العلامة الشيخ حسن الصفار.. مد الجسور وسعي للإصلاح والاعتدال
ليس من السهل على شخصية دينية تصدَّت للواقع الاجتماعي في ظروف حرجة ومنطقة معقَّدة أن يتمكَّن من مدِّ الجسور مع مختلف الاطراف داخل الساحة التي يعمل فيها، وخارجها، ومع من يختلف معهم فكريًّا وفقهيًّا، وأن يحافظ على نهج الاعتدال إلَّا إذا كان متعمِّقًا في الفكر ومنغرسًا في المجتمع، كما هو حال سماحة العلَّامة الشيخ حسن بن موسى الصفار.
فالشيخ الصفار استطاع أن يجمع الإلمام بتعقيدات المجتمع السعودي، والوعي بكل مرحلة من مراحل حياته، وكيف يمكن موازنة الأمور واعتماد الضوابط الإسلامية والوطنية للخروج بمواقف عملية تصبُّ في الصالح العام، وتنشر الفكر المعتدل الذي يجمع الناس على الخير ويدفعهم إلى الإمام.
تميَّز الشيخ الصفار بثباته على المبادئ الإسلامية والوطنية، وإعادة التموضع مع تغيُّر الظروف من دون الإخلال بتلك المبادئ السامية التي يعمل من أجلها طوال حياته. وعلى أساس ذلك نفهم كيف تحرَّك الشيخ الصفار في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين ليكون في طليعة الذين تصدَّروا النشاط في منطقته بالمملكة العربية السعودية، وفي العوالم المحيطة به. وطوال عمله في هذا المجال، عُرف عنه الالتزام بثوابت لا يحيد عنها، وهذه الثوابت أسست شخصيته المستقلَّة والمتطلِّعة لإصلاح الواقع. ويمكن النظر -أيضًا- إلى المحيطين بالشيخ الصفار الذين تأثَّروا بنمط حركته الاجتماعية، وكيف ساهموا بإخلاص في الدفاع عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
الشيخ الصفار تميَّز بقدرته على اتِّخاذ القرارات الصعبة في المنعطفات التاريخية التي مرَّ بها، وهذا ما نلحظه في تسعينات القرن الماضي، عندما أعاد توجيه نشاطاته وتحرُّكاته بما يتَّسق مع الفرص التي توفَّرت آنذاك من دون إخلال بالمبادئ. ومنذ حينها، كان ولايزال ينطبق على أساس القواسم المشتركة في مجتمعه المباشر، وفي بلده، وفي العالم الإسلامي الأكبر الذي ينتمي إليه بصفته فاعلًا ومؤثِّرًا. لقد تمكَّن الشيخ الصفار من إغناء الساحة الفكرية ليس من خلال كتاباته فقط، ولكن -أيضًا- من خلال الذي كانوا يحيطون به منذ البداية، وأصبحوا مع مرور السنوات من اعلام الفكر والثقافة يشار إليهم بالبنان، والذين يعتبرون من المصادر المهمَّة التي لا يمكن الاستغناء عنها لكل الباحثين في المجالات المرتبطة بالحراك السياسي والثقافي داخل السعودية وخارجها.
عرف عن الشيخ الصفار صراحته في توضيح منطلقاته الفقهية والفكرية والوطنية، ولذا فلن يكن خافيًا على المقرَّبين أو البعدين عنه إلى أي توجَّه ينحو، وعلى أيَّة مدرسة فقهية يعتمد، وما هي الحدود التي يعمل في إطارها. ولذا فإن محبيه ازدادوا، والمتأثِّرين بنهجه كثروا؛ وذلك لأنه يدمج توجيهاته بنشاط مجتمعي مباشر يلامس قضايا الناس أولًا بأول.
ستجد الشيخ حسن الصفار يتحدَّث عن عمل رسالي متكامل أخلاقيًّا ومرتبط بالمجتمع من خلال التعامل والتفاعل مع المتَّفقين معه ومع المختلفين -أيضًا- في الرأي، وستجده يلتزم بأخلاقيات وثوابت تجمع الناس بدلًا من أن تفرّقهم، وتبتعد عن الحزازات أينما وجدت سعيًا نحو التوافقية داخل المذهب الإسلامي الذي ينتمي إليه، ومع المذاهب الفقهية الأخرى، والاتجاهات الفكرية المختلفة.
لقد استطاع الشيخ حسن الصفار، ومن خلال علاقاته الوثيقة والعميقة مع مختلف الأطراف، أن يتجاوز مرحلة القطيعة والتشنُّج، وساهم في دعم جهود الحوارات الإسلامية والوطنية داخل السعودية وخارجها، شاملًا بذلك مختلف الأوساط والأطياف. فمن وجهة نظره، فإن العلاج للتطرُّف يكمن في التعرف على من يُغذِّي الصراع والخلاف، ولماذا، ومن ثَمَّ الانطلاق نحو إزالة سوء الفهم لتلك القضايا التي تُعكِّر التواصل والتعامل مع الرأي الآخر.
لقد أصَّل الشيخ الصفار لفكرة التعدُّدية والقبول بها على أساس فكري ومذهبي، وإبراز الوجه الحضاري المشرق المعتمد على ثقافة التسامح والوحدة الإسلامية والوطنية، واحترام حق الاختلاف في الرأي، وتأكيد حق الناس في المشاركة في الشأن العام. فقد وجد الشيخ الصفار أن استيعاب الوسط الإسلامي للأطروحات المعاصرة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والدستورية، ومفاهيم المجتمع المدني وما يرتبط بذلك من الحريات السياسية العامة، أمر ضروري طالما أنها ممارسات تتَّسق مع أساسيات الدين. ومثل هذا النهج كان موجودًا في الحوزات والساحات الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين، ولكن الاستفادة من ذلك كانت محدودةً بسبب التعثُّر في إعادة قراءة النص بما يفسح المجال للالتزام بالأصول الدينية من جانب، ومواكبة تطوُّرات العصر من جانب آخر. ففي التاريخ الإسلامي، مثلًا، كان هناك تعايش وتسامح مع أهل الكتاب، ولكن كان ذلك تحت اشتراطات تناسب ظروف ذلك الزمان، ومن أجل تفعيله في زماننا فإن هناك حاجة لجهود فكرية متواصلة لتعميق القناعات بشأن الموضوعات الرئيسية التي تواجه الإسلاميين أثناء ممارستهم دورهم في الحياة العامة.
وعليه، فإن الشيخ الصفار يطرح قضايا التعدُّدية والحرية في الإسلام من خلال بحوث حول حرية المعتقد وتعدُّد المذاهب، لينطلق بذلك من أجل تحديد مواقف عملية في الحياة العامة الراهنة. فهو لا يُنكر وجود بعض المشاكل، ولكنه يُصرُّ على أن تطرح الحلول من خلال المرجعية الإسلامية، وألَّا يكون ذلك نتيجة لضغوط خارجية. ويُشير في مطارحاته إلى أن جوهر المشكلة يكمن في عقلية قبول الآخر والرأي الآخر، «فنحن تربَّينا على الأحادية، وعلى رفض الرأي الآخر». ويُوضِّح الشيخ الصفار ان ضُخّت لنا ثقافة ترفض التعدُّدية ولا نقبلها، «ونمارس الرفض في مختلف الدوائر، القريبة والبعيدة، بينما القرآن يُوجِّهنا إلى أن نقبل الرأي الآخر المخالف لنا في الدين، فيقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، وإن هذه الآية تذكر ست ديانات كاعتراف بوجودها في الواقع الخارج». ويؤكد في الوقت ذاته «أما من حيث الصواب والحق فإن الدين عند اللَّه هو الإسلام. بل إن القرآن يخاطب الديانتين المنافستين بأهل الكتاب، وهذا اسم للاحترام. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقبل بوجود النصارى واليهود كأمر واقع مع قوله: إن الدين عند اللَّه الإسلام. ولكن في الواقع الحياتي كان يقبل وجود الآخرين. والحديث المشهور موجود في صحيح البخاري وفي وسائل الشيعة: إن الرسول كان جالسًا فمرت جنازة فقام وقام الأصحاب وقالوا: يا رسول اللَّه، إنها جنازة يهودي. قال: أَوَليست نفسًا؟ هكذا كان يتعامل نبينا. ونحن كيف نتعامل فيما بينا. يقول القرآن: ﴿لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ لم يقل: المسلمين؛ لأن التكريم الإلهي للإنسان بعنوانه الإنساني بغض النظر عن العناوين الأخرى».
لقد تصدَّى الشيخ الصفار لمبادرات الوحدة والتآلف، وشارك بفعالية في جهود التقريب بين المسلمين، رغم حالات التشنُّج الطائفي، مؤكدًا «أدركت مبكرًا ضرورة تجاوز مثل هذه التوجُّهات، واعتماد منطق الاعتدال والتسامح والحوار والعمل البناء لمعالجة مشكلة الخلاف والتمييز الطائفي». وهو كان قد أعلن عن تحوُّلات فكرية وسياسية في نهجه عندما كان خارج السعودية تبعًا لتغيُّر قناعاته، وأعقب ذلك انفتاحه على التواصل مع المسؤولين الرسميين في السعودية، وقد تغيَّرت لغة الخطاب السياسي والديني، وثم عودته مع زملائه إلى وطنهم لممارسة دور ثقافي اجتماعي فاعل ومؤثِّر في الساحة.