عاشوراء.. من زاوية ثقافية
تتميَّز الشعوب والمجتمعات المنتجة، بأنَّها تقوم باستثمار مناسباتها بشكل يرجع بفوائد جمَّة عليها، وهذا ما التفت إليه بعض المهتمين بالشأن الديني؛ فلقد استثمر بعض العلماء والخطباء الاهتمام الكبير الذي تبديه بعض المجتمعات الإسلامية بمناسبة عاشوراء، وهي المناسبة التاريخية المعروفة التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي، وقاموا باستغلال هذه المناسبة وذلك بإلقاء محاضرات يومية لمدة تصل إلى حوالي أسبوعين أو أكثر، تبدأ مع بدايات شهر محرم، متناولة مواضيع ثقافية بالغة الأهمية وتقوم بمناقشة أفكار الساعة.
ونظرًا لقرب موسم عاشوراء لهذه السنة، فأحببتُ أن أنوِّه ببعض الخطباء الذين شدَّني طرحهم في العام الماضي، وبما طرحوه من محاضرات مميزة، ترفع من المستوى الثقافي للجمهور وتوفر له مادة علمية جيدة ومفيدة.
حرصت في السنة الماضية على متابعة عدد من أصحاب المنابر الثقافية المميزة كالسيد منير الخباز الذي طرح عددا من المواضيع الشائكة بجرأته المعهودة؛ حيث تناول على سبيل المثال مفهوم النسوية وموقف الإسلام منها، وقد انبرى عدد من الحضور لمناقشة أفكاره وانتقادها على الشبكة العنكبوتية؛ مما يعكس حالة إيجابية، فلم يعد يلعب الحضور دور المتلقي للمعلومة فقط بل يقوم بدور آخر وهو تقييم ما يطرح وانتقاده إذا اختلف معه، وهذا له أثر بالغ في تطوير الخطابة الثقافية والدينية في مجتمعاتنا .
كما شدني طرح الشيخ العبيدان حول شمول الشريعة الإسلامية، فلقد طرحها على شكل سلسلة من المحاضرات وتناول بعضا من المواضيع الشائكة في هذا الموضوع الحيوي والمهم، وما يُميز منبر الشيخ العبيدان أنه يقوم وبعد انتهاء موسم عاشوراء بعقد عدد من الجلسات الحوارية التقييمية يحضرها جمع من المهتمين؛ فيتناولون ما تمَّ طرحه من أفكار بالنقد والتقييم.
لكن، ومن وجهة نظري المتواضعة، فإنَّ من أهم المحاضرات وأكثرها تشويقا كانت محاضرات الشيخ حسن الصفار، الذي تناول في سلسلة من محاضراته عناوين ذات أهمية بالغة، فلقد تناول على سبيل المثال: مسألة الغنى والفقر، ونظرة فقهاء المسلمين إليها، وهل يحث الإسلام الإنسان على أنْ يكون غنيا أم أنه لا يشجع على جمع الثروة ويعد ذلك من مظاهر السعي الدنيوي الذي يجب على المؤمن تجنبه، ويكفي المؤمن أن يملك قوته وما يُشبع احتياجاته الأساسية؟
وانتصر المحاضر إلى أن الإسلام حثَّ على الغنى وجمع الثروة؛ فالحث على الإنفاق الذي أشارت إليه الآيات الكثيرة يعني بالضرورة الحث على الغنى والسعي إلى جمع الثروة بطرق شرعها الإسلام، لكن لا لهدف ذاتي فحسب، بل لابد أن تَستَغِل جزءًا من هذه الثروة في تنمية ودعم تطور المجتمعات والازدهار الاقتصادي لها ومساعدة أهل الحاجة والعوز.
إنَّ الرؤية الفقهية التي ترى أنَّ الإسلام لا يشجع على جمع الثروة والغنى، وأن على المسلم أن يعيش بكفاف، لها آثار غاية في السلبية على تطور المجتمعات وتنميتها؛ فالثروة هي نتاج العمل الدؤوب، وإذا لم يسعَ الإنسان نحو الثروة فإنَّ ذلك يعني أنه سيسعى لأعمال عادية بسيطة تدر عليه دخلا بسيطا يكفيه للعيش بكفاف؛ لذا فلن يبذل جهده للإبداع في تنمية أعماله وتطويرها، وكما نعلم فإنَّ تطور المجتمعات في يومنا هذا قائم على الإبداع والابتكار في الأعمال التي تقوم بها المجتمعات.
كما تناول في بعض محاضراته فلسفة العاطفة الدينية، وأكد أن البشر يمتلكون عاطفة قوية وراسخة تجاه دياناتهم ويحبون رموزها؛ لذا فإنَّه على المسلم أن يتجنب النيل من رموز الآخرين، فكما يطالب المسلمون غيرهم بعدم المساس بشخصياتهم المقدسة، فإنَّ المسلمين مطالبون أيضا بالقيام بالشيء نفسه، وأؤكد على أهمية تنمية الأبعاد العاطفية للدين، فهناك برامج دينية مخصصة لتنمية الارتباط العاطفي بالدين، كالتهجد والدعاء، كما أكد الإسلام على أهمية حب الله وحب نبيه وأهل بيته، وبالمقابل أكد على ضرورة ترشيد العاطفة الدينية بحيث لا تؤدي إلى نشر البدع في الدين، كما أكد على أهمية تنزيه المناسبات الدينية من الخرافات والأساطير التي ألحقها البعض، ولفت النظر إلى بعض الظواهر الاجتماعية المخالفة للشريعة والمنتشرة في بعض البلدان؛ بعنوان كونها شعائر دينية، واعتبارها انفلاتا وابتعادا عن الجادَّة لابد من مُواجهتها.
إنَّنا في أمس الحاجة إلى خطاب ثقافي يحفظ لنا قيمنا وثقافتنا ويحافظ عليها، والمنبر الديني هو المسؤول المباشر عن ذلك؛ لذا نتمنَّى أن تختفي تلك المنابر الدينية التي يقوم المحاضر فيها بطرح ما يجول في خاطره لحظة إلقائه لمحاضرته، مُشرِّقا بنا تارة ومُغرِّبا، أو المنابر الأخرى التي تجعلنا نعيش في عالم الخيال، فيطرح المحاضِر قصصا ويروي أحداثا تاريخية تقترب إلى كتب الخيال وكأنها قصص "ألف ليلة وليلة".
أتطلَّع في هذا الموسم إلى مزيد من المحاضرات المميزة، والتي تُثري المستمع وتغذيه بما هو مفيد وجديد؛ فهي فرصة ثمينة لمن أراد أن يوسِّع مداركه وينطلق في آفاق جديدة، فشكرا لكل من أسهم وأثرانا بمحاضرات هادفة أحيت عقولنا ونفوسنا، وأدعو في الوقت نفسه كلَّ المحاضرين الكرام الذين أشرتُ إليهم أو لم أُشِر -فحتمًا هناك آخرون ممن يشار لهم بالبنان- بأنْ ينطلقوا بنا في رحاب واسع من الفكر والثقافة لإثراء العقول والنفوس.