الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان
ليس الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام أمرا جديدا، ويمكن رصد مئات الكتب والدراسات في هذا المجال، وفي السنوات الأخيرة بخاصة صدرت عن المفكرين والباحثين والحركات الإسلامية والمستشرقين دراسات ورؤى في غاية الأهمية، وتستدعي هذه الكثافة في الأسئلة والاهتمام كثيرا من المعالجة في الصحافة ووسائل الإعلام، وهي معالجة وإن لم يكن مطلوبا منها أن تجيب وتقوم عن المفكرين والباحثين والعاملين في المجال الإسلامي، ولكنها تساهم في خدمة المعرفة في هذا المجال وتنظيمها.
يرى محمد عبدالملك المتوكل أنه بالعودة إلى القرآن الكريم الذي هو المصدر الأساسي لشريعة الإسلام نجد أن الله كرم آدم، ومن أهم الحقوق التي أقرها الإسلام: حرية العقيدة والمساواة والحرية فقد كان الإسلام أول نظام كلي في الحياة اعترف بالإنسان كما هو في حقيقته، وهنا تدور أسئلة مثل: كيف يتم التوصل إلى بلورة إرادة الأمة؟ وما هي الحقوق والحريات اللازمة لكل فرد في الأمة ليشترك في تكوين هذه الإرادة؟ وما هي القنوات والأنظمة اللازمة في ذلك؟ وما هي الحماية اللازمة للإنسان في هذه الأمة إذا هو اشترك في تكوين هذه الإرادة؟ ثم ما هو الاجتهاد في حياة هذه الأمة ؟ فهل ينحصر كما انحصر تاريخيا في الفقه؟.
نحن غير ملزمين بطلب الأجوبة عن هذه الأسئلة من تراثنا السياسي، ولا نعرف مانعا من طلبها من تجارب الأمم الأخرى في طرق تجسيد فلسفة معينة في الإنسان إلى واقع سياسي وتربوي واقتصادي وغيره. فما دامت فلسفة الإسلام في الإنسان واضحة، وما دامت الغايات من وجود الأمة واضحة، يصير بناء هذه الأنظمة وتطويرها فنا من الفنون التي صار للبشرية فيه تراث طويل وغني.
ولفهم موضوع الإسلام وحقوق الإنسان تتعين دراسة وتحليل موقف الحركات الإسلامية التي ربما تتحفظ رغم إيمانها بحقوق الإنسان على بعض بنود مواثيق حقوق الإنسان العالمية باعتبارها مستمدة من ثوابت وخصوصيات الحضارة الغربية، وتتجاهل الرؤية الإسلامية. وبعامة فإن مواقف المسلمين تتنوع وتختلف حول خصوصية وعالمية حقوق الإنسان، ولكنها تصب جميعا في خانة رفض العالمية ومحاولة فرض الخصوصية.
وهذا الموقف ليس محددا تجاه حقوق الإنسان بقدر ما هو موقف من الغرب عموما، هذا الغرب الذي دأب الإسلاميون على مهاجمته ورفض ثقافته، مما خلق جرحا أنثروبولوجيا بحسب تعبير جورج طرابيشي في كتابه "أفكار"، حيث بين أن نرجسيتنا تجعلنا نرفض مفهوما أو حتى مصطلحا غربيا، وإن كان ذلك المفهوم أو المصطلح يحمل سمة الكونية والعالمية ولا يعبر عن خصوصية ثقافة معينة.
والحديث عن حقوق الإنسان في الوطن العربي يثير شجونا ويرسم صورة قاتمة كئيبة، فهي تمتد من غياب الحريات العامة إلى تفاقم الانتهاكات اليومية، وفرض المراقبة السياسية والفكرية على الأفراد، والخلط المتزايد والفاضح بين الدولة والحزب الواحد وتعميم إجراءات التعسف السياسي والقانوني والتمييز المكشـوف بين المواطنين والقمع والعقاب الجماعيين.
كل هذه الظواهر التي لا يمكن أن تخفى على أي مراقب تشكل الحقيقة اليومية للسلطة في المجتمعات العربية وتعكس القطيعة التي لا تكف عن التفاقم بين الدولة والمجتمعات. كما أن الغرب يتحمل مسؤولية كبرى في انتهاك حقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي بسبب سيادته التحكمية المنبثقة عن نظرته التمييزية لحقوق الإنسان.
وبما أن المصالح الشخصية هي التي تحكم الأفراد والجماعات في سلوكهم وتصرفاتهم، فإنه لا يمكننا مطالبة الغرب باتخاذ مواقف مغايرة، ولهذا فإن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق ساسة العالم العربي والإسلامي ومفكريه.
وعلى كل حال، لم يكن باستطاعة الغرب التصرف كما يتصرف لو لم يكن هناك داخل العالم العربي والإسلامي، ساسة عملاء، ومفكرون متواطئون وشعوب خانعة.
وللخروج من هذا المأزق وتأمين احترام حقوق الإنسان فإن على المفكرين أن يقوموا بواجباتهم، وأن تأخذ الدول العربية والإسلامية بمبادئ حقوق الإنسان ذات الإجماع الإنساني والعالمي والديني، كالمساواة أمام القانون، وفض الخلافات بالتفاهم والسلم، ورفض إقامة قواعد وأحلاف عسكرية، وإسناد إدارة ثروات البلدان العربية والإسلامية إلى شعوبها.
يوضح المفكر الإسلامي الشيعي حسن الصفار أن حركة الدفاع عن حقوق الإنسان تكاملت برامجها في رسالة الإسلام، فقد أصل القرآن الكريم لهذه الحقوق أساسيات ومضامين فكرية فلسفية أصبحت جزءا رئيسيا من العقيدة الدينية وحجر أساس في منظومة الفكر الإسلامي كمفهوم خلافة الإنسان في الكون وتسخير الطبيعة له وتقرير حريته في هذه الحياة، ولكن سيطرة الاستبداد السياسي على الأمة أفرغت الرسالة الإسلامية من محتواها الإنساني فأصبح الإسلام غطاء لأبشع ممارسات القمع ومصادرة الحريات. والأسوأ من ذلك ما فرخه من ثقافة تبريرية بلونيها الديني والأدبي، مدعومة بقوة الخلافة وإمكانات السلطة.
من هذا المنطلق أثار المؤلف حسن الصفار بعض التأملات في النقد الذاتي لموقف الخطاب الإسلامي المعاصر من قضايا حقوق الإنسان، داعيا إلى ضرورة الاهتمام بهذه القضية على مستوى جمهور الأمة للمساهمة في بلورة ثقافة حقوق الإنسان.
إن الخطاب الديني في مجتمعاتنا يحتل مكانة خطيرة من التأثير لا يضاهيه فيها أي خطاب آخر، فهو الذي يصوغ العقل الجمعي ويوجه السلوك العام نظرا لارتباطه بالدين ولما يمثله من تعبير عن أوامره وأحكامه. ونظرا لما يلمس من عجز في العقل الجمعي للأمة وخلل في السلوك العام لأبنائها واهتزاز لصورة الأمة على شاشة الرأي العام العالمي، فذلك أدعى إلى مراجعة هذا الخطاب.
ويدعو الصفار هنا إلى التفريق بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وعن رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو فوق المحاسبة والاتهام. أما الخطاب الديني فهو ما يستنبطه ويفهمه الفقيه والعالم من النص الديني أو من مصادر الاجتهاد، ويتمثل في فتاوى الفقهاء وكتابات العلماء وأحاديث الخطباء ومواقف القيادات الدينية، وهنا لا قداسة ولا عصمة, فالمجتهد قد يصيب ويخطئ.
كما أن قسما كبيرا من الخطاب الديني المعاصر لا يصدر عن فقهاء مجتهدين، وإنما عن وعاظ محترفين بغض النظر عن الكفاءة والنزاهة.
ويعزو الصفار مظاهر العجز والخلل في واقعنا إلى تدني مكانة الإنسان وانخفاض مستوى الاهتمام بقيمته وحماية كرامته حتى أصبحنا نحتل الصدارة في تقارير انتهاكات حقوق الإنسان على مستوى العالم، ليس من جهة السلطات السياسية فقط وإنما على الصعيد الاجتماعي العام أيضا.
فهناك إرهاب فكري يصادر حرية التعبير عن الرأي, وتمييز ضد المرأة يحولها إلى إنسان من درجة ثانية, وقسوة على الأبناء تسحق شخصيتهم, ونظرة دونية إلى الآخر المختلف ضمن أي دائرة من دوائر الاختلاف.
من هذه الأرضية انبثقت توجهات إرهابية متوحشة مارست العنف باسم الدين وباسم الدفاع عن مقدسات الأمة، فكان من الطبيعي أن يكون هذا الخطاب موضع المساءلة والاتهام.