(2 - 2) الصفار وأنفاس واعدة.. المعرفة والسلوك
قسَّم الأستاذ حسن الصفار ابن آدم إلى عقل، ونفس، وجسد، وجهة القسمة - حسب دلالة السياق - تدبير السلوك.
قال أبو عبد الرحمن: هذه قسمة فيها خلط إلّا إن جعل النفس بمعنى الروح، ثم فيها بعد ذلك نقص، والصواب التقسيم الرباعي بجامع تدبير السلوك وهو: الروح، والجسد، والعقل، والقلب، والنفس هي مجموع ذلك كله، تقول: جاء محمد نفسه، أي ذاته.
قال أبو عبد الرحمن: من الجسد الجوارح، والحس الظاهر، والغرائز، والروح علمها عند ربي، والعقل محل تخزين صور المحسوسات الظاهرة والباطنة وتصورها وتذكرها، وبه معرفة العلاقة بين الأشياء، وأحكامها والتجريد والتركيب، وطريقه إلى كل ذلك التأمل (التفكر) والتذكر والتخيُّل.
والقلب محل المشاعر والانفعالات الباطنة والعقائد، وهو ينكر ويعرف بواسطة مصادر المعرفة وأحكام العقل، وهو محل النية والعزم على تدبير السلوك، والسلوك الصالح مسبوق بالنية الصالحة، ولهذا يكثر في نصوص الشرع مخاطبة اللب والقلب والفؤاد، لأنّه محلّ الإيمان بالحقائق التي تمليها أحكام العقل، فالعقل يقرر الأصوب والأنفع والأجمل بيقين أو رجحان، والقلب يقرر العزم ويضمره، ولهذا سمي ضميراً، والجوارح تنفذ، وكل هذا تفسير موفّق لقول الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[سورة الشمس/ 7 – 10]، فالنفس ذات الإنسان كله، وتسويتها خلقها، والإلهام فطرة الله الكونية للعقل الذي هو شرط التكليف، وللقلب الذي يرتاح للحقائق، ويتدرب على الصبر على ما يحدثه قمع بعض النوازع، ثم ما تحدثه شهواتها من نزوع إلى غير المشروع بعد اشباعها بالمشروع، فالعقل والقلب يزكيان النفس أو يخيبانها، فإذا اجتمعت المعرفة الصحيحة، والنيّة الصالحة، والعزم الصادق، والمباشرة الجادة، كان بذلك تزكية النفس للنفس، لأنّ النفس الذات فهو يزكي ذاته بذاته حسب إلهام الله الفطري، وتنزيله الشرعي، وحرية الإنسان وقدرته ولهذا لا يؤاخذ الله غير مختار ولا قادر.
وبراهين وجود الله وكماله ووجود شرعه وحكمته مرغمة للعقول على التصديق، لأنّ العقل لا يقابلها الا بالعناد وافتراض المحال، لهذا كان الشرع - إذا صح ثبوتاً ودلالة - ضرورة عقلية، وأما الضرورة القلبية (إذ قد يغلب العقل على نيته) فهي الموعظة والذكرى - أي التذكير بأحكام العقل، وثمار الخبرة -.
قال أبو عبد الرحمن: ولا أعلم وجهة نظر للأستاذ الصفار في جعله الروح وعاء يشمل العقل والنفس والجسد، بل الجسد وعاء العقل والقلب والروح، ولهذا وردت الأخبار الشرعية الصحيحة بأن الروح تسل وتنتزع من الجسد، والعقل والقلب جزءآن من الجسد، والروح من أمر ربي إلّا أن العقل والقلب والغرائز والجوارح كلها معطلة بعد فراق الروح.
وأيضاً لا أجد دليلاً للأستاذ الصفار على أن القرآن استعمل النفس بمعنى القلب، بل هي الذات كلها.
وصحيح أن مهمة العقل الإدراك تصوراً وحكماً وتمييزاً، ولكن الذي يتخذ الموقف بطاعة العقل أو عصيانه - هو القلب بنياته وعقائده وحميته، والجسد بغرائزه وجوارحه، وقال الأستاذ الصفار: ولكن المنطق الإغريقي المتداول والذي رتب مسائله وفصوله أرسطو، قال أبو عبد الرحمن: الصواب هنا حذف واو العطف قبل الذي؛ لأنّ الموجود عندنا موصوف وصفتان، وليس الموجود موصوفين وصفة واحدة، واسم الصلة يغني عن الواو في الإشعار بتعدد الصفة.
ولخّص الأستاذ الصفار - وهو معذور في ذلك - تعريف المنطق وغايته بقوله: قالوا في تعريف علم المنطق: إنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وقالوا عن تحديد وظيفته وغايته: إنها تجنب الخطأ، وتصحيح أفكارنا.
ثم شفع باستدراك العلامة المدرسي عن إهمال المنطق لنظرية المعرفة.
قال أبو عبد الرحمن: كتبت بهذه الجريدة تباعاً منذ عام أو أكثر أن الأجيال غلطت على أرسطو - بدليل كتابه في السفسطة - فظنت انه يريد بالمنطق عصمة الذهن من الخطأ بإطلاق!!، وهو لم يرد ذلك (وإن أجمل العبارة) ولم يخطر ذلك بباله، وإنما أراد عصمة الذهن من أخطاء سوفسطائية معينة ولَّدها السوفسطائيون، وقابلها هو بصيغ القياس المنطقي، والقضايا المنتجة وغير المنتجة، وانما الذي يعصم الذهن من الخطأ حذق نظرية المعرفة ودورانها بين المتعيَّن والممكن والمحال، وثنائية معرفة الوجود بالخبر الصادق ووصفه أو معرفة بآثاره، ومعرفة الكم والكيفية بالمعاينة.
ومصدر المعرفة العقل بإطلاق، وانما يتنوع المعقول بتنوع مصدر المعرفة العقلية، فالعقول المحض قوانين الفكر الفطرية من البدهيات المشتقة من مبادئ العقل، وجماعها الهُوبَّة ـ بضم الهاء ـ ثم السببية والتناقض والتضاد، والعقل المستند إلى الخبرة ما ارتد إلى البدهيات التجريبية المبنية على البدهيات الفطرية، وبهذا يكون الشرع مصدراً للمعرفة بحكم العقل، والتاريخ واللغة والإلهام، إلخ مصادر للمعرفة في الوضعية التي يقرها العقل، وهكذا الحس مصدر عقلي للمعرفة بوضعيته، فما يرى من القمر بالرؤية هو حقيقة القمر بتلك الرؤية، وما يرى منه بالتلسكوب هو حقيقته برؤية تلك الآلة، وبهذا السمو الفكري فرق أهل الظاهر بين نظرية المعرفة البشرية العامة، ونظرية المعرفة الشرعية الخاصة.
والمنطق الارسطي إذا رُدَّ إلى نظرية المعرفة أصبح كأصول الفقه للفقه، وهو ثري بقواعد تصلح أصولاً لتطبيق نظرية المعرفة.
قال أبو عبد الرحمن: وليس بصحيح ما نقله الأستاذ الصفار عن المدرسي من كون معالجة النفس - اي ما يحكم السلوك من عقل وقلب وغرائز - مقدمة على تصحيح العلم، بل تهذيب النفس بصحة الإدراك لا تهذيب لها بغير ذلك، فكيف يكون المشروط سابقاً للشرط؟!.
قال الأستاذ الصفار: لو راجعنا التاريخ ونظرنا إلى الواقع المعاصر لوجدنا أن اشخاصاً لديهم القدرة الكبيرة في الجانب العلمي والعقلي، وعقولهم تختزن معلومات واسعة جداً، ولكنهم في اسفل الدرك من الشقاء والانحطاط، وابرز مثال على ذلك إبليس، فهل كان انحطاطه وشقاؤه لقلة علمه؟.
قال أبو عبد الرحمن: كلا، بل انحطاطه لعدم عمله بعلمه الذي هو مقدم على العمل، ولا خير في سلوك لا يسبقه صحة العلم إلا ما وافق الصواب أو الإصابة من تقليد العوام الذين أمروا بلغة صريحة مفهومة أن يسألوا اهل الذكر، ومنحهم من العقل الانساني المشترك والحس ما يميزون به بين الأمثل ومن هو دونه، وهذا جواب لما ذكره أيضاً ص 24، وهو العلاج للنشوء في أجواء ضلال السلوك لذوي العلم المادي، وهو العلاج أيضاً لما ذكره ص 68 - 69 عن النشوء في ظل الأعراف غير الشرعية، إلّا انني اقول: مهما كانت وطأة البيئة المنحرفة على الفرد فلا أثر لها في العقد النفسية إذا صح العزم على الاعتصام بالشرع وحقائق العقل.
ذكر الاستاذ الصفار ص 74 ترك الجهاد في سبيل الله باسم العبادة والاستسلام للباطل باسم التقية، وترك الحسبة بحجة التقليد.
قال أبو عبد الرحمن: الجهاد عبادة اذا ملك المسلم أداته، وأجرى المعادلة بين قدرته وقدره، ولا تقية في دين الله، بل دين الله علني على المآذن والمنابر، ولا يأخذ بالتقية بين المسلمين الا منافق يظهر ما لا يبطن، ويكون ما يبطنه مما يستحيي منه، لأنه مفلوج بالبرهان، وانما التقية لمسلم بين كفار أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وهو يريد خيراً لنفسه، ولا يريد شراً لأهل القبلة كالمسلمين في الاندلس منذ القرن التاسع الهجري، وكالمسلمين في عهد تيتو وخرشوف، والعبادة لا تسقط في الجهاد نفسه، والتقليد في محرم أو ترك واجب لا يجوز.
وقريب من ذلك قول بعضهم: العلماء وصلوا إلى القمر، وفتقوا الذرة ونحن نختلف في احكام الوضوء، كما قال الاستاذ محمد الغزالي المعاصر -رحمه الله-، بل إن بعض الدعاة نكت على العلماء بأن الفرنسيين دخلوا الشام وكان بعض العلماء يختلفون في حكم زواج الحنفية بالشافعي، وان الفقهاء مشغولون بالمبالغة في تنقيح مذهبهم الفقهي والنصارى تهاجم بلادهم الأندلس من كل جهة.
قال ابو عبد الرحمن: أحكام الوضوء من دين الله وحق على كل عالم قادر أن ينقح ويحرر اجتهاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الا أن الاختلاف على علماء القيادة في الجهاد محرم والاختلاف في زواج الحنفية بالشافعي عصبية منتنة، ودين وضعي على مراد إبليس لعنه الله، وليس من دين الله في شيء.
ولا عيب على الأندلسي أن يحرر فقهه، وإنما المنكر أن يترك الجهاد وهو قادر عليه باليد والتوجيه، والدولة المسلمة مسؤولة عن المعادلة في توزيع الاختصاص، فيسهر الفقيه في تحرير احكام الديانة كما يسهر عالم الذرة في حقله العلمي.
وكتاب الاستاذ الصفار مشحون بالنقل عن آل البيت رضوان الله عليهم نقلاً يفوق نقل النصوص الشرعية، بل قال: لا أفضل من التتلمذ على توجيهات ووصايا أئمة الهدى وجدهم الأعظم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الرحمن: النصوص التي نقلها الصفار في كتابه عن آل البيت رضوان الله عليهم كلها حق صحيح، لموافقتها لنصوص الشرع فهي كلام سادة أطهار وفقهم الله باتباع الشرع من القرآن والسنة، أما دعوى أن لهم نصيباً من العلم بالوحي وإبلاغه فيحتاج إلى احالة برهانية من لغة الشرع الصحيح الصريح، ومصادر التشريع معروفة، وقد اسلفت الحديث في المداخلة الاولى، ولو جاء واحد من آل البيت قديماً أو حديثاً بقول أو سلوك غير شرعي: لاقتضت محبة الله ومحبة رسوله - التي بها أحببنا أهل بيته - رد ذلك، فالمحبة اتباع، وقد أنزل الله سورة هجاء لأبي لهب لعنه الله، فلم تنفعه قرابته، ثم اتباع آل البيت رضوان الله عليهم من جهتين:
الأولى: تصديقهم في نقلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أسوة الصحابة رضي الله عنهم في الصدق والعدالة مع احتمال الخطأ والوهم.
والثانية: اتباعهم في الاجتهاد فهم أسوة المجتهدين من عدول الأمة، وضرورة الاتباع مع عدم القدرة على الاجتهاد.
والله سبحانه استحفظ اهل الاديان دينهم فضيعوه، وتكفل بحفظ دين الاسلام، فجعل من خصائص امته الاسناد المتصل بالعدول، ولهذا قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله- الاسناد من الدين، ولولا الاسناد لقال من شاء ما شاء، وقد لاحظت أن الاستاذ الفاضل لا يحفل بهذا في كثير من المواضع، فينقل الحديث عن مصادر متأخرة ليست متصلة السند بالعدول كما في ص 53 و71 و78 و80 و86.
وأعود إلى النفس في الشرع فأجدها للنفس المنقادة للهوى وهي لغة تعم الخيرة والشريرة، والسر في ذلك، أن نوازع الغريزة الغضبية والشهوانية امكن في النفس البشرية ولهذا احتاجت إلى الاهتداء بالعقل والشرع وموأمة[1] الفطرة، واحتاجت إلى الصبر والرياضة والجهاد لأن النفس مولعة بحب العاجل، ولأن اتباع الحق ثقيل على أنانيته ومن تلك النصوص قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[سورة يوسف/ 53] فالسياق عن الغريزة الجنسية تجاه اجمل مخلوق - وهو يوسف عليه السلام - فتلك تطغى على نداء العقل والدين الا امام مشمر جاد تقرب لله بالطاعات فأيده بالعصمة، ولهذا يمن ربنا على عبده بالعصمة ابتداء احساناً منه وفضلاً ويمن عليه بالعصمة جزاء على تتابع طاعته، وذلك غاية الاحسان في الجزاء، ولا يضل عبده ابتداء عدلاً منه، ويضله على محادته وعناده جزاء عادلاً منه سبحانه، ولهذا ختم على قلوب المعاندين المبارزين لله بالمعصية وصرف عن آياته المتكبرين، يفسر هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [سورة الرعد/ 11﴾ فيشمل ذلك التغيير في الدين، والتغيير في الفطرة، ومخالفة ما وقر في القلب من الحق بدافع العناد والحمية، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [سورة النساء/ 79] لأن الله جعل التكليف بشرط حرية الاختيار والقدرة على الفعل أو الترك.
قال ابو عبد الرحمن: وبإيجاز فهذا الكتيب - بعد تعديل واختصار واضافة - يصلح مقدمة لعلم النفس الغربي في مراحل الدراسة المنهجية والله المستعان.