المسألة الطائفية في خطاب الشيخ الصفار
الطائفية من الأمراض المزمنة التي تنخر في جسد الأمة، وتفتك بنسيجها الداخلي، وتُدمِّر وجودها الكياني، حيث لا يلبث هذا الوباء الفتَّاك والمتوحِّش أن يخبو، أو يكاد يخفت، حتى يعاود الظهور مرة أخرى، وبشكل أشرس وأفظع ممَّا سبق، نتيجة لأسباب ذاتية، أو لأسباب موضوعية، ممَّا يؤدّي إلى إنهاك جسد الأمة وضعضعته، واستنزاف طاقات الأمة وهدر إمكانياتها، وإعاقة إرادتها في النهوض والتنمية والتقدّم، وتكبيلها بالقيود المانعة عن السير على طريق المستقبل.
ومع كل هذا الإنهاك والضعف والتضعضع، ما زالت هذه الأمة تتعرَّض باستمرار إلى المزيد من عمليات الضرب والفتك والإبادة والنحر والدمار والتشويه، بسبب ضعف الإيمان، وقلَّة التقوى، وعدم الورع عن استعمال سلاح الطائفية المُدمِّر، والاستخدام السيِّئ والمفرط لهذا السلاح ضد الذات، من خلال التحريض والتجييش المذهبي والطائفي، إلى العمل على تغذية حالات الإقصاء والنبذ والتخويف والتشكيك، وغيرها من ممارسات فتَّاكة مزَّقت حاضر الأمة وضيعت مستقبلها.
إن المتابع لخطاب «الشيخ حسن بن موسى الصفار»، يلحظ أن مسألة الطائفية ومشكلاتها وقضاياها، تحتل مساحة أساس من مجمل خطابه، وكأنها همٌّ يُؤرِّقه ويشغل تفكيره. فهو يرصد الكثير من المظاهر التي تتجلَّى فيها أمراض الطائفية، ويسلّط الضوء عليها ويبرزها، ومن ثَمَّ توجيه النقد إليها، وتقديم الرؤى والحلول التي تساهم في تنفيس هذه المشكلة وحلِّها.
ومع أنه يتحدَّث بصراحة، حين يشير إلى الخلفيات والأسباب التاريخية التي تكمن خلف هذه المشكلة، ومسؤولية التراث في ترسيخ ثقافة الطائفية، حيث يحاول إخضاعه للنقد والمراجعة، إلَّا أنه لا يذهب إلى الحدود القصوى في مساءلة هذا التراث، أو العمل على تفكيك بناه المؤسسة بشكل جذري. فخطاب «الشيخ الصفار»، في هذه المسألة، على ما يبدو، غير منشغل كثيراً بتشريح النصوص المؤسسة لتراث الماضي وتحليله وتفسيره، بقدر ما هو معني أكثر بالحاضر وقضاياه وتبعاته، والتعاطي مع إشكالياته ومشكلاته وأحداثه التي تثقل كاهل الأمة، وذلك من أجل بناء حاضر مختلف، ومستقبل متطور.
المسألة الطائفية في خطاب «الشيخ الصفار»، وما يرد حولها من موضوعات وأفكار، يمكن رصدها ومتابعتها في مجمل أحاديثه وكلماته وخطبه وحواراته، وفيما يكتبه أو يلقيه في مناسبات حوارية وطنية أو دينية أو تقريبية، حيث ازداد اهتمامه بهذه المسألة بعدما مر على الأمة من ظروف صعبة وحساسة ودقيقة من تاريخها، خصوصاً بعد احتلال العراق، وانفجار المسألة الطائفية فيه وتفاقمها، وخطر انفلاتها وانتقالها إلى مناطق أخرى، وتفشِّيها في بيئات مجاورة، إن لم يتم حصارها ووأدها في مكانها وفي مهدها، مع العمل على تحصين البيئات الوطنية الأخرى من الانجرار إلى متاهاتها المظلمة والسوداوية، والسقوط في مهاويها، من خلال رفع مستوى المناعة الدينية والأخلاقية والقانونية، التي تمنع جميع فئات الأمة وقواها وأطيافها من الانجرار إلى مصيدتها والوقوع في شراكها البغيضة.
طريق الخلاص
إن ما يمكن فهمه واستخلاصه واستنتاجه من خلال مضمون خطاب «الشيخ الصفار»، أن العمل على تحصين البيئات الوطنية، ورفع مستوى المناعة لديها، يتطلَّب رفع مستوى وعي الإنسان فيها، وخلق وعي اجتماعي مسؤول، وذلك من خلال التغيير الجذري والعميق لمنظومة الأفكار الاجتماعية التقليدية السائدة والمتوارثة منذ قرون، وخلق نماذج بديلة ومتطورة في الإدارة والاجتماع السياسي، تتجاوز النماذج الأبوية والقبلية والبطريركية التسلطية، حيث ما زالت الأمة تعاني من حالة الاستبداد والتعصُّب، واستمرار الركود الفكري والاجتماعي والانسداد السياسي، وظاهرة الصراع الدموي بين بعض أطيافها، وبينها والسلطة، والذي ساد خلال تاريخ الأمة الطويل.
لذا لن يتحقَّق هذا التغيير والإصلاح المنشود، كما لن تتجاوز الأمة إشكاليات الماضي ومعضلات الحاضر، إلا بإيجاد إصلاح فكري واجتماعي وسياسي عميق، تتطوَّر معه منظومة الحكم والسلطة والإدارة، ليكون ذلك القاعدة التي يقام عليها البناء التأسيسي لإقامة دولة مؤسسات عصرية حديثة متطورة، وليس مجرد إصلاحات فوقية وسطحية وشكلية، لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
ولعل ممَّا يمكن ملاحظته من خلال متابعة خطاب «الشيخ الصفار»، هو اهتمامه العالي بالمفاهيم والقيم والأخلاقيات، وتسليطه الضوء المركز عليها، والإعلاء من قيمتها في حياتنا العملية والعامة، وتأكيده على بثِّ ونشر معانيها والتبشير بها، وترسيخ مضامينها بيننا، والعمل بإخلاص على تمثُّلها في واقعنا وحياتنا اليومية المعاشة، حيث لا قيمة ولا معنى لها إن لم نتمثلها، أو إن ظلَّت مجرَّد مفاهيم طوباوية، وتعابير رومانسية، ترد وتتكرَّر على ألسنتنا، وفي أحاديثنا وخطاباتنا مجردة من مضامينها.
وفي هذا السياق يمكن لقارئ نصوص «الشيخ الصفار» والمتابع لها، التقاط ورصد ما يرد ويتكرَّر في خطابه من مفاهيم كثيرة، يؤمن بها ويدعو إليها، من مثل مفاهيم الحرية، وحرية إبداء الرأي والتفكير والاعتقاد، والإيمان بالديمقراطية والتعددية والاختلاف والتنوع، ونشر روح التسامح والمساواة بكل معانيها، وتكافؤ الفرص والعدالة، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان والمواطنة والأخوة، والتقريب والتقارب والوحدة والحوار والتعايش واللاعنف، والتعليم القويم والتنشئة السليمة والتربية الحسنة، ورفض الظلم والخنوع والاستبداد، وإلى غير ذلك من مفاهيم ومصطلحات كثيرة ترد في خطاب «الشيخ الصفار»، حيث يؤكِّد على ضرورة فهمها وتطبيق معانيها في الحراك الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي على أرض واقع مجتمعاتنا، وفي سلوكنا اليومي والحياتي، من أجل الدخول في العصر الحديث، القائم على الحريات، وإلغاء الامتيازات القائمة على المحسوبيات، بالإضافة إلى إعلان المساواة القانونية والسياسية لكل المواطنين.
ومن هذا المنطلق يأمل «الشيخ الصفار» أن تأخذ كل هذه المفاهيم حظها في الرواج والانتشار والتغلغل في ثقافة الإنسان المسلم وسلوكه، كي تؤدي مع الزمن إلى تكوين واقع جديد ومختلف عما هو سائد من ثقافة طائفية مصحوبة بمعاني التفرقة والتعصب والاستبداد والإقصاء باسم الدين وقيمه، حيث يُغلِّف البعض قناعاته بقناع ديني زائف لتبرير تجاوزاته البغيضة وأعماله الشريرة، في الوقت الذي لا ينفك «الشيخ الصفار» عن الالتزام بإبراز القيم الدينية الأصيلة، وبتأصيل القيم الإيجابية مهما كان مصدرها، والموائمة بين المفاهيم الحديثة والمعاصرة والتراث، والدعوة إلى تبيئتها وتثبيتها كقيم أصيلة وراسخة، على أساس أنها جزء من قيم الدين الأساسية المعتبرة، أو أنها لا تتعارض مع مقاصد الدين.
التغيير بالحوار
إن مشكلة الطائفية وما يرافقها من أذى وضرر يصيب الإنسان والمجتمع، لن يتم فهمها ومعرفة أبعادها وانعكاساتها، بالإضافة إلى مصادر نشأتها، ومن ثم السعي إلى اجتثاث جذورها والتخلص منها، إلَّا من خلال إعادة صياغة عقلية الإنسان المسلم وثقافته بالتربية والتثقيف والتعليم، ومن خلال طرق وأساليب الحوار المختلفة، التي يشترك ويساهم فيها جميع مكوّنات المجتمع، بدون إقصاء أو استثناء لأحد، لنفض الأفكار البالية القابعة في الرؤوس منذ زمن طويل، وسعياً إلى تجاوز الركود الفكري والاجتماعي، الذي ساد لقرون ماضية، وورَّثنا الكوارث والأزمات والتخلُّف، من أجل إحداث تحوُّلات فكرية عميقة، وتحديث فكري متين، تتطوَّر معه منظومة الحكم والسلطة والإدارة.
إلَّا أن المعضلة هنا، والتي دائماً ما نشكو ونعاني منها، ونضجر بسببها، وخصوصاً حينما نتحدَّث عن موضوع الحوار، تكمن في أن أهل الحوار والمؤمنين به، والمنتسبين إلى مدرسة الحوار، والمنتمين إلى ثقافتها، هم قلَّة، على الرغم من دعوة الدين وحثِّه الدائم على التمسُّك بهذا النهج والاقتداء به، لما يختزنه مفهوم الحوار من ثروة هائلة لا تنضب، حيث تحتاج إلى من يكتشفها ويستثمرها الاستثمار الأمثل، ليس فقط من أجل حاضر هذه الأمة ومستقبلها، وإنما أيضاً من أجل ماضيها، ماضيها الذي يحتاج منا إلى المراجعة والتقييم والنقد واستخراج العبر، وكل ذلك بالطبع من خلال التفكير والتفكُّر، والحوار النقدي الخلاق.
وانطلاقاً من هذا المعنى يمكن لأيِّ أحد أن يختلف مع «الشيخ الصفار» وأفكاره ورؤاه، وهو أمر طبيعي ولا ضير فيه، بل هو أمر مستحسن ومطلوب ومرغوب فيه، لما في الاختلاف والتعدُّد من فوائد جمَّة لا تُحصى. وإذا كان هناك اليوم من يعارض نهج «الشيخ الصفار» وأفكاره، فإنه لمن المؤكَّد أن هناك على الطرف الآخر من هو مقتنع بنهجه وراضي عن أفكاره، حيث تحوَّل هذا النهج إلى حالة وتيار له شعبيته وثقله وموقعه، ويضم عدداً كبيراً من العلماء والخطباء والمثقفين والناشطين اجتماعيّاً.
ولعل ما يميّز «الشيخ الصفار»، ضمن هذا الإطار، أنه شخصية حوارية، ويمارس نهجاً استيعابيّاً يشجّع على التقارب والتعاون، والقبول بالتعدّدية والاختلاف في الرأي، فهو مُتمرِّس في هذا الشأن، وذو خبره عالية في الحوار، تجيد أصوله وفصوله، نتيجة ما راكمته من تجربه وممارسة امتدَّت على مدى سنين طويلة، تحوَّلت إلى خبره عريقة، قلّ إن تجدها عند غيره ممَّن لم يخوضوا مثل هذه التجارب الحوارية، أو لم يُطوِّروا إمكانيات وأدوات الحوار في ذواتهم وشخصياتهم.
إن التجارب الكثيرة التي انخرط وشارك فيها «الشيخ الصفار» عمَّقت تجربته الحوارية، وأكسبته خبرة واسعة في معرفة أساليب الحوار وطرقه المتنوِّعة. فالتراكم المعرفي الذي لا يصاحبه ويتبعه الانخراط في تجارب حوارية عملية، غالباً لا تضيف إلى صاحبها خبرة وتراكمًا نوعيًّا في مجال الحوار والجدل والسجال، لأن تعدُّد التجارب الحوارية وتكرارها يصقل هذه القدرة عند الفرد، وتتحوَّل مع الزمن إلى خصلة وسجية من مكوّناته الشخصية وعاداته الطبيعية، التي يمارسها بشكل روتيني وبدون تكلُّف.
من الأشياء الأخرى التي يتميَّز بها «الشيخ الصفار» أيضاً، أنه صاحب رؤية ومشروع واضح المعالم والخطوط، ولا يصعب على أيِّ متابع لخطابه إمكانية معرفة هذه الرؤية ومعاينتها وتلمسُّها، من خلال أقواله وكتاباته وممارساته وأفعاله، وهو الأمر الذي يُمكن للجميع رصده ومتابعته، ومن ثَمَّ نقد خطابه ومساءلته، سواء كان ذلك بالكلمة والقول والكتابة، أو بالحوار المباشر والصريح، فالذين يتصدَّون للشأن العام وقيادة المجتمع وتوجيهه ليسوا ملائكة، ولا ينبغي لهم أن يكونوا كذلك، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، وما علينا إلَّا أن نراقب ونرى وننتقد ونحاسب، بعيداً عن لغة القوة والشتيمة والتجريح والتسفيه، بل من خلال الكلمة الطيبة والقول الحسن وقوة المنطق، لا بمنطق القوة.
«والشيخ الصفار» يُسلّم بأن كل من يعمل في الشأن العام عليه أن يتوقَّع وجود معارضين له، يخالفونه في الرأي، أو يثيرهم بروز دوره وتصدِّيه للشأن العام، وعلى الإنسان أَلَّا يطمع في رضا كل الناس عن شخصه ودوره، أو موافقتهم جميعاً على كل آرائه وتوجُّهاته، فكما لديه رأي، للآخرين آراؤهم ومن حقّهم التعبير عنها، وليس هناك صاحب رأي وموقف محقّاً كان أو مبطلاً لم تواجهه معارضة في مجتمعه، إلَّا أن ما يتمنَّاه «الشيخ الصفار» هو ترشيد أسلوب الخلاف، بأن يتَّجه إلى مناقشة الرأي والموقف، بدل التجريح والتسقيط الشخصي، حيث يطرح كل طرف مشروعه ورؤيته البديلة، بدل أن ينشغل بنقد الآخرين فقط، والعمل ضدهم.
ومن خلال وحي تجربته الشخصية، يشير «الشيخ الصفار» إلى أنه استفاد من وجود المعارضين له لاكتشاف الثغرات ومواضع الخلل في طروحاته ومشاريعه، فالإنسان ليس معصوماً، وقد يفيده مُخالِفه في تشخيص نقاط ضعفه، لذلك من المهم الابتعاد عن المكابرة، والمبادرة إلى الإصلاح والتصحيح، فوجود المعارضين يستثير همَّة الإنسان وتحدِّيه على الصعيد الشخصي، وعلى مستوى التيار الذي معه، فيُذكي حالة التنافس في سياقها الإيجابي.
الإصلاح كعمل تراكمي
يمكن القول بأن خطاب «الشيخ الصفار» حول المسألة الطائفية، يتوزَّع على عدد من المحاور الرئيسية المهمَّة، ويتعرَّض للعديد من القضايا والمسائل، ويثير الكثير من المشكلات والإشكاليات، التي يمر بها واقع الأمة، بالإضافة إلى ما يتضمَّنه خطابه من اقتراحات وأفكار تساهم في حل مشكلة الطائفية ومعضلاتها، إلَّا أن الملاحظ أن كل تلك الأفكار والرؤى تتوزَّع وتتناثر على مجمل خطابه، وغير محصورة ضمن كتاب واحد وبشكل تفصيلي ومبوَّب.
وعلى الرغم من أن رؤية «الشيخ الصفار» حول المسألة الطائفية مبثوثة وموزَّعة في مجمل خطابه، إلَّا أن القارئ لخطابه يلحظ دقَّة توصيفه للمشكلة الطائفية ومنابع جذورها، ومكامن الخلل في واقع الأمة اليوم، وعمق الأزمة التي تعيشها، حيث يتحدَّث الشيخ الصفار حول هذه المشكلة بشكل واضح ومباشر، ولا يخلو كلامه من الجرأة، والكلام الصريح، على الرغم من تكلِفة هذه الصراحة، وتكلِفة مواجهة المدِّ الطائفي المتوحِّش، وتكلِفة الوقوف أمام موجاته العاتية، بالإضافة إلى الثمن الباهض الذي يمكن أن يدفعه من يجاهر بكلمة حق في الدعوة إلى مواجهة الطائفية وصد تمدّدها، والدعوة إلى الوحدة والتقارب والتآلف، ومجابهة باطل التفرقة والتمزُّق والانقسام.
إن خطاب «الشيخ الصفار» النقدي والصريح للأوضاع الدينية والاجتماعية والثقافية القائمة، ودعوته إلى تجاوز نمط التفكير السائد، وتحديث مجتمعاتنا بالأفكار الجديدة، وتبنِّيه الدعوة إليها، والتزامه التبشير بها، ليس وليد لحظة الانفجار الذي عصف بالمجتمعات العربية عندما أقدم الشاب التونسي «محمد البوعزيزي» على إضرام النار في جسده في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، احتجاجاً على الظروف الاجتماعية والمعيشية الصعبة التي كان يمرُّ بها في مجتمعه، حيث شكَّل عمله هذا نقطة انطلاق لتحرُّك شعبي واسع عمَّ العديد من البلاد العربية، بدا في حينه وكأنه إيذاناً ببدء حدوث تداعيات وتحوُّلات وانقلابات كبرى في المنطقة.
لذلك يمكن الجزم بأن خطاب «الشيخ الصفار» الإصلاحي يعدُّ سابقًا على لحظة الاحتراق بزمن ليس بالقصير، ففي الوقت الذي كانت فيه الجماهير العربية تنادي بأعلى أصواتها، مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والمشاركة، ورافعة شعارات التغيير والإصلاح، وداعية إلى تحرير الإنسان/ المواطن من قيود الاستبداد والظلم والقهر والتخلُّف، كانت هذه المطالب والقضايا والأفكار والمفاهيم والقيم تشكّل عصب خطاب «الشيخ الصفار» الإصلاحي، حيث يمكن ملاحظة ذلك من خلال كتب «الشيخ الصفار» المطبوعة والصادرة قبل تلك الشرارة التي أشعلها وأطلقها «البوعزيزي» فأحرق بها جسده.
لا يمكن الشك بوجود رؤية إصلاحية عند «الشيخ الصفار»، يمكن رصدها وتحديدها من خلال متابعة خطابه، إلَّا أن السؤال عن نتيجة وحصيلة هذا المشروع، ومقدار ما تحقَّق وتجسَّد منه على أرض الواقع، يبقى أمراً مشروعاً وخاضعًا للتقييم، على أن ما يمكن إضافته هنا، هو أن الأفكار والمفاهيم والقيم الجديدة، والسعي إلى تغيير نمط التفكير السائد، يحتاج إلى زمن وعمل تراكمي، قد يطول وقد يقصر، بناء على ظروف كل مجتمع، حيث يمكن أن تتراوح نتيجة هذا الحراك بين النجاح والفشل.
إنه لمن المؤكَّد أن الأزمات والنزاعات والقلاقل والتحدِّيات التي يمر بها أيُّ مجتمع، تساهم بدون أدنى شك في تسريع اختمار الأفكار الجديدة، واستيعابها وتمثُّلها. فالمجتمعات الحية التي تكافح من أجل الإصلاح والتغيير، وقيود عصر السياسات التقليدية، وتسعى إلى إعادة صياغة حياتها بما يتَّفق والتطوُّر الحضاري السائد في هذا الزمن، تشهد في العادة حوارات ونقاشات وجدالات واختلافات حادة وصاخبة بين أطرافها وأطيافها وقواها المختلفة، تساهم في تفكيك البنية الثقافية التقليدية السائدة، وتخلق أرضية خصبة ومناسبة لعمليات التغيير والتحوُّل، وتتهيَّأ معها، أو نتيجة لها، ثقافة مرنة قادرة على استيعاب وإدماج المفاهيم الجديدة وتقبلها وإعادة إنتاجها بصورة تستوعب المتغيرات الواقعة والحادثة.
خلاصة القول: إن تزايد الحديث اليوم عن المسألة الطائفية، يشير إلى تفاقمها المتوسِّع والمُطَّرد، وانتشارها المتزايد والمتعاظم في حياتنا المعاصرة، وتداعياتها السلبية وانعكاساتها المدمرة على حياة البشر، حيث أخذت الكثير من المجتمعات والدول تعاني من تداعيات ومفاعيل هذا الأمر، وما ينتج عنه من سلبيات خطيرة ومكلفة، تُهدِّد كيان الأمة وشعوبها بالتفكُّك والضعف والانهيار، وهو بالتالي ما ينعكس سلباً على سلامة وقوة هذه الأمة ومنعتها.