اليتيم الذي صنع التاريخ
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾. [سورة الضحى، الآية: 6].
في مرحلة الطفولة يحتاج الإنسان إلى رعاية شاملة، تهتم بمتطلبات نموّه الجسمي، وحاجاته النفسية العاطفية، إنه يحتاج في الدرجة الأولى إلى إحاطته بالحب والعطف والحنان، ليشعر بالأمان والحماية في عالم جديد عليه.
وهذا ما يوفره له وجود الأبوين. فإذا افتقدهما، أو افتقد أحدهما، فإنّ ذلك يترك فراغًا كبيرًا في نفسه، وجرحًا عميقًا في مشاعره، حيث يشعر بالوحدة والانكشاف، أمام التحدّيات والمخاوف.
معنى اليتم واليتيم
لذلك تطلق اللغة العربية على هذه الحالة عنوان اليتم، واليتم، لغة، هو: الانفراد، واليتيم هو الفرد، وكلّ شيءٍ مفرد بغير نظير فهو يتيم، يقال: درّة يتيمة، أي لا نظير لها. ولأنّ من يفقد أبويه أو أحدهما يشعر بالوحدة، وأنه يواجه الحياة منفردًا دون حماية أو غطاء، أطلق عليه يتيم.
إنه يرى أقرانه من الصغار والأطفال يتمتعون برعاية أبويهم، ويتنعّمون بفيض حبّهم وحنانهم، فيؤلمه الشعور بالحرمان، وفقدان الدعم النفسي والإشباع العاطفي.
لذلك يتعاطف الناس وجدانيًا مع الأيتام، إدراكًا لمعاناتهم، وسعيًا لدعمهم ومساعدتهم، بما يخفف عنهم آلام اليتم والحرمان.
النبي ومعاناة اليتم
وقد شاء الله تعالى لخير خلقه، وأفضل أنبيائه ورسله، النبي محمد ، أن يمرّ بتجربة معاناة اليتم القاسية، فقد جاء إلى هذه الدنيا يتيمًا، حيث فقد أباه عبدالله بن عبدالمطلب، وهو جنين في بطن أمه، وكان عبدالله في رحلة تجارية إلى الشام، وفي طريق عودته إلى مكة أصابه المرض في يثرب، وتوفي هناك.
كما فقد أمّه آمنة بنت وهب، وكان عمره ستّ سنين، عند عودتها من يثرب معه، في منطقة (الأبواء)، وقد بقيت صورة أمه في نفسه، وترك فقدها جرحًا عميقًا في قلبه، وورد أنه زار قبر أمه عامَ الفَتحِ، سنةَ ثمانٍ منَ الهجرةِ، (فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ)[1] .
كما فقد جدّه عبدالمطلب، الذي احتضنه بعد وفاة أبيه، وكان في الثامنة من عمره، وتحدّثت مربيته أم أيمن: أنّ رسول الله كان يبكي خلف سرير عبدالمطلب عند دفنه[2]. ثم كفله واحتضنه عمّه أبو طالب .
رسالة إلى كلّ يتيم
وفي مرور النبي بمعاناة اليتم، رسالة إلى كلّ من تصيبه هذه المعاناة، بأن يرضى بقضاء الله وقدره، ويثق برحمة الله ولطفه، ويكون متأسيًا برسول الله .
وما أجمل ما قاله الشاعر:
ما اليُتْمُ إلَّا ساحةٌ مفتوحةٌ منها نجهِّز للحياةِ عظيما
ونحوِّل الحرمانَ فيها نعمةً كُبْرى تُزيل عن الفؤادِ هموما
قَسَمَ الإلهُ على العباد حظوظَهم فالكلُّ يأخذ حَظَّه المقسوما
وسعادةُ الإنسانِ أن يرضى بما قَسَمَ الإلهُ، ويُعلنَ التَّسليما
قالوا: اليتيمُ، فَمَاج عطرُ قصيدتي وتلفَّتتْ كلماتُها تَعظيما
وسمعْتُ منها حكمةً أَزليَّةً أهدتْ إِليَّ كتابَها المرقوما:
حَسْبُ اليتيم سعادةً أنَّ الذي نشرَ الهُدَى في الناسِ عاشَ يَتيما
وهكذا فإنه يمكن لكلّ يتيم فقد أبويه أو أحدهما أن يتأسّى برسول الله ، وأن يدرك أنه يشابه رسول الله ويشاركه في هذه الصفة، فترتفع بذلك معنوياته، حيث اختار الله له ما اختار لأحبّ الخلق إليه، وقدّر عليه ما قدره عليه.
يقول تعالى مخاطبًا نبيّه : ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾. [سورة الضحى، الآية: 6].
محنةٌ قد تُصبح منحةً
اليتم محنة لكنّها قد تصبح منحة، بما يعوّض الله تعالى اليتيم بأن يهيئ له من يرعاه ويكفله، وأن يهديه لتفجير طاقاته وكفاءاته، بما قد يتفوق به على نظرائه وأقرانه.
ويحدّثنا التاريخ الماضي والحاضر، عن عددٍ من المشاهير والمتميّزين في حياتهم، ممن مروا بمعاناة اليتم، فشحذت هممهم نحو التقدّم والتفوق، وعوّضهم الله بفضله عمّا عانوا.
فالفيلسوف أرسطو (توفي: 322 ق.م) ولد يتيم الأب، لكنّه اتجه إلى تفجير طاقته الذهنية، وتتلمذ على يد أفلاطون (توفي: 347 ق.م) الفيلسوف العظيم، الذي احتضنه واهتمّ به، فأصبح (أرسطو) من أعظم فلاسفة التاريخ، ومقامه العلمي ونظرياته الفلسفية محلّ أنظار العالم حتى اليوم.
وفي عصرنا الحالي، فإنّ المخترع الأمريكي ستيف جوبز، أعظم ملياردير غيّر وجه العالم، وأسّس شركة أبل، نشأ يتيمًا وعانى في طفولته من الحرمان، وأنه لم يكن يستطيع كما بقية الأطفال من اللعب والعيش مثلهم، لذا عندما كبر سعى لامتلاك شركة بيكسار للرسوم المتحركة، وكان يتميّز بأنه صاحب عقلية مبدعة، ويحب الابتكار، ومعاناته مع اليتم هي السبب الذي دفعه بعد أن تحوّل إلى أغنى الأغنياء، إلى تسخير أمواله ومجهوداته لدعم مؤسسة (والت ديزني) ليسعد جميع الأطفال حول العالم[3] .
والمناضل الأفريقي الشهير (نيلسون مانديلا) ذاق مرارة اليتم بفقد والده، فاعتمد على نفسه، وفجّر طاقته، ولديه مقولة اتخذها شعارًا له: (العظمة في هذه الحياة ليست عدم التعثّر، ولكن في القيام بعد كلّ مرة تعثر فيها)[4] .
وظيفة اليتم في الشخصية النبوية
من ناحية أخرى، قد تكون لمعاناة رسول الله لليتم، وظيفة أرادها الله تعالى لتنمية مشاعر الرحمة واللين والرفق في نفسه؛ لأنّ تجربة اليتم القاسية، تجعل من يمرّ بها مؤهلًا ليكون أكثر إحساسًا بآلام الآخرين، وأكثر رفقًا بهم.
يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 159].
وبهذا الإعداد الإلهي أرسله الله رحمة للعالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. [سورة الأنبياء، الآية: 107].
كفالة جدّه وعمّه
إنّ الله تعالى يمُنُّ على نبيّه بأنه آواه في مرحلة يتمه، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾، وذلك عن طريق كفالة جدّه عبدالمطلب له، ثم كفالة عمّه أبي طالب ، اللذين قاما بدور الحماية والرعاية لرسول الله خير قيام، وعلى أحسن وجه.
ومن صور الرعاية والاهتمام برسول الله ، التي ينقلها التاريخ عن جدّه عبدالمطلب ، أنه (كَانَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ، لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالًا لَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْتِي وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ[5] ، حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ عَبْدُالْمُطَّلِبِ، إِذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ: دَعُوا ابْنِي، فَوَاللَّهِ إنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ)[6] .
أما رعاية أبي طالب لرسول الله ، فقد حفظ التاريخ منها مشاهد وصورًا كثيرة، ووثّقتها قصائده وأشعاره في حبّ رسول الله ، والدفاع عنه.
ورد أنه (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَبَضَ أَبُوطَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ فَكَانَ يَكُونُ مَعَهُ، وَكَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا لَا يُحِبُّهُ وَلَدَهُ، وَكَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا إِلَى جَنْبِهِ، وَكَانَ يَخُصُّهُ بِالطَّعَامِ، وكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغَدِّيَ عِيَالَهُ قَالَ: كَمَا أَنْتُمْ حَتَّى يَأْتِيَ ولدي. فَيَأْتِي رَسُولُ اللَّهِ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ، وإنْ كَانَ لبنًا شَرِبَ أوَّلَهم، وَكَانَ الصِّبْيَانُ يُصْبِحُونَ رُمْصًا شُعْثًا، وَيُصْبِحُ رَسُولُ اللَّهِ دَهِينًا كَحِيلًا)[7] .
رسالة إلى كلّ أسرة فيها يتيم
وفي ذلك رسالة لكلّ أسرة، بأن تهتمّ برعاية من يتعرّض لليتم من أبنائها، فعلى الجدَّ أن يهتمّ باليتيم من أحفاده، وعلى العمِّ أن يهتمّ باليتيم من أبناء أخوته، وعلى المجتمع أن يحتضن الأيتام من أبنائه، عبر المبادرات الفردية والمؤسسات المتخصصة.
ورعاية الأيتام لا تتحقّق بتقديم الدعم المالي فقط، حيث يبدي كثيرون استعدادهم للتبرع لصالح الأيتام، وكما تفيد إحصاءات الجمعيات الخيرية، فإنّ واردات قسم كفالة الأيتام هي الأعلى.
إنّ الأهم من المساعدة المادية هي الاحتضان العاطفي، والرعاية التربوية، والتأهيل العلمي.
إنّ من المؤسف أن يَعزِفَ أكثر الرجال عن الزواج من أرملة عندها أطفال أيتام من زوجها الراحل، وأن تَعزِفَ أكثر النساء عن الزواج من الرجل الفاقد لزوجته، إذا كان له منها أطفال تيتّموا بفقدها، مع أنّ ذلك من أفضل مصاديق كفالة اليتيم، التي تحدّثت عنها النصوص الدينية.
إنّ السبب في هذا العزوف غالبًا هو الأنانية، وضعف المشاعر الوجدانية الإنسانية، والزهد في عظيم الأجر والثواب.
الإعداد القيادي للنبي
لقد هيأ الله تعالى محمدًا اليتيم وأهّلَه ليكون أفضل أبٍ ومربٍّ للبشرية كلّها.
ورد عن الإمام جعفر الصادق بسند معتبر: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ قَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾»[8] .
وقد حقّق الله تعالى على يديه أعظم إنجاز في التاريخ الإنساني، حيث بعثه بالرسالة الأكمل، الخاتمة للشرائع الإلهية، وقدّمَ النموذج القيادي الأروع والأكثر تأثيرًا في التاريخ، وهذا ما شهد به المؤرخون والعلماء والمفكّرون المنصفون من مختلف الأمم والديانات.
قال عنه غوستاف لوبون، وهو طبيب ومؤرخ وفيلسوف فرنسي (1841 - 1931م): إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ[9] .
ويقول المؤرخ الأمريكي (من أصل لبناني) الدكتور فيليب حتّي (توفي 1978م): (إذا نحن نظرنا إلى محمد من خلال الأعمال التي حقّقها، فإنّ محمدًا الرجل والمعلّم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد، يبدو لنا بكلّ وضوح واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسّس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية. وهو لا يزال إلى اليوم قوة حيّة فعالة في حياة الملايين من البشر)[10] .
ويقول المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار: (لم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشّرًا بدينٍ وحسب، بل كان كذلك مؤسّس سياسة غيّرت مجرى التاريخ)[11] .
فهو حقًّا اليتيم الذي صنع التاريخ، وكما قال الشاعر:
عادة يُكفل اليتيم ولكن كفل العالمين طرًّا يتيمُ[12]
صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين.