زيارة الأربعين رسالة أهل البيت للعالم
عن الإمام الرضا عن أبيه عليهما السلام قال: «سُئِلَ الصادق عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي : أَنَّ مَنْ زَارَ قَبْرَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَهُ اَللَّهُ فِي عِلِّيِّينَ»[1] .
وردت عن أئمة أهل البيت مئات الروايات في الحثّ على زيارة الإمام الحسين، وتبيين فضلها وآدابها، وفوائدها، وآثارها في الدنيا والآخرة.
وتتفاوت هذه الروايات في اعتبارها السندي، ففيها ما هو صحيح ومعتبر السند، وفيها ما هو ضعيف السند، وكثرتها يوجب القطع والاطمئنان بتأكيد الأئمة على أهميتها وفضلها.
لذلك ترسّخت هذه الشعيرة في تاريخ أتباع أهل البيت ، وتوارثتها أجيالهم عبر القرون والعصور. وكلّفتهم أثمانًا باهظة، وتضحيات كبيرة، في بعض الأزمنة والعهود، وإلى وقت قريب في عصرنا الحاضر، كان الإرهابيون التكفيريون يستهدفون قوافل ومواكب زوار الإمام الحسين ، وقبل ذلك في عهد النظام البائد في العراق، كانت زيارة الحسين محفوفة بالمخاطر، لكنّ أتباع أهل البيت تحمّلوا تلك المصاعب والآلام، واستمرّوا في إحياء هذه الشعيرة المباركة وخاصّة في مناسبة الأربعين.
ونتابع هذه الأيام، كما يتابع العالم كلّه، عبر وسائل الإعلام المختلفة، زحف الملايين إلى كربلاء، لزيارة الإمام الحسين بمناسبة ذكرى مرور أربعين يومًا على شهادته، نسأل الله أن يوفق الزائرين لإتمام زيارتهم بأمن وسلام، وأن يتقبّل منهم زيارتهم، ويعيدهم إلى أهاليهم سالمين.
الشعائر الدينية أهداف ومضامين
إنّ زيارة الحسين كسائر الشعائر والممارسات الدينية، لها مضامين وأهداف، يجب أن يلتفت لها المؤدّون لكلّ عبادة وشعيرة، ليحقّقوها في نفوسهم وسلوكهم.
لذلك تتحدّث النصوص الدينية عن مضامين وغايات شعائر الحج مثلًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾. [الحج: 27-28].
ويقول تعالى عن شعيرة الهدي في الحج: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾. [الحج: 37].
ويقول تعالى عن الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾. [العنكبوت: 45].
ويقول تعالى عن الصوم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. [البقرة: 183].
فإذا لم يهتم الحاج والصائم والمصلي بمضمون العبادة والشعيرة، فإنّها ستصبح مجرّد ممارسة طقوسية شكلية لا تترك أثرًا على نفسه وسلوكه، ولا تكون لها القيمة المرجوة عند الله تعالى.
وورد في التحذير من شكلية الممارسة العبادية كثير من النصوص:
ففي الحديث عن النبي محمد أنه قال: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ»[2] .
وعنه : «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا»[3] .
وورد عن الإمام علي : «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا اَلْجُوعُ وَاَلظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا اَلسَّهَرُ وَاَلْعَنَاءُ»[4] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لاَ تَغْتَرُّوا بِصَلاَتِهِمْ وَلاَ بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ اَلرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلاَةِ وَاَلصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ اِسْتَوْحَشَ، وَلَكِنِ اِخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ اَلْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ»[5] .
الزيارة عهد ولاء واتّباع
وفي السّياق ذاته، فإنّ زيارة الحسين لها شرائط ومضامين، إذا لم تتحقّق، تصبح مجرّد رحلة قد تكون متعبة مرهقة، وقد تكون ممتعة بالمقاييس الدنيوية، لكن لا تترتب عليها الآثار، ولا تحقّق الفضل الذي تتحدّث عنه الروايات.
لذلك نجد الرواية عن الإمام الباقر ، أنّها تشترط الوعي والمعرفة بحقّ الإمام الحسين ودوره، حيث جاء فيها «مَنْ زَارَ قَبْرَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَهُ اَللَّهُ فِي عِلِّيِّينَ»[6] ، ومن حقّه علينا الطاعة والاتباع والاقتداء.
من هنا تركز نصوص الزيارات المروية، على أن يقدّم الزائر تعهّدًا بالتزام نهج الحسين ، والاقتداء بهديه وسيرته، كما تستحضر نصوص الزيارات صفات الحسين، ليستحضرها الزائر، فتكون ماثلة في نفسه، ليتحفّز لتطبيقها في سلوكه وعمله.
ورد في الزيارة المروية عن الإمام محمد الباقر : «اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي فِي مَقَامِي هَذَا مِمَّنْ تَنَالُهُ مِنْكَ صَلَوَاتٌ وَرَحْمَةٌ وَمَغْفِرَةٌ اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ مَحْيَايَ مَحْيَا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمَمَاتِي مَمَاتَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»[7] .
وورد في الزيارة عن الإمام الصادق : «أُشْهِدُ اَللَّهَ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ وَلَكُمْ تَابِعٌ فِي ذَاتِ نَفْسِي وَشَرَائِعِ دِينِي وَخَاتِمَةِ عَمَلِي وَمُنْقَلَبِي وَمَثْوَايَ»[8] .
وعنه : «اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ لِمَا أَقُولُ بِلِسَانِي حَقِيقَةً فِي قَلْبِي وَشَرِيعَةً فِي عَمَلِي، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِمَّنْ لَهُ مَعَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَدَمٌ ثَابِتٌ»[9] .
ومن الصفات التي تذكرها الزيارات في سيرة الإمام الحسين ما ورد في أكثر من زيارة: «أشْهَدُ أنَّكَ قَدْ أقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأمَرْتَ بالمعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المنْكَرِ، وَعَبَدْتَ اللهَ مُخْلِصاً حَتّى أتاكَ الْيَقين»[10] .
كما تحتوي الزيارات على التذكير بأصول المعتقدات الدينية، وتعزيز الإيمان بالله تعالى، وتوحيده، والثقة به، والتوكل عليه.
إنّ زيارة الحسين دورة معرفية عقدية أخلاقية، إضافة إلى بعدها الاجتماعي المتمثّل بتلاقي المؤمنين، وتأكيد أخوتهم وتماسكهم في ظلّ محبّة أهل البيت .
الرسالة الحضارية لزيارة الحسين
وقد أصبح لزيارة الحسين اليوم بُعدٌ حضاري إنساني عالمي، فزيارة الأربعين تحوّلت إلى ظاهرة يرصدها العالم كلّه، وتتابعها وسائل الإعلام المختلفة، وتترك أصداءً كبيرة قلّ أن تحظى بها أيّ شعيرة دينية أخرى.
وذلك ما يستوجب الاهتمام من قبل كلّ الجهات الشيعية؛ لأنّها تعكس صورة المذهب والطائفة للعالم.
إنّ المطلوب هو استثمار هذه الظاهرة والحدث في داخل المجتمع الشيعي، أولًا: بتعميق الوعي الديني في صفوف الزائرين والمتابعين، وتعزيز السّلوك الإيجابي الأخلاقي، لتكون الزيارة سببًا لتحولات إيجابية في الوعي والسّلوك.
وثانيًا: أن يقدّم الشيعة من خلالها رسالة مذهبهم وأئمتهم إلى العالم، من خلال شعاراتهم وخطابهم وسلوكهم وإدارتهم للمناسبة.
إنّ رسالة أهل البيت قبول التنوع الديني والمذهبي، كما ورد عن الإمام علي : «فَإِنَّهُمْ (النّاسُ) صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ»[11] .
ورسالتهم الحفاظ على وحدة الأمة كما ورد عن الإمام علي : «وَلَيْسَ رَجُلٌ ـ فَاعْلَمْ ـ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّد وَأُلْفَتِهَا مِنِّي»[12] .
ورسالتهم الإصلاح في الأمة حيث ورد عن الإمام الحسين : «إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي»[13] .
ورسالتهم جذب الناس بحسن القول وحسن التعامل، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق : «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً اسْتَجَرَّ مَوَدَّةَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَيْنَا، بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مَا يَعْرِفُونَ، وَيَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يُنْكِرُونَ»[14] .
وعنه : «مَعَاشِرَ اَلشِّيعَةِ، كُونُوا لَنَا زَيْنًا، وَلاَ تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْنًا، قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، وَاِحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَكُفُّوهَا عَنِ اَلْفُضُولِ، وَقُبْحِ اَلْقَوْلِ»[15] .
ومن الطبيعي في هذا التجمّع الكبير، أن تبرز بعض الأصوات والتصرفات غير المناسبة، إمّا بسبب خلل ونقص في وعي بعض الأفراد، أو بدوافع مغرضة عند بعض الجهات، لكنّ المهم هو الصورة العامة الغالبة، التي نأمل أن تكون حسنة مشرقة.
مبادرات وجهود مشكورة
إنه من الواضح أنّ المرجعية الدينية، والحوزة العلمية، وإدارات العتبات المقدّسة، والمؤسّسات الأهلية الواعية، والمبادرات المخلصة، تبذل جهودًا طيّبة مشكورة، لإنجاح هذه المناسبة العظيمة، وإخراجها بالشكل اللّائق مع صعوبة الأوضاع في السّاحة العراقية والدولية وشدّة التحدّيات.
فهناك الآن برامج متعدّدة للتبليغ الديني في أوساط الزائرين، وبين المواكب، وفي المحطّات المختلفة للطرق، حيث تقام صلاة الجماعة، ومجالس تبيين المسائل الشرعية، وتلقى الخطابات التوجيهية، وتنشر الكتب والمطويات التوعوية.
كما أنّ هناك استقبالًا واستضافة للشخصيات النوعية من مختلف الأديان والمذاهب من داخل العراق وخارجه، وهؤلاء ينقلون انطباعات جيّدة عمّا يرونه ويشاهدونه في هذه المسيرة المليونية العظيمة.
وهكذا نأمل أن تصبح هذه المناسبة فرصة ذهبية لإيصال رسالة أهل البيت وشيعتهم إلى العالم.
نسأل الله تعالى أن يزيدنا رسوخًا في محبّة النبي وعترته الطاهرة، وأن يرزقنا زيارة الحسين وشفاعته في الآخرة، وأن يجزل الأجر والمثوبة للزائرين والسّاعين في خدمتهم، وأن يحقّق آمالهم وتطلّعاتهم في الخير والأمن والتقدّم والصلاح.