مهنة المحاماة المسؤولية الشرعية والأخلاقية
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية: 105].
لم تكن المحاماة مهنة معروفة أو تمارس في تاريخنا الإسلامي المنصرم، ولم تدخل إلى بلاد المسلمين إلّا في أواخر الدولة العثمانية.
حيث صدر فيها أول تنظيم للمحاماة بعنوان: نظام وكلاء الدعاوى عام 1292هـ/ 1876م. وصدرت في مصر أول لائحة لتنظيم المحاماة في بلد عربي عام 1884م[1] .
وليس هناك نصوص شرعية تتحدث عن هذه المهنة ومن يقوم بها، لكنّ الشرع الإسلامي أجاز الوكالة، بأن يوكّل الإنسان إنسانًا آخر ليقوم عنه ببعض المهام، كإجراء العقود والاتفاقيات، ومنها أن يوكله للدفاع عنه في الخصومات.
المحاماة جزء من نظام العدالة والقضاء
وقد أصبحت المحاماة في هذا العصر جزءًا لا يمكن الاستغناء عنه في نظام العدالة والقضاء، في المجتمعات الإنسانية، فتطور الحياة أحدث تشعّبًا في القضايا الاجتماعية، وفي المعاملات بين الناس، وهناك قوانين نافذة في كلّ بلد، لتنظيم العلاقة بين الناس، وحلّ الخصومات والنزاعات.
وقد لا يكون الإنسان مطّلعًا على تفاصيل الأنظمة والقوانين، ليعرف الحقّ الذي له والذي عليه، عندما يريد توقيع العقود والاتفاقات، أو يكون في مورد خلاف وخصومة مع جهة أخرى.
وهنا يأتي دور المحامي، لمساعدة الإنسان في معرفة ما له وما عليه، ضمن الإطار الشرعي والقانوني، في قضايا المعاملات والخصومات، ليصل إلى حقّه، وليحمي نفسه من الظلم.
بل إنّ للمحاماة دورًا في تصويب عمل القضاء، حيث يجتهد المحامي في تبيين ما قد يخفى أو يكون ملتبّسًا في القضية مورد النزاع والحكم، وللتأكد من الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية والنظامية.
من معايير التقدم وجودة الحياة
أصبح من معايير التقدّم في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وقياس جودة الحياة فيها، وحماية حقوق الإنسان، وصول عدد المحامين إلى نسبة مقبولة قياسًا مع الكثافة السكانية، وأن تتوفر لهم إمكانية أداء دورهم المهني دون عوائق.
وقد أظهرت إحصاءات أعلنتها الهيئة السعودية للمحامين في (5 مايو 2018م) وجود محامٍ واحدٍ لكلّ 6323 شخصًا في السعودية، في حين يوجد في أمريكا محامٍ واحد لكلّ 242 شخصًا[2] .
وارتفع عدد المحامين الممارسين في المملكة العربية السعودية بنسبة كبيرة خلال أقلّ من عقد من الزمن، فقد كانت الرخص الممنوحة للمحاماة سنة 2016م 3844 رخصة، ووصلت في السنة الماضية 2023م إلى 15936 رخصة محاماة، منها 3416 رخصة لمحاميات[3] .
الرؤية الدينية
ويشجّع الدين على مساعدة صاحب الحقّ في الوصول إلى إثبات حقّه، حيث ورد عن رسول الله : «مَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ»[4] .
لذلك فإنّ مشهور فقهاء المسلمين المعاصرين من مختلف المذاهب يرون شرعية هذه المهنة في حدّ نفسها.
بل دعا الفقيه الراحل السيد محمود الهاشمي الذي كان رئيسًا للسلطة القضائية في إيران، إلى تشجيع كثرة المحامين وزيادتهم، لدعم القضاء وللمساعدة في إحقاق الحقوق، وتطبيق العدالة[5] .
لكنّ بعض علماء المسلمين كأبي الأعلى المودودي يرون تحريم مهنة المحاماة[6] ، وإنّ عمل المحامي وكسبه محرم شرعًا؛ لأنّها مهنة دخيلة على المجتمع الإسلامي، ولم تكن تمارس في تاريخ المسلمين، ولأنّ المحامي يتوكّل في الدفاع عن موكله بالحقّ أو بالباطل، ويعمل جاهدًا على قمع الأدلة لكسب القضية ولو بالخداع، لكنّ هذا الرأي لا يثبت أمام النقاش العلمي، فإنّ الفقهاء قبلوا كثيرًا من التنظيمات الحديثة في مختلف جوانب الحياة، كما لا يصح تحريم عمل ما لأنّ بعض تطبيقاته فاسدة، بل يقتصر التّحريم على القسم الفاسد.
إثم الدفاع عن الظلم
وإذا كانت مهنة المحاماة مشروعة، ودورها إيجابي في المجتمعات الإنسانية، فإنه يكتنفها خطورة كبيرة، بسبب احتمالات الوقوع في إثم الدفاع عن الظلم، وتضييع حقوق الآخرين، حين يتبنّى المحامي قضية يعلم مخالفتها للشرع والعدالة.
وقد ورد عن رسول الله : «مَنْ خاصمَ في باطلٍ وَهوَ يعلمُهُ، لم يزَلْ في سَخطِ اللَّهِ حتَّى ينزِعَ عنهُ»[7] .
وقد أفتى الفقهاء بعدم جواز تبنّي المحامي الدفاع عن قضية فيها ظلم أو تضييع لحقوق الآخرين، أو مخالفة لأحكام الدين، فإنه عمل محرّم والأجرة عليه حرام.
الالتزام الديني والأخلاقي
إنّ على المحامي أنّ يتحلّى بالالتزام الديني والأخلاقي، فلا يبيع دينه من أجل دنيا غيره.
وليكن رزقه من الحلال لا من الحرام، فإذا جاء من يريد الدفاع عنه للتصرف في مال وقف بغير حقّ، أو للتجاوز على حقوق شركائه في الإرث، أو شركائه في أيّ معاملة، أو للتستر على ظلم الزوج أو الزوجة، فعليه ألّا يقبل ذلك.
إنّ عليه أن ينصح من يطلب منه الدفاع عن قضيته المخالفة للشرع والعدل، وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ملتمسًا رضا الله تعالى، وله في ذلك أعظم الأجر والثواب والتوفيق.
وأن يسعى للتقريب والصلح خاصة في الخلافات العائلية، فتفكك العوائل، وتصاعد الخلاف داخلها، فيه ضرر اجتماعي كبير.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿١٠٥﴾ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿١٠٦﴾ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾. [سورة النساء، الآيات: 105-107] أي لا تخاصم وتدافع عن الخائنين الذين يخونون أنفسهم بمخالفة أحكام الله تعالى، والجور على عباده.