القلب إبداع الخالق وسرّ الحياة
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. [سورة الشعراء، الآيتان: 88-89].
تم تأسيس يوم القلب العالمي في عام 1999م، ثم اعتمد يوم 29 سبتمبر من كلّ عام باعتباره يوم القلب العالمي، ليكون الاحتفال به مناسبة لتنظيم أنشطة وفعاليات توعوية مختلفة، على مستوى العالم، للاهتمام بصحة القلب، ولرفع مستوى الوعي بأمراض القلب، والتدابير الوقائية اللازمة لإدارة أمراض القلب والأوعية الدموية.
القلب العضلي والقلب المعنوي
هناك معنيان وإطلاقان للقلب في ثقافة مختلف المجتمعات البشرية.
المعنى الأول: هو القلب العضلي الموجود في القفص الصدري، ومهمته ضخّ الدم إلى أنحاء الجسم.
المعنى الثاني: هو القلب المعنوي، ويقصد به قوة الإدراك والفهم، ومركز العواطف المختلفة، كالحب والبغض والميل والنفور والخوف والشجاعة، وسائر العواطف والمشاعر، وهو بهذا المعنى مرادف لإطلاق النفس، وقد يعبّر به عن العقل.
ويمكن القول إنّ لإدارة شخصية الإنسان مركزين، مركز معني بإدارة حركة جسمه، وهو القلب العضلي، ومركز معني بإدارة البعد الروحي والنفسي والفكري، ويطلق عليه القلب أيضًا، كما يطلق عليه الروح والنفس والعقل، وهو المركز الأساس، وله اتصال وثيق بالقلب العضلي.
خفاء وغموض
وإذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن طبيعة القلب العضلي، وتركيبه، ومهمته، وطريقة عمله في جسم الإنسان، وحدّد لنا حجمه ووزنه وبداية تكونه، واستطاع أن يرصد نهاية عمله ووظيفته التي تعني موت الإنسان. فإنّ المعرفة الإنسانية لا تزال قاصرة عن إدراك طبيعة القلب المعنوي، الذي يمثل قوة الإدراك ومركز العاطفة والقرار في شخصية الإنسان، حيث لا نعرف على وجه الدقة موقع هذه القوة في كيان الإنسان، وهل أنّ لها فيه تشكلًا ووجودًا ماديًا تصدر عنه أم لا؟
وما مدى العلاقة بينها وبين الدماغ والقلب العضلي؟
إنّ ذلك لا يزال يمثل منطقة مجهولة، وسرًّا غامضًا، أمام الفكر البشري، وعلى حدّ تعبير بعض العلماء المسلمين: إنه من شؤون الروح التي يقول عنها تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 85].
إننا ندرك وجود هذه القوة، عن طريق ظهور فعلها وآثاراها وصفاتها في شخصية الإنسان، لكننا نجهل تفاصيل وجودها.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (توفي 505هـ/ 1111م): (لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين. أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، ... والمعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية، لها بهذا القلب الجسماني تعلّق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب، ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيّرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته، فإنّ تعلّقه به يضاهي تعلّق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات أو تعلّق المستعمل للآلة بالآلة)[1] .
والاحتفاء بيوم القلب العالمي يقصد منه القلب بالمعنى الأول. والنصوص الدينية تتحدّث عن القلب غالبًا بالمعنى الثاني.
وبهذه المناسبة، نتحدّث عن القلب ضمن المعنى الأول والثاني.
عظمة الخالق وإبداعه
حين يتأمل الإنسان ما كشفه العلم الحديث عن دور القلب العضلي في حياة الإنسان، يدرك شيئًا من عظيم قدرة الله تعالى وإبداعه.
جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي : «لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هذَا الإنْسَانِ [أي العِرق المعلّق به القلب] بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ: وَذلِكَ الْقَلْبُ»[2] .
القلب عضو عضلي مجوّف، ينقسم إلى مضختين متجاورتين. وتنقل الأوردة الدموية الدم من جميع أنحاء الجسم إلى المضخة الواقعة في الجهة اليمنى، التي ترسله بدورها إلى الرئتين لحمل الأوكسجين، ومن ثم ينساب الدم المؤكسج إلى مضخة الجهة اليسرى من القلب، التي تضخه بدورها إلى أجزاء الجسم المختلفة بواسطة الشرايين. وهناك صمامات تتحكم في سريان الدم داخل القلب.
ويعادل حجم القلب عند كلّ شخص حجم قبضة يده، ويزن قلب الطفل الرضيع حديث الولادة حوالي 20 جرامًا، بينما يزن قلب الشخص المكتمل النمو من 250 إلى 350 جرامًا.
يقع القلب في منتصف الصدر بين الرئتين، ويميل قليلًا للجهة اليسرى.
وهو يقوم بضخ الدم في جسم الإنسان، ويحمل الدم الأكسجين والغذاء لكلّ خلايا الجسم.
ويبدأ تشكّل القلب وعمله مبكرًا في حياة الإنسان، منذ اليوم الثاني والعشرين من تلقيح البويضة، ويكتمل نموه تقريبًا في ثمانية أسابيع بعد الحمل، أي في الشهرين الأولين من الحمل. وهو أول الأعضاء تكونًا وخلقًا، وآخرها توقفًا وموتًا.
يضخ القلب حوالي 4.7 لترًا من الدم في الجسم كلّ دقيقة، وحوالي 7.600 لترًا يوميًا، أما في حالة الركض والعمل الشاق فإنه يضخ حوالي عشرين لترًا من الدم في الدقيقة، وينبض في الدقيقة من 60 إلى 100 نبضة.
حركة مستمرة وعمل جبّار دؤوب
ويستمرّ القلب العجيب في عمله الجبّار دون هوادة ولا توقف للحظة واحدة من ليل أو نهار حتى تنتهي الحياة.
ورد عن رسول الله أنه قال: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ»[3] .
هذه المضغة الجبارة الفذّة تنقبض وتنبسط في اليوم الواحد مئة ألف مرة، وتوزع الدم على الجسم في دورات غير متناهية، على 100 ألف كم من الأوعية الدموية لجميع أعضاء الجسم المختلفة.
إنّ هذه المضغة العجيبة الفذّة تدفع الدم إلى الدماغ في ثماني ثواني فقط، وتدفع الدم إلى الأقدام في 18 ثانية.
ويعمل القلب بكلّه كخلية واحدة، بحيث تنقبض جميع الخلايا في البطينين وكأنّهما قطعة واحدة، وترتخيان في لحظة واحدة، وكذلك في الأذينين الأيمن والأيسر، ولا يحتاج القلب إلى الأعصاب كي ينقبض، فانقباضه وانبساطه ذاتي، وفي هذا يختلف القلب عن جميع عضلات الجسم إرادية أو غير إرادية.
كلّ هذا قد جعله الله للقلب حتى يستمرّ في نشاطه الدائب الذي لا يتوقف لحظة ولا يتريث هنيهة من ليل أو نهار.
لذلك يرى بعض اللغويين أنّ لفظ القلب مأخوذ من التقلّب والتحوّل، فالأصل اللغوي في القلب تحويل الشيء عن وجهه، وقَلَبَ الشيء: حوّله ظهرًا لبطن.
قال المحقق المصطفوي: (فهو - القلب - دائمًا في قبض وبسط وتقلّب، ولا شيء من أعضاء البدن يكون في تقلّب بالأصالة مثله، ولهذا يسمى بالقلب)[4] .
وهذا الأصل اللغوي ملحوظ حتى في الإطلاق المعنوي للقلب، فإنّ قوة الإدراك والعاطفة تحصل فيها التغيرات والتحولات في الآراء والمواقف.
جاء في لسان العرب: (وقال بعضهم: سمّي القلب قلبًا لتقلّبه، وأنشد:
مَا سُمِّيَ القَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ والرَّأْيُ يَصْرِفُ بالإِنْسانِ أَطْوارَا)[5]
القلب العضلي والحالات النفسية
هناك تفاعل واضح بين القلب العضلي وبين الحالة النفسية العاطفية للإنسان.
فإذا رأى الإنسان من كان يحبّه حبًّا شديدًا، ويشتاق رؤيته، أسرع قلبه يدقّ صدره دقًّا عنيفًا، وإذا غضب المرء انتفخت أوداجه، واحمرّ وجهه، وزادت ضربات قلبه سرعة وقوة، وإذا تعرّض للخطر فإنّ وجيب القلب يزداد، وفي الهلع والخوف تدور الأعين في المحاجر، وتبلغ القلوب الحناجر، على حدّ تعبير القرآن الكريم.
يقول تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾. [سورة الأحزاب، الآية: 10].
هناك ميزان دقيق جعله الله سبحانه وتعالى لهذا القلب كي ينظّم ضرباته وحركاته، حسب الأحوال والطلب. إذا استلقى الإنسان وارتاح قلّت الضربات سرعة وقوة، وإذا قام يجري ازدادت في سرعتها وشدّتها.
وإذا خطرت له الخواطر وانتابته الشجون استجاب لها القلب بزيادة الضربات أو نقصانها حسب الحالة المزاجية. لهذا ارتبط القلب بالعواطف ارتباطًا وثيقًا.
كما أنّ القلب هو الذي يغذّي الدماغ، ولو توقف الدم عن الدماغ دقيقتين لأصيب الدماغ إصابة بالغة تؤدي إلى غيبوبة قد يفيق الإنسان منها أو لا يفيق، وإذا توقف الدم عن الدماغ لمدة أربع دقائق فقط، فإنّ هذا الشخص يعتبر في عداد الموتى؛ لأنّ دماغه قد توفي ومات، وتعتبر خلايا الدماغ أقلّ خلايا الجسم قاطبة تحمّلًا لانقطاع الدم عنها، لهذا كان الارتباط بينها وبين القلب وثيقًا.
ويتغذّى القلب من الدم الذي يأتيه من ثلاثة شرايين تسمى الشرايين التاجية[6] .
مسؤوليتك تجاه قلبك
إنّ على الإنسان أنْ يستحضر عظمة الخالق جلّ وعلا، وقدرته من خلال التأمل في مظاهر هذا الإبداع والإتقان الإلهي، في تكوين القلب، وتنظيم عمله الدقيق.
وعليه أن يشكر الله تعالى، على نعمة إيجاده وخلقه في أحسن تقويم، وتزويد جسمه بهذه الأجهزة البالغة الدقة، والمحكمة الصنع.
من ناحية أخرى، فإنّ على الإنسان أن يحافظ على هذه النعم، برعايتها وحمايتها وسلامتها، والاستفادة المثلى منها، فجسمك بكلّ أجهزته وأعضائه أمانةٌ، وأنت مسؤول أن تحافظ عليها، وأن تهتم بصحة قلبك، وتحميه من الأمراض والعوامل التي تسبب الخلل في كفاءته.
وقد تحدّث الأطباء والإخصائيون في هذا المجال عن الإجراءات الوقائية للحفاظ على صحة القلب، ومنها:
1/ الحفاظ على مؤشّر كتلة الجسم لتكون تحت السيطرة، وضمن الوزن الطبيعي، تجنّبًا للسمنة وزيادة الوزن.
2/ مراقبة ارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستوى الكولسترول، عبر الفحص المبكر، وتناول الأدوية، عندما يتم التشخيص.
3/ تجنّب الخمول، واختيار نمط حياة نشط، فيه حركة وبذل جهد بدني، لا يقلّ عن ٣٠ دقيقه يوميًّا.
4/ الالتزام بنظام غذائي صحي متوازن، وتجنّب الدهون المتحولة، والأطعمة غير الصحية، والحدّ من استهلاك الصوديوم الزائد، للوقاية من ارتفاع ضغط الدم.
5/ تجنب التدخين، واستهلاك الكحول.
6/ مراقبة صحة القلب من خلال برامج الاستشارة والتوعية، وفهم العلامات والأعراض المبكرة، واتخاذ الإجراءات المناسبة لتجنب المضاعفات.
7/ إدارة التوتر، وتقليل الضغوط والأزمات النفسية.
القلب السليم
لا بُدّ من التأكيد على أهمية الجانب المعنوي والروحي، الذي يتناول المعنى الآخر للقلب، وهو البعد النفسي والإدراكي في شخصية الإنسان.
فقد تحدّث القرآن الكريم عن صحة القلب المعنوي وسلامته، كما تحدّث عن أمراضه وأسقامه.
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. [سورة الشعراء، الآيتان: 88-89].
ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿٨٣﴾ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. [سورة الصافات، الآيتان: 83-84].
ويقول تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 10].
ويقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾. [سورة محمد، الآية: 29].
وهناك (12) آية تتحدّث بهذا التعبير ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾.
إنّ الأنانية المفرطة، والحسد والضغينة والتّكبر، واتباع الأهواء والشهوات، كلّها أمراض تفتك بقلب الإنسان المعنوي، وتمثل ضغوطًا مؤذية لقلبه العضلي.
وكما أنّ على الإنسان أن يراقب صحة قلبه العضلي، من خلال التوعية والاستشارة والفحوصات، فإنّ عليه أن يراقب صحته الروحية والنفسية، من خلال التزامه الإيماني والأخلاقي، وعبر محاسبة النفس.
وكما يحتاج الإنسان إلى بذل جهد بدني للحفاظ على لياقته وصحته الجسمية، فإنّ عليه أن يبذل جهدًا في ترويض نفسه وتهذيبها، بالكفّ عن المعاصي والذنوب، واتباع الأهواء والشهوات.