سماحة الشيخ الصفار يُعقّب على مكاشفات فضيلة الشيخ العبيكان
انشغلت الأمة بخلافاتها المذهبية على حساب التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي
نشرت جريدة المدينة في ملحق الرسالة مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار تعقيباً على مكاشفات فضيلة الشيخ عبدالمحسن العبيكان المستشار بوزارة العدل وعضو مجلس الشورى عن ضرورة الحوار والتقارب المذهبي، وذلك يوم الجمعة 24 صفر 1427هـ (24 مارس 2006م).
وهذا نص المقال:
كنت ولا أزال متفائلا بأن الأمة الإسلامية في هذا العصر أقرب إلى تجاوز الصراعات المذهبية منها في أي عصر مضى.
فرغم فظاعة المشهد العراقي والمحاولات المتستميتة لإيقاد نار الفتنة الطائفية ، إلا أنها والحمد لله لم يتوفر لها حتى الآن غطاء ديني، ولا تبرير شرعي، من قبل أي من المرجعيات الإسلامية سنية وشيعية، بل إن ما حصل هو على العكس من ذلك حيث أكدت مختلف المرجعيات الدينية داخل العراق وخارجه رفضها و تحريمها للاحتراب الطائفي، والعدوان على المواقع الدينية من مساجد ومراقد شريفة.
وما يعزز التفاؤل أكثر هو بروز المزيد من الأصوات الواعية المخلصة التي تدعو إلى الحوار والتقارب بين أبناء الأمة على اختلاف مذاهبهم من السنة والشيعة، وترفض منحى التكفير والتهريج وتبادل الاتهامات.
وخاصة حينما تنطلق هذه الأصوات من الوسط السلفي في المملكة العربية السعودية، هذا الوسط الذي كان يسوده التحفظ والحذر سابقا تجاه دعوات الحوار والتقارب المذهبي.
فقد نقلت جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم الجمعة 17 صفر 1427هـ عن فضيلة الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في المملكة دعوته إلى حوار ديني يشمل إلى جانب المذاهب الأربعة الشيعة والصوفية، وعبّر عنهم بإخواننا من الفرق الإسلامية الأخرى، وأكد أنه لا يوجد ما يمنع اللقاء والحوار ولكن من يقوم بقرع الجرس؟ حسب قول فضيلته. مما يعني أن الأمر لديه قد تجاوز القبول والموافقة إلى استنهاض الهمم لتحقيقه.
وفي ذات اليوم الجمعة 17 صفر 1427هـ طالعتنا جريدة المدينة بكلام واضح صريح لفضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار بوزارة العدل وعضو مجلس الشورى عن ضرورة الحوار والتقارب المذهبي، وخاصة على الصعيد الوطني، ضمن الحلقة الثانية من مكاشفاته الجريئة في ملحق الرسالة التي أجراها الأستاذ عبد العزيز قاسم، بل تحدث فضيلة الشيخ العبيكان عن مبادرة وخطوات عملية يقوم بها على هذا الصعيد.
كما لمست مثل هذا التوجه في لقاءات أخرى كاجتماعي مع فضيلة الدكتور الشيخ سلمان العودة أثناء اللقاء الأول والثاني للحوار الوطني، ولقائي مع فضيلة الشيخ الدكتور عايض القرني، وجاءت زيارة الدكتور الشيخ عوض القرني للقطيف (بتاريخ 5 شعبان 1425هـ الموافق 19 سبتمبر 2004م) واجتماعه في منزلي بعدد كبير من علماء وشخصيات الشيعة في القطيف والاحساء وما تخلله من كلمات ومداخلات لتؤكد على هذه الرغبة الصادقة، في تجاوز حالة القطيعة والصراع، إلى مرحلة التواصل والحوار.
وقد تفضّل فضيلة الدكتور الشيخ عبد الرحمن الزنيدي بدعوتي إلى منزله في الرياض على هامش مهرجان الجنادرية لهذا العام حيث التقيت على مائدته الكريمة ببعض الأفاضل المهتمين بقضايا الأمة ومصلحة الوطن، ودار الحديث بيننا حول مسألة تلمّس المشتركات بين أبناء الأمة وهي كثيرة، والحوار حول نقاط الخلاف ليعرف كل طرف وجهة نظر الطرف الآخر وأدلته عليها.
والذي بدا لي من خلال هذه اللقاءات وأمثالها أن هناك ثلاث مسائل أساسية لا بدّ من معالجتها لتنطلق مسيرة الحوار والتقارب بالشكل الصحيح:
المسألة الأولى: التعارف المباشر والفهم المتبادل، فمن المؤسف جدا، أن تجد الاعتماد في أوساط بعض العلماء والدعاة على النقولات والشائعات لتكوين الصورة عن الطرف الآخر والحكم عليه من خلالها.
مع أن الموضوعية تقتضي البحث عن حقيقة رأي الطرف الآخر من مصادره المعتمدة ومرجعياته البارزة.
وفي أحيان كثيرة يلجأ البعض إلى الاستشهاد بما ورد في تراث هذا المذهب أو ذاك، علما بأن تراث مختلف المذاهب فيه الغث والسمين والمقبول والمرفوض، والمشهور والرأي الشاذ.
ولا يصح إلزام أتباع مذهب بما لم يلتزموا به ولم يقروا باعتماده في مذهبهم، أو لأن قلة منهم يرونه، بينما مشهور المذهب غير ذلك.
لقد واجهت كثيرا من التساؤلات في أوساط إخواننا أهل السنة عن بعض المرويات في مجاميع الأحاديث الشيعية، فكنت أوضح لهم أن الشيعة لا يقبلون كل ما ورد في هذا المجاميع ولا يلتزمون به، ولا يعتبرون هذه المجاميع صحاحاً، وأوثقها عندهم كتاب (الكافي) ومع ذلك فإن علماء الحديث من الشيعة صححوا منه (5072) خمسة آلاف واثنين وسبعين حديثاً من أصل (16199) ستة عشر ألف ومائة وتسعة وتسعين حديثاً. وكتب العلامة المجلسي (توفي 1111هـ) شرحاً لأحاديث (الكافي) تحت عنوان (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول)، أشار فيه إلى مرتبة كل حديث من حيث الصحة والضعف، وهو مطبوع ومنشور.
كما أن بعض إخواننا أهل السنة يصرّون على إثارة القول بتحريف القرآن عند الشيعة، لوجود رأي شاذ بذلك بين علمائهم وفي مرويات أهل السنة مثل ذلك، مع إجماع علماء الشيعة على القول بصيانة القرآن عن الزيادة والنقصان، كما أعلنوا ذلك في تفاسيرهم القديمة كالتبيان للشيخ الطوسي (توفي 460هـ) ومجمع البيان للطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري) وتفاسيرهم الجديدة كالميزان في تفسير القرآن للطباطبائي (توفي 1402هـ) والبيان في تفسير القرآن للخوئي (توفي 1413هـ). كما ألف بعض علمائهم كتبا مخصصة لإثبات عدم تحريف القرآن مثل كتاب (صيانة القرآن من التحريف) للشيخ محمد هادي معرفه، وكتاب (البرهان على عدم تحريف القرآن) للسيد مرتضى الرضوي، وكذلك الحال في بعض ما يثار من تساؤلات وإشكالات.
ومن أواخر الشواهد على ذلك مناقشتي مع فضيلة الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق والذي أحترم علمه وفضله وكتاباته القيمة، التقيته في البحرين على هامش مؤتمر الشيخ ميثم البحراني (بتاريخ 28-29/11/2005م) وسألته عما ذكره في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) من أنه (ذهب الظاهرية و الإمامية إلى أنه يجوز للرجل أن يتزوج تسعا، أخذا بظاهر الآية »مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ فالواو للجمع لا للتخيير، أي يكون الجموع تسعة) ولم يسند الرأي إلى مصدر (ج7 ص 166 الطبعة الثالثة). وقلت له إنني راجعت تفاسير الشيعة فوجدتها تؤكد على أن الواو للتخيير لا للجمع، وراجعت مصادر الفقه عند الشيعة فلم أجد فيها واحدا يقول بذلك، فعن أي مصدر أخذت هذا القول؟ فوعدني بالبحث والتصحيح.
ما أريد قوله هو الحاجة إلى تصحيح الفهم عن بعضنا بعضا، والموضوعية في قراءة الآخر والتعرف المباشر عليه، فإن ذلك يختصر لنا طريق الحوار ويساعدنا على التقارب.
المسألة الثانية: الاستعداد لقبول الاختلاف في الرأي، فمقتضى تعدد المذاهب هو تعددية الآراء، وقد ألفت الأمة الاختلاف في الرأي منذ عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والى يومنا هذا، ويكفي الاتفاق في أصول العقيدة وأركان الإسلام وفرائضه، أما التفاصيل العقدية والفروع الفقهية فميدان الاختلاف فيها واسع عند الأئمة والمجتهدين، لا يُخرج من الملة ولا يستوجب التكفير، ولا يبرر القطيعة والعدوان.
إن البعض يتحدث عن المذاهب الأخرى وكأنه يريد إلزامها بنهجه ومذهبه، وإلا فلا جدوى من اللقاء والحوار!! إن بعض علماء أهل السنة يقولون: ''لا يمكن الاتحاد والتعاون بين المسلمين إلا على منهج أهل السنة والجماعة''، وبعض علماء الشيعة يقولون: ''لا يمكن الاتحاد والتعاون إلا على منهج أهل البيت ''، والصحيح أنه يمكن الاتحاد والتعاون على الأصول والمشتركات الدينية التي يجمع عليها الطرفان، ومن أجل المصالح التي تهمهما، مع احتفاظ كل طرف بقناعاته ومتبنياته، وكما قيل: نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
إن عهود الخلاف والفرقة ومعارك النزاع والصراع كانت من وحي عقلية الوصاية على الآخرين، ومحاولة فرض الرأي عليهم، وقد رأينا نتائج ذلك في الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، وفي عدم قدرة أي طرف على إلغاء الآخر، فأهل السنة موجودون، والشيعة موجودون، و الاباضية موجودون، ولم يستطع أي طرف أن يلغي الآخر، فلنتعامل مع الواقع القائم، ولنركز على الأصول والمصالح المشتركة، ولنتجه لبناء أوطاننا ومجتمعاتنا، فقد انشغلنا بخلافاتنا المذهبية كثيرا، على حساب التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي سبقتنا إليه أمم الأرض وشعوب الدنيا بمسافات كبيرة، وأصبحنا أمة مستضعفة، تعاني من الاستبداد والتخلف الداخلي، وتنتهك حرماتها القوى الخارجية، حيث تعربد الغطرسة الصهيونية في فلسطين، والاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، والتهديدات الموجهة إلى مختلف البلدان الإسلامية بمختلف العناوين والمبررات، ووصل الحال إلى الاستهزاء بنبينا الأكرم محمد والإساءة إلى مقامه العظيم بالرسومات المخزية التي نشرتها الصحف الدنماركية والنرويجية وغيرها.
فهل يقبل منا الشرع أو العقل أن نبقى منشغلين بخلافات أكل عليها الدهر وشرب، وان نعطي الفرصة للأعداء ليشقوا صفوفنا من خلال هذه الخلافات، وليغزوا أوطاننا بشعار حماية هذه الأقلية المذهبية أوتلك، أو بمبرر الدفاع عن الحريات الدينية وحقوق الانسان؟
المسألة الثالثة: مدى الجرأة في إعلان الرأي واتخاذ الموقف، فكثير من علماء السنة والشيعة يدركون ضرورة التجاوز لواقع الخلاف المذهبي، لكن الأجواء المحيطة بهم من جمهور الأتباع الذين تربوا على أساس المفاصلة مع الآخر، والتعبئة ضده والتحريض على كراهيته، تجعل المبادرة للتواصل مع الآخر وإعلان الرأي الايجابي تجاهه أمرا بالغ الصعوبة على بعض العلماء.
كما أن الساحة الدينية للشيعة والسنة لا تخلو من حالات المنافسة الداخلية بين الاتجاهات والشخصيات الدينية، ويخشى العلماء الراغبون في الانفتاح على الآخر، استغلال منافسيهم للأمر في ساحتهم الداخلية، للتشكيك في صلابتهم المذهبية، وقد التقيت شخصيا مع بعض العلماء من السنة والشيعة ووجدت لديهم رؤية طيبة في هذا الاتجاه، لكنهم كانوا يعتذرون عن إعلان رأيهم أو إظهار علاقتهم وتواصلهم مع علماء من المذهب الآخر، مراعاة لمشاعر جمهورهم، وخوفا من استغلال منافسيهم.ومع تفهمي لظروفهم لأني مررت بنفس المعاناة ولازلت أعيشها، لكني أعتقد بضرورة أن يتحلى العالم بقوة الشخصية والجرأة في إعلان ما يخدم مصلحة الدين والوطن. وعليه أن يرتقي بمستوى جمهوره لا أن يسفّ معهم، فهو الذي يقود الجمهور لا أن ينقاد إليه.
ومما يشجع على المبادرة والجرأة في موضوع الوحدة والتقارب أن الأجواء العامة في الأمة تصب في خدمتها وتدفع باتجاهها، والمعارضون لذلك تتقلص مساحتهم يوما بعد آخر. وخاصة بعد أن تبنى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز حفظه الله قضية الحوار الوطني، وأعطاها الكثير من دعمه ورعايته. وبعد أن أصدرت قمة مكة الاستثنائية بيانها في العام المنصرم الذي أكد على الاعتراف بكل مذاهب الأمة القائمة من السنة والشيعة وغيرها.
إنني أكرر شعوري بالتفاؤل، ويحدوني الأمل لتحقيق ما تطلع إليه المخلصون من علماء الأمة وأبنائها على مر العصور من الوحدة والتقارب، وأشكر لفضيلة الشيخ عبدالمحسن العبيكان إقدامه وجرأته على إعلان الموضوع وطرحه، كما أشكر للأخ الكريم الأستاذ اللامع عبد العزيز قاسم توظيفه لدوره الصحفي الثقافي في خدمة قضايا الأمة والوطن، كم لا أنسى تقديم وافر الشكر والامتنان لصاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز على مبادرته الكريمة واهتمامه بهذا الشأن الوطني الإسلامي الخطير جزاه الله خير الجزاء وجعله في ميزان أعماله وحسناته.