من ذكرياتي مع الشيخ

مدخل

ولدت في سيهات من والدين كريمين، أب تجلت فيه معاني الجد والكدح والعطاء، وأم غاية في الحنان والروحانية والولاء.

ثم قادني التوفيق للتعرف إلى رجل قل نظيره في السمو والنبل والصفاء، فكان لي بمثابة الأب الثاني والمعلم الأول.

إنه سماحة الشيخ حسن الصفار، المعلم والملهم والقدوة.

ولأداء حقه يستجمع القلم مفردات الثناء، علَّه يبلغ مراد صاحبه، وأنى له ذلك؟!

قصص وذكريات وحوارات جميلة تَفَلَّتَ أكثرها من ذاكرتي، ولم يتبق سوى شذرات!

كانت البداية قبل أربعين سنة حين التقيته خطيباً بارعاً يأسر قلوب مستمعيه، ويمدهم بنبضه المعنوي المعبِّر عن صدق مشاعره، فالصدق هو الأس الأول الذي يحلق به الخطيب، ويمتلك قياد النجاح.

ومن فضل الله وتوفيقه استمرت علاقتي بسماحة الشيخ، وتوثقت بعد عودته من الهجرة سنة 1415هـ، فقد حضرت أغلب محافل الاحتفاء بعودته، وكتبت مقالاً يجمع ما أُلقي في تلك المحافل، ويصور الأجواء الجميلة التي عاشها المجتمع، وقد نُشر المقال في مجلة المرشد تحت عنوان (عودة القلب الكبير). 

من تلك السنة وإلى اليوم وأنا أتابع نشاطات سماحته، وأقتنص الفرص للاستفادة من خطاباته وتوجيهاته.

ثمان وعشرين سنة مليئة بالأحداث والمواقف والذكريات، والقليل منها مكتوب أو موثق، وهكذا ستجد ـ عزيزي القارئ ـ أن هذه الذكريات تفتقر إلى ذكر التفاصيل وتحديد الزمن بدقة.

في صومعة الشيخ

أسميها (صومعة)، لأنني اخترت من مكتب الشيخ زاوية صغيرة لا تتجاوز خمسة أمتار مربعة، أجلس فيها كل يوم للكتابة والقراءة، وتحرير إجابات الشيخ على الأسئلة التي ترده عبر البريد الالكتروني، كانت مشاركتي مع سماحته بمثابة مدرسة ثرية، تعلمت فيها الكثير، وسأشير إلى بعض هذه الفوائد، وإلا فإن التجربة تملأ صفحات لا تناسب المقام.

الشيخ يحضر الشاي

اعتاد سماحة الشيخ استقبال ضيوفه في مكتبه صباحاً وليلاً، وفي هذين الوقتين يتواجد معه الفريق المساعد، أما وقت العصر فقد خصصه للقراءة والكتابة، وشؤونه الخاصة، وقد حظيت بلقائه في هذا الوقت بشكل شبه يومي طوال عدة سنوات، تعلمت فيها الكثير، ورأيت خلالها أخلاقه وتواضعه عن قرب، كان يحضر الشاي كل يوم ويقدمه لي فأشعر بالخجل من كرم أخلاقه، حتى قررت أن أتعلل بأني لا أحب شرب الشاي كثيراً، تهرباً من الحرج!

من حقي عليكم

يحرص سماحة الشيخ في كتاباته وخطاباته على الدقة في نقل الأحاديث، وتلاوة الآيات القرآنية بصورة صحيحة.

ذات مرة أخبرته أنه أخطأ في نطق كلمة من آية قرآنية في خطبة الجمعة، فقال لي: لم تخبرني بعد الخطبة مباشرة!

قلت: لقد أخبرت (....)، وربما نسي أن يخبركم.

فقال: إذا حصل أن تنبهت إلى خطأ في المستقبل أرجو أن تخبرني شخصياً.

وفي إحدى المرات شعر أني متردد في ذكر ملاحظة، فقال لي: من حقي عليكم أن تخبروني بأي ملاحظة..لا تتردد يا أبو حسين.

أسئلة وإجابات

كانت الأسئلة والاستشارات تأتي لسماحة الشيخ عبر البريد الالكتروني بشكل يومي، ولكثرة مشاغله والتزاماته كنت أعينه في تحرير إجاباته.

يقول سماحته في مقدمة كتاب (أسئلة وإجابات):

ولكثرة الرسائل الواردة، مع انشغالاتي المختلفة، طلبت من الأخ العزيز الفاضل الأستاذ مهدي جعفر صليل مساعدتي في القيام بهذه المهمة، لثقتي بقدراته واستقامته وإخلاصه. فكان لي نعم المساعد والمعين، جزاه الله خير الجزاء، وأجزل له الأجر والعطاء.

كان سماحة الشيخ يشير عليَّ بالإجابة عن كل سؤال، فأصوغها وأعرضها عليه، فيقوم بتعديلها أو إمضائها، وبعد مدة من ممارسة هذه المهمة صرت أكتب الإجابة وفق المنهج الذي استوعبته، وقد أشرت إليه في مقدمتي لكتاب (أسئلة وإجابات)

سمات منهج الشيخ في الإجابة:

أولاً: تشجيع السائل على حل مشكلته

في ذات الوقت الذي يضع خطوات الحل، يحفز صاحب المشكلة على المبادرة والعمل والتحرك من أجل التفكير والسعي للحل، فيحمله المسؤولية ويشاركه الفكرة.

ثانياً: استثمار فرصة النصيحة والموعظة

يركز سماحة الشيخ على النصح والتوجيه والإرشاد، ولا يكتفي بمجرد الإجابة في حدود السؤال، بل يردف إجابته بالتذكير والنصح المؤثر.

ثالثاً: الرجوع إلى المصادر المتخصصة

في المسائل التربوية أو الطبية التخصصية يؤكد سماحته على ضرورة الرجوع لأهل الاختصاص، حتى تؤدي الإجابة غرضها.

رابعاً: المتابعة المباشرة

تحتاج بعض الحالات الخاصة إلى متابعة مباشرة من سماحته، وبالرغم من كثرة التزاماته ومشاغله إلا أنه ـ بقلبه الكبير وصدره الواسع ـ يتابع ويسأل ويتأكد من قضاء حوائج الناس.

خامساً: حمل الهم الوطني العام

لا ينظر سماحته للقضايا التي تأتيه من منظار مذهبي خاص، بل إنه يؤكد على التفاعل مع جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية.

سادساً: الرحمة والشفقة بالسائل

تحمل بعض الرسائل اعترافات أصحابها بذنوب وآثام ارتكبوها، فيقابلها سماحته بكلمات العطف والشفقة ولين الخطاب، بكلمات متوازنة تفتح أمامهم الآفاق بسعة رحمة الله تعالى وتشجعهم على الانطلاق في الحياة وطي صفحة الماضي.

بالفعل كانت سنوات جميلة بما حوت من نقاشات حول مشاكل الناس النفسية والاجتماعية، وأسئلتهم الفقهية والثقافية.

ذات مرة كتبت إجابة لرسالة وردتنا من إحدى الأمهات، تشكو حال ابنها وتمرده، وعرضت الإجابة على الشيخ، فقال لي: لقد قسوت على الولد!، أعد صياغة الإجابة.

وهكذا في كل يوم أتعلم من سماحته شيئاً جديداً.

رزقٌ ساقه الله إليك

بهذه العبارة بدأ مكالمته معي في الهاتف الداخلي للمكتب، ثم قال: عندي رجل لا يعرف الصلاة، ما رأيك؟! ثم أردف: فرصة لتحصيل الثواب.

وبالفعل التقيت بالرجل وأخبرني عن تألمه لعدم معرفته أداء الصلاة، وقد تجاوز الأربعين من عمره!

هكذا وجدت سماحة الشيخ في تذكيره بالثواب والأجر عندما يطلب مني أن أساعده في بعض الأعمال والمهام.  

وصاياه قبل السفر

في كل مرة ألتقيه قبل سفري، يوصيني بوصاياه:

تفقد أحوال الأصدقاء، وإرسال الكتب إليهم، والتعرف على الكتب الجديدة التي صدرت.

وهذه نماذج من المواقف والشخصيات التي التقيتها:

محبوب صومجي

سنة 2016م سافرت إلى تنزانيا، والتقيت بالحاج محبوب صومجي، صاحب دار العترة للنشر، فتبادلنا أطراف الحديث، ثم تحدثنا عن النهج الذي تسير عليه الدار، فقلت إن المجتمعات تحتاج إلى ثقافة وإعلام يوحدها وينشر أجواء الوحدة والمودة...

عندها ابتسم الحاج وقال: نحن نسير على نهج الشيخ حسن الصفار، ونطبع كتبه باللغة السواحيلية، فهو يدعو إلى الوحدة والتعايش، وهذا ما نقوم به حتى مع المسيحيين، ودائماً نوزع كتبه في الجامعات وتأتينا رسائل شكر وثناء.

ثم تابع قائلاً: ذات مرة طلب منا رئيس الوقف السُّني، خمسين نسخة من كتاب (الأحادية الفكرية) للشيخ الصفار، كي يوزعها على أئمة الجمعة والجماعة، ليعتمدوا نهج الوحدة في خطاباتهم.

الشيخ يعقوب                  

إمام جماعة في أحد مساجد دار السلام، أصله من نيجيريا، لكنه مقيم في تنزانيا، التقيت به مصادفة في أحد فنادق دار السلام، وما أن علم أني من القطيف حتى كرر التحية، وبدأ يسأل بلهفة وشوق عن سماحة الشيخ حسن الصفار، قائلاً: أنا مشتاق كثيراً لرؤية الشيخ حسن.

قلت: من أين تعرفه؟

قال: علاقتنا منذ الثمانينات، حيث تعرفت عليه في إيران، وترجمت له في تلك الفترة ثلاثة كتب إلى لغة الهوسا:

1/ مسؤولية الشباب.

2/ مسؤولية المرأة.

3/ النفس منطقة الخطر.

 وفي هذه السنة ترجمت لسماحته كتاب (الشباب وتطلعات المستقبل) إلى اللغة الانجليزية.

ثم يضيف كانت لنا معه ذكريات جميلة، حيث كان يغمرنا بكرمه وجميل أخلاقه، وأتذكر أنه كان يحضر لنا الإفطار في شهر رمضان المبارك.

حميد رضا آﮊير

قبل حوالي ثمان سنوات التقيت بالأستاذ حميد آچير مترجم كتاب (التعددية والحرية في الإسلام) إلى اللغة الفارسية، فقال لي عبارة لازلت أتذكرها: هذا الكتاب سبق زمانه.

فقد طبع في بداية انتصار الثورة الإسلامية في إيران بعنوان:

(چندگونگى وآزادى در اسلام)، ولم تكن فكرة التعددية مطروحة بالشكل التي هي عليه اليوم.

كما أعاد ترجمة الكتاب وطبع بعنوان (کثرت‌گرایی و آزادی در اسلام)

السيد علي باقر عابدي

في نهاية 2019م عزمت على السفر إلى الهند فأخبرت سماحة الشيخ، فقال لي: أي المدن ستزورها في الهند؟

قلت: مومباي ولكنهو.

ولأنه زار الهند وتعرف على بعض مدنها قال: لا تفوت زيارة مدينة بنغالور، فهي من أجمل المدن الهندية، وهي آخر مدينة خرج منها الاستعمار البريطاني.

بالفعل وجدتها كما قال سماحته، وهناك تعرفت على سماحة السيد علي باقر عابدي، الذي حدثني عن معرفته بسماحة الشيخ من أيام تواجده للدراسة في (السيدة زينب)، ثم قال: لازلت إلى اليوم أستفيد من محاضراته وأفكاره.

وقبل شهر من كتابة هذه السطور أخبرني سماحة السيد عابدي عن فراغه من ترجمة كتاب (التنوع والتعايش) وكتاب (التعددية الدينية..قراءة في المعنى) إلى لغة الأوردو.

جنوب أفريقيا

في سنة 2021م أخبرت سماحة الشيخ عن عزمي السفر إلى جنوب أفريقيا، فأوصاني بزيارة السيد أفتاب حيدر الرضوي رئيس مؤسسة أهل البيت في مدينة كيب تاون، وهي آخر محطة في رحلتي بعد (جوهانسبرج) و (برتوريا) و (دربان)، فكانت زيارة موفقة حيث تعرفت على سماحة السيد الذي أصر على استضافتي وصديقي الأستاذ حسين عبادي، أيام إقامتنا في كيب تاون، وهكذا تعددت اللقاءات بالسيد أفتاب، وكان حديثه مركزاً حول أهمية التعايش والوحدة الوطنية، وإيمانه بما يطرحه سماحة الشيخ حسن الصفار، من أفكار تعزز الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، وفي أثناء حديثنا ذكرت له كتاب (التنوع والتعايش) وأنه ترجم إلى اللغة الإنجليزية لكنه لم يطبع، فأبدى استعداده لطباعته عن طريق مؤسسة أهل البيت.

كانت زيارتي في شهر يونيو، وتمت طباعة الكتاب في الشهر التالي، وأقيم حفل تدشين الكتاب في أغسطس2021م، وقد حظي باهتمام كبير من قبل كثير من العلماء والمثقفين من مختلف الطوائف، حيث شارك في الحفل كل من:

ـ الاستاذ محمد خالد سيد، الناشط الاجتماعي في جنوب افريقيا، ورئيس رابطة الشباب لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي «الحزب الحاكم».

ـ سماحة السيد أفتاب حيدر، الذي كتب مقدمة الكتاب وعرف بالمؤلف وشخصيته ودوره في تأصيل الوحدة الاجتماعية في المملكة العربية السعودية.

ـ سعادة السفير إبراهيم رسول الداعية الإسلامي، وسفير جنوب أفريقيا لدى الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2010 و2015م.

ـ الدكتور ايلان بوساك، رجل الدين في الكنيسة الإصلاحية الهولندية في جنوب افريقيا، والناشط المناهض للفصل العنصري، وزعيم التحالف العالمي للكنائس ضد العنصرية.

كما بثت كلمة مسجلة لسماحة الشيخ حسن الصفار، تحدث فيها عن الكتاب، وظروف تأليفه، وأهمية بث ثقافة التعايش والتسامح في المجتمعات.

في ختام هذه السطور أقول إنها مجرد شذرات، لا تعبر عن المراد والطموح.

أسأل الله أن يوفق سماحة الشيخ ويمده بطول العمر والصحة والعافية، ويتقبل منا ومنه صالح الأعمال.

 

كاتب من سيهات - السعودية