في استقبال شهر رمضان

 

يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ. [سورة البقرة، الآية: 185].

يتفاوت تفاعل الناس مع الأشياء والقضايا بتفاوت إدراكهم لقيمتها وأهميتها، فقد يأتي شخص مهم ذو مكانة وفضل، فيحترمه من يعرفه، ولا يعبأ به من يجهله.

هنا يأتي دور المعرفة والخبرة في تحديد اهتمام الإنسان وتفاعله مع أيّ شيءٍ من الأشياء أو قضية من القضايا.

فحين تُعرض مثلًا تحف وآثار تاريخية نادرة على خبير عارف بقيمتها وأهميتها، فإنه مستعدٌّ لبذل أغلى الأثمان لاقتنائها، لكن من لا يعرف قيمتها ولا خبرة له بعالمها، قد يرى صرف تلك المبالغ عليها نوعًا من الجنون أو الإسراف.

لذلك يوجد خبراء ومستشارون في مختلف ميادين الحركة الاقتصادية، كالعقار والمعادن والأسهم وغيرها، يرجع إليهم في معرفة قيمة الأشياء وتقويم فرص عرضها واقتنائها.

معرفة الزمن المبارك

وحين نريد معرفة قيمة أيّ زمن بلحاظ مدى البركة التي أودعها الله تعالى فيه، فإنّ علينا أن نعود إلى الخبراء العارفين الذين أطلعهم الله تعالى على ما يشاء من الأسرار المودعة في الطبيعة والحياة، وهم الأنبياء وحملة علومهم من الأئمة والأولياء.

وهؤلاء لا يبخلون علينا بشيءٍ من تلك الخبرات والمعارف التي تفيدنا وتسعدنا، بل يبذلونها ابتداءً دون طلب، ولا يسألون عليها أجرًا، ولا يريدون منا جزاءً ولا شكورًا، إنهم مكلفون ومأمورون من قبل الله تعالى بتوجيهنا، وإلفات أنظارنا إلى فرص التقدم ومنابع الخير وموارد البركة والنجاح.

ورد عن رسول الله : «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ أَدَعْ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ نَبَّأْتُكُمْ بِهِ»[1] .

شهر رمضان زمن التميّز

تحدّث القرآن الكريم عن شهر رمضان المبارك في سياق حديثه عن تشريع فريضة الصيام، كزمن له خصوصية فريدة تميّزه على سائر الأزمنة.

يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ. [سورة البقرة، الآية: 185].

إنّ الآية تشير إلى الخاصية الأساس لشهر رمضان، وهي إنزال القرآن فيه، وذلك سرُّ عظمته.

كما تشير روايات إسلامية في مصادر السنة والشيعة إلى أنّ جميع الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور، قد أنزلها الله في شهر رمضان.

إنه الزمن الذي اختاره الله تعالى لإنزال هدية إلى خلقه في جميع العصور، ولإصدار تشريعاته إلى مختلف الأمم، على أيدي أنبيائه ورسله.

فلا بُدّ وأن تكون فيه خصوصية اقتضتها الحكمة الإلهية، وبها تميّز على الأزمنة الأخرى.

وقد وردت عن رسول الله أحاديث وخطب عديدة، يبين فيها للأمة قيمة هذا الزمن المميز شهر رمضان، ومنها ما روي عن أمير المؤمنين علي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأيّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ فَاسْأَلُوا اللهَ ربَّكُمْ بِنِيَّات صَادِقَة، وَقُلُوب طَاهِرَة أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلاَوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ»[2] .

وعن أنس أنه قال عند حضور شهر رمضان: «سُبْحَانَ اَللَّهِ، مَاذَا يَسْتَقْبِلُكُمْ وَمَاذَا تَسْتَقْبِلُونَ؟ قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»[3] .

وعنه : «هُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَوَسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ إِجَابَةٌ، وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ»[4] .

التهيؤ لاستقبال الشهر الكريم

إنّ التهيؤ لاستقبال الشهر الكريم يؤهل الإنسان للاستفادة من خيراته وبركاته.

ويتمثّل هذا التهيؤ والاستعداد في بعدين أساسين:

أولًا: التهيؤ النفسي والروحي

جاء عن عبدالسلام الهروي: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ آخِرَ جُمُعَةٍ مِنْ شَعْبَانَ، فقال ضمن حديث له: «تُبْ إِلَى اَللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ لِيُقْبِلَ شَهْرُ اَللَّهِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ تَدَعَنَّ أَمَانَةً فِي عُنُقِكَ إِلَّا أَدَّيْتَهَا وَلاَ فِي قَلْبِكَ حِقْدًا عَلَى مُؤْمِنٍ إِلَّا نَزَعْتَهُ»[5] .

وقد أكّد رسول الله في خطبته على صدق النية، وطهارة القلب، حيث قال : «فَاسْأَلُوا اللهَ ربَّكُمْ بِنِيَّات صَادِقَة، وَقُلُوب طَاهِرَة أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلاَوَةِ كِتَابِهِ».

إنّ العنوان الأول هو: التوبة إلى الله من الذنوب: «وَتُبْ إِلَى اَللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ لِيُقْبِلَ شَهْرُ اَللَّهِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ».

أما العنوان الثاني فهو: تصفية الحقوق التي في ذمتك تجاه الله، وتجاه الناس.

ورد عن رسول الله : «كُلُوا الحَلالَ يَتِمَّ لَكُم صَومُكُم»[6] .

وعنه : «اَلْعِبَادَةُ مَعَ أَكْلِ اَلْحَرَامِ كَالْبِنَاءِ عَلَى اَلرَّمْلِ»[7] .

والعنوان الثالث هو: إزالة أدران العداوات والبغضاء من النفس.

«وَلاَ فِي قَلْبِكَ حِقْدًا عَلَى مُؤْمِنٍ إِلَّا نَزَعْتَهُ».

برنامج الاستثمار

ثانيًا: اعتماد برنامج لاستثمار أوقات الشهر الكريم التي هي أفضل وقت يمرّ على الإنسان في حياته، فلا ينبغي له أن يفرّط بشيءٍ من هذا الوقت الثمين.

وبمراجعة النصوص الدينية نجد فيها التأكيد على البرامج التالية:

1/ تلاوة القرآن الكريم

ورد عن النبي محمد : «أَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ تِلاَوَةِ اَلْقُرْآنِ»[8] .

وعن الإمام محمد الباقر : «لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ رَبِيعٌ، وَرَبِيعُ الْقُرْآنِ شَهْرُ رَمَضَانَ»[9] .

على الإنسان أن يقرّر له وقتًا يوميًا في هذا الشهر الكريم، لتلاوة جزءٍ على الأقلّ من القرآن، بحيث يختمه في الشهر العظيم.

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ: «لَا»، قَالَ: فَفِي لَيْلَتَيْنِ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَفِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: «هَا» وَأَشَارَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ لِرَمَضَانَ حَقًّا وَحُرْمَةً لَا يُشْبِهُهُ شَيْ‌ءٌ مِنَ الشُّهُورِ، وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقْرَأُ هَذْرَمَةً، وَلَكِنْ يُرَتَّلُ تَرْتِيلًا، فَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَقِفْ عِنْدَهَا، وَسَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ، فَقِفْ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ»[10] .

2/ كثرة الدعاء والذكر والاستغفار

ورد عن أمير المؤمنين علي : «عَلَيْكُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فَيُدْفَعُ بِهِ عَنْكُمُ الْبَلَاءُ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَيَمْحَى ذُنُوبَكُمْ»[11] .

وفي تراث مدرسة أهل البيت كثير من الأدعية ذات المضامين العالية، لمختلف أوقات هذا الشهر الفضيل.

3/ كثرة الصلاة

ورد عن رسول الله : «مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ رَكْعَتَيْنِ يَتَطَوَّعُ بِهِمَا غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ»[12] .

وعنه : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[13] .

4/ كثرة الصدقة والإنفاق

عن أنس سُئل رسول الله أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فقال : «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ»[14] .

وعن ابن عباس: (إنَّ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)[15] .

 

خطبة الجمعة 29 شعبان ١٤٤٦هـ الموافق 28 فبراير 2025م.

[1]  الكافي، ج5، ص83، ح11. وقريب منه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح2866.
[2]  الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154، ح149.
[3]  الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص140، ح150.
[4]  من لا يحضره الفقيه، ج2، ص95، ح1831.
[5]  عيون أخبار الرضا ، ج2، ص56، ح198.
[6]  كنز العمال، ح43356.
[7]  بحار الأنوار، ج81، ص258، ح56.
[8]  فضائل الأشهر الثلاثة، ص95، ح78.
[9]  الكافي، ج2، ص630، ح10.
[10]  الكافي، ج2، ص617، ح2.
[11]  الكافي، ج4، ص88، ح7.
[12]  وسائل الشيعة، ج5، ص171، ح4.
[13]  صحيح مسلم، ح759.
[14]  سنن الترمذي، ج3، ص51، ح663.
[15]  صحيح البخاري، ح1803.