا، ويقربنا من الناس، ويثري عالم القيم.
الأنبياء والأئمة عليهم السلام كانوا يفهمون الدين عملاً ونشاطاً، ويمارسون التدين كمنهج للكدح والحركة في هذه الحياة، وهم القدوات الذين يجب أن يتأسى بهم الإنسان المسلم.
كانوا يعرفون قدرهم وفضلهم عند الله تعالى، وكانت نفوسهم ممتلئة بمعرفته والاعتقاد به، لكنهم لم يتكلوا على ذلك ولم يكتفوا به عن بذل الجهد وتحمل عناء العمل.
فقد روي عن رسول الله

ورد أنه

وحينما يكون النبي

قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة[14] .
وفي رواية أخرى عن أم المؤمنين عائشة (يخصف نعله ويخيط ثوبه ويرقع دلوه)[15] .
وقد روت خديجة أم المؤمنين عليها السلام: عن رسول الله

والإمام علي بن أبي طالب


فقد ورد أنه

ويقول عنه حفيده الإمام محمد الباقر


ويتحدث الإمام جعفر الصادق



وكان أمير المؤمنين علي

وكان أمير المؤمنين علي

لذا لم يكن الإمام علي


وتأكيداً لذلك يقول الإمام الصادق


وكان الإمام علي

وإذا كان عادة الرجال المرموقين أن يريحوا أنفسهم من عناء العمل في الظروف القاسية، فإن الواعين المؤمنين منهم لا يتركون الجد والكدح حتى مع صعوبة الظروف.
يقول محمد بن المنكدر: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني ابو جعفر (الباقر) محمد بن علي بن الحسين

فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا!! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال:« لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله عز وجل»، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني[25] .
هكذا يقدم لنا الإمام الباقر

وهناك قصة شبيهة تنقل عن ولده الإمام جعفر الصادق



والعمل عند الأولياء ليس في حدود الحاجة، بل ضمن الإمكان والقدرة، فما دمت قادراً على العمل فعليك أن تعمل، وإن لم تكن محتاجاً لنتاج العمل، أو حتى وإن كنت لا تدرك نتاجه.
فعن أنس أن النبي

ومعلوم أن تحوّل الفسيلة إلى نخلة مثمرة يحتاج إلى سنوات، لكن الرسول

وروى ابن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً.
فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها؟ فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي[28] .
وفي هذا السياق هناك رواية جميلة عن الإمام جعفر الصادق


ويشير الإمام الصادق

وفي رواية أخرى سأل الإمام جعفر الصادق

وعن الإمام الصادق

إن من يعزف عن العمل وتحصيل الإمكانات فإنه يبرهن على افتقاده لصفة الخير في نفسه، يقول الإمام الصادق
