كلمة وفاء..
إضاءات في حياة الشيخ الصفار
أقف في هذه المحطة لأسكب سطورًا من حكايات وذكريات ومآثر عشتها معه في رحاب الحياة ودروبها الطوال، يكتنفها قلبي وعقلي، ليشهد لها التاريخ والواقع الاجتماعي المعيش.
كيف لا أكون وفيَّة لمقامه الرفيع وما تركه من أثر عميق في نفسي وفي مجتمعي ووطني من ذكريات جمعتني به منذ المراحل الأولى في حياتي، فقد عرفته أستاذًا حكيمًا، ومُعلِّمًا فاضلًا، صاحب رؤية وبصيرة نافذة في استقراء الأحداث، عالمًا جليلًا لا تهجم عليه اللوابس.
فضيلة الشيخ حسن موسى الصفار قامة من قامات العلم ورمز ديني واجتماعي، هو موسوعة في الفكر والثقافة والتربية، ونبراس في المعرفة والأخلاق، عالم عامل بعلمه، سمح في الدعوة إلى اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة، ألهمه اللَّه قوة الحجَّة والمنطق ليصافح بها القلوب قبل العقول.
هو أحد شخصيات الوطن المتميِّزة، عمل منذ عقود على تطوير وعي أبناء المجتمع، وصاغ العديد من الأطروحات والمشروعات الثقافية والاجتماعية التي تنهض بالأمة، وتدفع بنخبها وشرائحها المتعدِّدة نحو العمل والبناء والتنمية.
أنشأ جيلًا راسخًا بالوعي الفكري والنهج الرسالي، خـدم الإسلام بلسانه وقلمه وأخلاقه.
إنني عندما أتصفَّح سيرته ومسيرته في قاموس الذكريات، يكفي ما أراه على صفحات الواقع، فلولا إيمانه برسالته الإصلاحية ونهجه المعتدل ووعيه الفكري والثقافي، ولولا عقليته التجديدية وانفتاحه وطاقته الإبداعية ونشاطه المكثَّف ما كان الحراك الثقافي الواعي الذي يتفاعل مع حركة المجتمع مستمرًّا، ولما تحقَّق الوعي الاجتماعي، لقد سجَّل بصمات حقيقية بالقيم النبيلة جسَّدها في مشوار عطائه، فقد فرض وجوده وحضوره القوي فكريًّا وثقافيًّا كعالم دين، وعاش حياة زاخرة بالعمل والتضحية مكللة بالاحترام والأدب وكريم الخلق. فكان شعلة مضيئة في مجتمعه ووطنه في المجال الديني والثقافي والسياسي، لينقش أسمه بأحرف من نور على صفحات التاريخ الإنساني، فشتان بين رجال يصنعون التاريخ ورجال يأتي بهم التاريخ ويرحلون دون أن يبقى لهم أثر في تاريخ أمتهم، وما صنعه الشيخ الصفار سيبقى خالدًا في الذاكرة التاريخية لبلاده، وستبقى تجربته حيَّة على أكثر من صعيد محطَّ استشراف واستلهام للأجيال القادمة.
جمع الثقافة الإسلامية الأصيلة التي تلقَّاها فطرة وتربية ودراسة، إضافة إلى قراءاته المستفيضة عن الإسلام وعلوم الأديان وتاريخ الحركات الإسلامية والفكرية، وفقه المذاهب وتاريخ الحضارات والثقافات المتنوِّعة.
فعندما أتحدَّث عنه قد لا أفيه حقَّه، فهو كخطيب استطاع أن يُطوِّر الخطاب الديني إلى خطاب تنويري أصيل، وأن يُحوِّل الكثير من القيم إلى الواقع المباشر في حياة الناس، وكان مثالًا حيًّا للعالم والداعية الذي يصل إلى الناس بأسلوب عفوي جميل غير متكلّف، يخاطب القلب من خلال العقل، ويخاطب العقل من خلال القلب، ويدغدغ الفكرة ويجتهد في بحثها بالتدقيق والتمحيص مهما كانت صعوبتها ليُقدِّمها للمستمع بطريقة سلسة وسهلة يستوعبها الصغير والكبير، المثقَّف والفرد العادي. ممَّا أكسبه حضورًا مميَّزًا من خلال طبيعة طرحه وتقديمه لمحاضراته وخطبه، والتي لا تخلو من إضفاء الروح المرنة عليها، فنادرًا ما يخلو حديثه من طرفة يستشهد بها بخاصية «اللهجة القطيفية»، كما لا يخلو مجلسه من مشاركة العلماء المهتمِّين ومن المثقَّفين المختصِّين والباحثين من كافة شرائح المجتمع.
عرفت الشيخ حسن الصفار إنسانًا سمح القلب، هادئ الطباع، لا تفارق الابتسامة محيَّاه، يتعامل مع الحياة بإيجابية وصدق، فكثيرًا ما يحرص على غرس الأمل والتفاؤل في نفس من يجالسه وفي نفس القارئ والمستمع ويقتلع اليأس، صادق النُّصح، يختار عناوينه وعباراته بعناية ودِقَّة.
وفي مسألة الخلاف والاختلاف، فقد تميَّز الصفار بطرحه التجديدي المعتدل، وبخطاب التسامح، فكثيرًا ما يدعو للالتزام بأخلاقيات الإسلام التي تدعو إلى احترام الرأي الآخر، واعتماد منهجية الحوار والجدال بالتي هي أحسن، ومراعاة الحقوق العامة لإخوة الدين والوطن، فالاختلاف في الرأي لا يُجيز التعدِّي على حقوق الآخرين، ولا يخدش من حقوق المواطنة، فكثيرًا ما يُؤكِّد على الوحدة الإسلامية والوطنية كواجب وأصل من أصول الدين ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، وما لهذه القيمة من حاكمية على سائر القيم والمفاهيم، ففي اعتقاده لا يصح أبدًا تمزيق وحدة الأمة من أجل التمسُّك بفكرة أو مسألة شرعية معيَّنة، بل يجب اعتبار الوحدة أساسًا ومحورًا لا يجب المساس به، أما التفاصيل والأمور الفرعية في العقيدة والشريعة الإسلامية فلا ينبغي أن يترتَّب على الاختلاف فيها أثر يضر بوحدة الأمة وتماسكها.
كما دعا إلى احترام حقوق الإنسان والاعتراف بالآخر في حريته الدينية والفكرية، وعدم مصادرة أفكار الآخرين، وتعزيز مفهوم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، واحترام كرامة وإنسانية البشر دون النظر إلى مذاهبهم وتوجُّهاتهم، لتحقيق التقارب والتعايش بين أبناء الوطن الواحد.
الشيخ الصفار رجل الحوار والتسامح، فكثيرًا ما يدعو إلى تنشيط الحوار الداخلي بين الحكومات والشعوب منعً للاحتقان الذي يُؤدِّي إلى الانفجارات، أو اللجوء إلى القوة والعنف. كما يدعو إلى الحوار بين قيادات المذاهب الدينية ليتعرَّفوا على توجُّهات بعضهم البعض بشكل مباشر، وليس من خلال كتابات مغرضة ونقولات قديمة، من أجل تجاوز فتاوى التكفير والتبديع والتُّهم المتبادلة بين المذاهب الإسلامية، مؤكِّدًا على أهمية الحوار بين المدارس الفكرية والتيارات السياسية لتحقيق الألفة والتقارب، وكذلك أهمية الحوار بين المدارس الفكرية والتيارات السياسية والاهتمام بالبناء وتنمية الأوطان بدل الاسترسال في هدر الإمكانات وتضييع الجهود في الاحتراب الداخلي والنزاع.
شجَّع سماحته على الانفتاح و نقد الانكفاء على الذات، وكسر العزلة التي يعيشها الشيعة في المنطقة، ودعا إلى التلاحم الوطني ووحدة الصف لا سيما في ظل المتغيِّرات الإقليمية والدولية. وفتح الباب أمام إخوة الوطن بالتواصل والحوار، فتراه دائمًا ما يدفع المجتمع للتواصل والمحبَّة والتراحم في حديثه وخطبه.
فقد أحب وطنه وجعل مصلحته نصب عينيه، فأخلص له وعمل من أجله، عاش مرتبطًا بأرضه، فحمل وطنه معه وحمل همَّه أينما حلَّ وارتحل محافظًا على هويته وثوابته.
ودعا جميع شرائح المجتمع الشيعي وحثَّهم على الانفتاح على إخوانهم بزيارتهم والتحاور معهم ومشاركتهم فيما يعود بالنفع العام على الوطن.
فلا زلت أتذكَّر كلمة المغفور له الملك عبداللَّه بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، حيث تشرَّفت باللقاء به على أثر مؤتمر الحوار الوطني في أولى لقاءاته في الرياض عام 2003م، وهذه كلمة لعلِّي أصرح بها لأول مرة شهادة للَّه وللتاريخ، كان يشيد بفضيلة الشيخ وبشجاعته ووفائه، ففي سياق حديثي معه حول أوضاع الشيعة وما يتعرَّضون له من تبديع وتكفير وحرمان من الوظائف في حقبة سابقة، فأجابني قائلًا: الشيعة سطَّروا ولاءهم لوطنهم وأرضهم ومجتمعهم بجدهم وعملهم وعطائهم، أنتم الشيعة جزء لا يتجزَّأ من هذا الوطن، لكم حق كبير في هذه الأرض، فما يُقال عنكم وما يُكتب غير صحيح، وما ينخاف عليكم ولديكم رجل محنَّك -حسب تعبيره- إنه الشيخ حسن الصفار واللَّه، إني أحب هذا الرجل؛ لأنه شجاع ومحترم ومخلص لوطنه، بلغيه عني السلام.
ولن أنسى دوره -حفظه اللَّه- عندما بدأت بالشروع في أعمالي البحثية أيام تواجدنا في سوريا، فقد كان يدعمني ويساندني، ويجلب لي سلسلة الكتب والمصادر، يحملها والعرق يتصبَّب منه، وحرارة الشمس تلفح وجهه، لا زالت صورة هذا الموقف تراودني، حينها خجلت من نفسي كثيرًا لتواضعه الجمَّ، وأدركت حينها عمق حرصه واهتمامه بالكتابة والبحث.
ومع كل هذه الاهتمامات لم ينسَ اهتمامه بنصف المجتمع، فسلَّط الضوء على المرأة، ووجَّه بوصلته الدينية والعلمية للنهوض بها، محترمًا إنسانيتها وكرامتها ودورها الكبير منذ بداية انطلاقته في الدعوة والعمل الإصلاحي، مُقدِّرًا لما تملكه المرأة من كفاءات وقدرات، فدعا المرأة لبناء شخصيتها والوعي بحقوقها، وأن تدخل إلى معترك الحياة الاجتماعية بكفاءتها وأخلاقها.
فكثيرًا ما كان يدفع المرأة ويحثُّها على تنمية قدراتها العلمية وكفاءتها العملية، وأن تؤدِّيَ واجباتها تجاه الوطن والمجتمع بجديَّة وإخلاص، رافضًا امتهانها وتحجيمها في إطار أنوثتها ومفاتنها.
فهو دائمًا ما يدعو المرأة إلى اتِّخاذ زمام المبادرة وتحرير نفسها من وصاية الرجل في حركة انطلاقتها، عن طريق إبراز كفاءاتها وطاقاتها، لتكون متقدِّمة ومبدعة في مختلف المجالات.
وكان منفتحًا يستقبل المرأة بكل ودٍّ واحترام وتقدير، يستشيرها ويناقشها، فلا يخلو مجلسه من الأكاديميات والمثقَّفات المهتمَّات بالشأن العام من مختلف أنحاء الوطن بين فينة وأخرى.
وعلى الصعيد الخاص، كان فضيلته متسامحًا ومتواضعًا وصولًا ليس فقط مع محبيه بل حتى مع خصومه و أعدائه، فقد كان ينبذ كل ما يؤدِّي إلى التباغض والتدابر والتقاطع، وكان من دعاة المحبَّة والتآلف، نابذًا للفرقة والتعصُّب والتباعد، فقد تسامى على كافة العصبيات والتحزُّبات الطائفية والمذهبية، فقيلت فيه مقولات وتم اتهامه و حاولوا النيل منه، وكان يتعامل مع خصومه بالحب والتسامح.
أسأل اللَّه أن يحفظه ذخرًا لنا وللمجتمع والوطن...