كتاب سماحة الشيخ حسن الصفارالعقلانية والتسامح نقد جذور التطرف الديني
بادئ ذي بدء لا يسعني إلا أن أزجي شكري الجزيل لمنتدى الثلاثاء الثقافي، الذي يحرص صاحبه الأخ العزيز الأستاذ جعفر الشايب على المحافظة على مسار هذا المنتدى في اتجاه وطني مسئول، مفعم بالرغبة الصادقة في تأصيل قيم الإنتماء الوطني، من خلال أنـشطة تهدف لبث الوعي المجتمعي، بالكيفية التي تنسجم مع أهداف الإصلاح والتطوير في الدولة، وتواكب مسئولية التنوير التي تنطوي عليها خطط التنمية الوطنية، لذلك فتح هذا المنتدى ذراعيه وأشرع أبوابه، لكل ذي فكر مستنير، أو إبداع متميز، أو مبادرة رائدة.
وليس أدل على ذلك من موضوع هذه الأمسية عن "العقلانية والتسامح: نقد جذور التطرف" وهو عنوان كتاب لأحد أعلام الفكر المتزن في بلادنا، سماحة الشيخ حسن الصفار، الذي نذر نفسه لإشاعة التسامح، فاستقبل في مجلسه العامر شخصيات عرفت بتفانيها في الدفاع عن التعايش المذهبي، وركز في محاضراته ومؤلفاته على مبدأ التسامح، باعتباره ركيزة إنسانية تضمن العدل والمساواة بين أطياف المجتمع الواحد، وهو الأمر الذي تحرص الدولة رعاها الله على تبنيه بعيداً عن التعصب المذهبي أو الديني، من خلال محاربة التطرف والغلو، ودعم برامج الحوار الوطني، عبر مؤسسات رسمية تحكمها الشريعة المحمدية الغراء.
في هذ الكتاب تركيز على مبدأ التسامح، ومحاربة التطرف الذي أفرزته ولاءات لا علاقة لها بالدين، فهي رهينة فهم خاطئ للدين، وممارسات منحرفة عن مبادئه وقيمه السامية، ولا شك أن هناك من يدفع لهذا الاتجاه خضوعاً لأهداف مشبوهة لا صلة لها باستقرار المجتمع ولا بأمن الوطن، وصولاً إلى ما أشار إليه المؤلف في كتابه من التهييج السياسي، والتعبئة المذهبية، والإثارة العاطفية، وهذا الثالوث طالما قاد بعض الجماهير للإنخراط في الممارسات الخاطئة والمسيئة للمجتمع والوطن والدين.
والتطرف الديني من أخطر ما يهدد أمن الشعوب واستقرارها، ويعرقل مساراتها التنموية، ويشوه منجزاتها الحضارية، وفي ذلك تجاهل صريح لقوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). فأين الحق في ركوب موجات التطرف والتعصب الديني، مع أن الدين ينهَى عن ذلك جملةً وتفصيلاً، وهذا الأمر ليس جديداً على الإسلام والمسلمين، لكنه في كل عصر يلبس ثوباً جديداً بفعل الجهل والتبعية المفرطة لمرجعيات شخصنت الدين في أطر ضيقة ومنغلقة على ذاتها، يأبى أصحابها رؤية عدالة الدين وسماحته في الحكم بين الناس بالعدل والحق والفضيلة، ومع ذلك فهناك من ينقاد لهم انقياد القطيع لرعاته. ثمة منحنى خطر واجهه المسلمون وما زالوا يواجهونه هو: التكفير، الذي قد يصل إلى الحرمان من الهوية الدينية، لمجرد الاختلاف في الدين أو المذهب أو المعتقد، وفي هذا الاتجاه قد تقود الأهداف السياسية إلى حرمان المجتمع المسلم من جهود أصحاب الفكر المستنير، ورواد التنوير، وما التكفير المتبادل بين المذاهب سوى وجه آخر بين وجوه التكفير التي عرفها المسلمون في مراحل عديدة من تاريخهم الطويل. وفي هذا الكتاب حث على وحدة الأمة، ومنع انقسامها وانشقاقها، وهو مقصد أساس في نهج أهل البيت عليهم السلام، وكذلك تحذير الشباب من الوقوع في متاهات العنف التي لم تجرّ عليهم وعلى مجتمعهم إلا الوبال، وقد قدم العلماء الكتب والأبحاث التي رفضوا فيها توجهات العنف داخل المجتمعات الإسلامية، مما يجب أن يكون حاضراً في أذهان الشباب، بطاقاتهم الخلاقة التي لا يليق أن تهدر في ممارسة العنف، ولا أن تبدد في التبعية العمياء لذوي الفكر المنحرف.
وفي الكتاب مباحث كثيرة لا يمكن استيعابها في هذه العجالة، ولكنها في مجملها تدعو إلى التسامح، ونبذ أسباب الخلافات المذهبية، والعمل على ترسيخ مبادئ التواصل المذهبي، والترابط المجتمعي، والالتزام الديني المرن، والتأكيد على مشروعية الاختلاف في الرأي، وتحكيم العقل في الحالة الدينية، إذا اعتراها عوار الخلافات، وسقم التقليد لفكر ما أنزل الله به من سلطان، وكما يقول المؤلف في مقدمة كتابه: (هناك مرجعية لا يمكن تجاوزها في فهم الدين، وتشخيص تطبيقاته في شئون الحياة، هي مرجعية العقل، فالدين خطاب للإنسان بما هو كائن مفكر عاقل، و"الشرع سيد العقلاء" كما يقول علماء الأصول).
أرجو أن تجدوا في هذا الكتاب القيّم ما وجدته شخصياً، من متعة وفائدة، فهو جدير بالقراءة لأنه يفتح أمام قرائه آفاقاً واسعة ليس للمعرفة والمتعة فقط، ولكن للوعي بأهمية التسامح ودوره في إنقاذ المجتمعات من ويلات التطرف والغلو، والممارسات الخاطئة، والمسيئة للمجتمعات والأوطان.