الرّحلة البحرينيّة (6)..الذّهاب إلى القطيف
بعد الانتهاء من تسجيل حلقة حول المذهب المشيخيّ الإنجيليّ مع القس هاني عزيز وزيارة الكنيسة المشيخيّة في المنامة، هنا توجهنا مباشرة إلى القطيف بالمملكة العربيّة السّعودية، والقطيف محافظة سعوديّة في المنطقة الشّرقيّة، ولها تأريخ عريق مرتبط مع تأريخ البحرين والمنطقة عموما، وتبعد عن البحرين حوالي مائة وعشرة كيلو مترا، أي ما يقارب ساعة ونصف بالسّرعة الاعتياديّة.
وقد أخبر الأستاذ عبد الله المحفوظ سماحة الشّيخ حسن الصّفار بوجودنا في البحرين، وأصر الشّيخ الصّفار على زيارته في القطيف وتناول الغداء معه، وسماحته من علماء الشّيعة الإماميّة ومفكريهم المعاصرين، وقد ترجمت له في كتابي إضاءة قلم، فقد ارتبط أيضا بعمان منذ بداية السّبعينيات من القرن العشرين عندما كان واعظا في مسجد الرّسول الأعظم بولاية مطرح، ومن حسن الطّالع أن تتوّثق العلاقة بيننا، وأن أكون تلميذا له متعلّما في أكثر من جلسة حواريّة معه على قناتي اليوتيوبيّة (قناة أنس)، آخرها حول المثقف وإنتاج المعرفة الدّينيّة، بتأريخ 9 نوفمبر 2020م، عن طريق برنامج ZOOM.
وقد تنقل الشّيخ الصّفار للوعظ والدّعوة في المجتمع الشّيعيّ كما أخبرني تلميذه والقائم بنشر فكره الأستاذ عبد الباري أحمد الدّخيل بين العراق والكويت وعُمان وإيران وسوريا، واستقر في المملكة منذ عام 1415هـ/ 1985م في بلده القطيف، وفي العام نفسه أنشأ مكتبه في ذات المنطقة.
واهتم الشّيخ بقضيّة التّعايش في المجتمع الإسلامي خصوصا، فأقام عشرات النّدوات والمحاضرات، بجانب مؤلفاته الّتي تدعو إلى ذلك، وتحارب الفرقة والطّائفيّة، منها مثلا كتابه التّعدديّة والحريّة في الإسلام: بحث حول حرّيّة المعتقد وتعدد المذاهب، وكتابه التّسامح وثقافة الاختلاف، وكتابه السّلفيون والشّيعة نحو علاقة أفضل، وكتابه الحوار والانفتاح على الآخر، وغيرها كثير.
بجانب كانت له مبادرات عمليّة في الذّهاب إلى الآخر وزيارته، كزيارته لسماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز [ت 1999م]، مفتي المملكة العربيّة السّابق، وأكبر قامة علميّة سلفيّة في العقود الأخيرة، وسماحة المفتي الحالي للمملكة الشّيخ عبد العزيز آل الشّيخ، كما زار شخصيّات علميّة أخرى كالشّيخ عوض القرني [معاصر]، ومعالي الوزير السّابق محمّد عبده يماني [ت 2010م]، والمفكر إبراهيم البليهي [معاصر]، وغيرهم كثير.
ولمّا كان في عمان زار أيضا منذ فترة مبكرة سماحة المفتي السّابق الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1975م]، والمؤرخ العلّامة سالم بن حمود السّيابيّ [ت 1991م]، كما تردد أكثر من مرة على سماحة المفتي الحالي الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ [معاصر]، ويزور العديد من المثقفين والكتّاب والباحثين، كما يستقبل أيضا العديد من الشّخصيّات العلميّة والدّينيّة والثّقافيّة ويزورونه أيضا وغيرها.
عموما الحديث حول سماحته يطول، إلا أنّ وجود شخصيّات عمليّة دينيّة أو ثقافيّة تدعو إلى التّعايش ليس كتنظير، وإنّما كواقع معاش، مع نقد للذّات؛ ضرورة ملحة، وهذا ما أجده مع سماحته، بل أراه كثيرا ما ينقد ذاته ومذهبه بما يتوافق وأصول الإسلام الدّاعي إلى التّعارف والتّعايش تحت ظلّ الذّات الإنسانيّة أولا، والمواطنة ثانيا.
وصلنا إلى منزل سماحته في الجزيرة بمحافظة القطيف قرب الثّانية والنّصف ظهرا، ودخلنا مجلسه وكان في استقبالنا سماحته، مع أخيه سماحة الشّيخ محمّد الصّفار، وهو كاتب وخطيب، وله مقالات يوميّة في الصّحف السّعوديّة والخليجيّة كاليوم والوسط، وله بعض الكتب المطبوعة، كان كثير الاستماع، قليل الكلام.
كما كان في استقبالنا صهره الأستاذ ميثم الفردان، والأستاذ شرّفنا في عمان، وهذا اللّقاء الثّاني معه، وهو شاب مثقف ومتواضع، ابتسامته لا تفارق محياه، ومن كتبه عندي كتاب الحوار المذهبي والمسار الصّحيح: محاضرة الشّيخ حسن الصّفار وحفل تكريمه في أثنينيّة الشّيخ عبد المقصود خوجه، وهذا التّكريم كان عام 2004م في جدّة بمكّة المكرمة، وتابعتها قديما على اليوتيوب.
كما التقيت بالأستاذ والباحث عبد الباري أحمد الدّخيل، وبيننا تواصل منذ فترة على الواتس أب، وكان المنسق لسماحته، والمهتم بتراثه العلميّ والتّوثيقي، من كتبه: السّلفيون والشّيعة: تجربة حوار، ومن مناقب أهل البيت، والوطن للجميع: حوار سماحة حسن الصّفار مع الدّكتور الشّيخ سعد البريك في قناة دليل، وهذه المرة الأولى ألتقي به على الواقع.
وكان في المجلس أيضا الأستاذ حسن مرزوق النّخلي من أهالي المدينة المنوّرة وابنه أحمد، وكان يشارك الحديث معنا، وليس معممّا، وفي البداية استأذنا سماحته للصّلاة، ثمّ كان حديث قصير في المجلس، حيث سألني سماحته عن عمان والأخوة والمشائخ فيها، وتناولنا بعض الحديث، خصوصا عن زيارتنا إلى البحرين ولسماحة السّيد الغريفي، ثمّ ذهبنا إلى قاعة أخرى لتناول الغداء، وهناك كان لي بعض الحديث مع سماحة الشّيخ محمّد الصّفار، في جوانب معرفيّة.
وبعد الغداء مررنا بطاولة صغيرة فيها كتيبات لسماحته توّزع مجانا، وشدّني منها كتابه حول صلاة الجمعة: أحكام وآداب في الفقه الجعفري، وهنا قال لي سماحته: إنّ أحكام صلاة الجمعة في الفقه الإباضي تقترب من الفقه الجعفري، خصوصا في اشتراط الإمام، ولعل السّبب في نظري أنّ فكرة تعدد الجمعة بهذه الصّورة لم تكن موجودة على الأقل في القرنين الأول والثّاني الهجري، وأول من عمّمها عمر بن الخطاب [ت 23هـ]، وجعلها مقصورة على الأمصار السّتة، على أن يقيمها الولاة، لهذا جرى العمل عند الإباضيّة أن تكون الجمعة مرتبطة بالمصر والإمام، حيث يقيمها الإمام أو السّلطان العادل بنفسه، أو يحضرها أو من ينوب عنه، ولهذا عند الإباضيّة مشرقا ومغربا لم تعمم في غالب المدن إلا في العقود الأخيرة، كما هو عند الشّيعة الإماميّة أيضا فيما يبدو لي كما في العراق والسّعوديّة ولبنان وغيرها، بيد أنّي أرى في إيران حتّى اليوم لا تقام عند الشّيعة إلا في أماكن قليلة جدّا.
ثمّ ذهبنا إلى مجلس الشّيخ، وهو مجلس كبير، وقيل لي بناه أحد المحسنين، في الأسفل مجلس كحوزة وللمناسبات الدّينيّة والمحاضرات، وفي الأعلى مكتبة كبيرة، وفيه أيضا قاعات أخرى وسكن للضّيوف، وفي السّعوديّة أيضا مجالس كما في البحرين والكويت، وتشكل هذه المجالس وعيا اجتماعيّا ومعرفيّا كما رأينا، وفيها مساحة من الحريّة، وتحوّلت بعض المجالس الشّيعيّة إلى حوزات، ففي القطيف – كما أخبرني الأستاذ عبد الباري – أكثر من ثلاث حوزات، وفيها من العلماء وطلبة العلم ما يزيد عن مائتين وخمسين عالما وطالبا، ومن علماء القطيف الدّكتور عبد الهادي الفضلي [ت 2013م]، وأصله من الإحساء إلا أنّه سكن قرية سيهات بالقطيف، والشّيخ فوزي آل السّيف [معاصر]، وسماحة السّيد منير الخبّاز [معاصر]، والشّيخ فيصل العوامي [معاصر]، وغيرهم كثير.
ثمّ ذهبنا في الطّابق الأعلى إلى مكتبة الشّيخ حسن الصّفار، ومكتوب في اللّوحة: تأسست بتأريخ 1 رجب 1422هـ، الموافق 18 سبتمبر 2001م، والكتب في المكتبة مفهرسة منها ما يتعلّق بالفقه الإسلامي، وأصول الفقه، والعقائد والملل، والتّراجم والتّراث، وسيرة أهل البيت، وغيرها من الكتب المعاصرة والعلميّة والدّوريات وكتب الأديان، فهي منفتحة على الجميع، وتوجد قاعات للبحث ولأجهزة الحاسوب.
وهنا قام سماحته متواضعا حيث شرح لي أبواب المكتبة مع بعض الكتب، فوجدت لديه مثلا كتابات الدّكتور منذر الحايك [معاصر] المتعلّقة بالكتب المقدّسة للأديان، وأثنى عليها، كالتّوراة السّامريّة، وكنزا ربّا للمندائيين، وفيدا للهندوس، وأبستاق للزّرادشت، وهذه جميعها اشتريتها من معرض الشّارقة للكتاب، كذلك وجدت لديه موسوعة الشّيخ أحمد الإحسائي، وأخذنا بعض الحديث حول هذه المدرسة، أيضا وجدت في المكتبة كتاب الغناء للدّكتور عبد الهادي الفضلي، وكنت حينها أشتغل على كتاب الجمال الصّوتي حول الغناء والمعازف، فبحثت عن هذا الكتاب ولم أجده حتى في معرض مسقط للكتاب، فلم يطبع مع أعمال الدّكتور الّتي اقتنيتها، ووجدت في مكتبته أيضا جميع أعمال مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، وأثنى عليها الشّيخ كثيرا، ككتاب الدّولة والشّريعة في الفكر الإسلامي المعاصر لبراق زكريا، والدّين والمتغيرات الثقافيّة المعاصرة لعليّ رضا شجاعي زند، والإسلام والقانون الدّولي الإنساني لمجموعة من المؤلفين، وقلب الإسلام: قيم خالدة من أجل الإنسانيّة للسّيد حسين نصر، وغيرها كثير.
ولمّا نزلنا إلى الخارج كانت لي رغبة شديدة في زيارة الباحث والمفكر الدّكتور توفيق السّيف، وهو من أهل القطيف، فاتّصل به اتصوّر الأستاذ عبد الباري، وكلّمته، فقال لي إنّه يرحب بنا، بيد أنّه في الطّريق راجع من الرّياض، يحتاج إلى بعض الوقت، فاعتذرت له لضيق الوقت، وقد شرّفنا توفيق السّيف في قناة أنس اليوتيوبيّة برنامج ZOOM في حلقة بعنوان: تجديد الفكر الدّيني: آفاقه وتحدّياته، بتأريخ: 23 نوفمبر 2020م.
وهنا أهدانا الشّيخ عشرات الكتب منها أحاديث في الدّين والثّقافة والاجتماع، تضمّ محاضرات وخطب الشّيخ في عشر مجلدات كبار، ومسارات في ثقافة التّنمية والإصلاح يتضمّن أخبار وحوارات الشّيخ في تسع مجلدات، كما أضيف حوارنا مع سماحته في قناة أنس حول تأملات في بعض قضايا التّفكير الدّيني في الجزء العاشر، ص: 799 – 819، وكتاب الحوار المذهبي والمسار الصّحيح، وغيرها.
وهنا خشيت مع كثرة الهدايا الّتي حصلت عليها من الكتب أن تسبب لي عرقلة في الحدود، وقد يتصوّر أنّها للبيع، وهذا ما حدث عند حدود السّلع لدخول دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وقد طلبوا تصريحا لها، وهذا حقّهم، ولكن بعد حوار معهم أخبرتهم أنا ذاهب إلى عمان، وليست للبيع، فتفهموا الوضع – جزاهم الله خيرا – وسمحوا لنا بالمرور.
عموما طلب منا الأخوة أن نتأخر معهم، ونجلس إلى اليوم التّالي، حيث يوجد مكان معدّ لمبيت الضّيوف، وللقاء أكبر عدد من الأخوة، فاعتذرنا لهم؛ لأنّ الوقت ضيّق، ويوم الغد الخميس، وهو الأخير لي في البحرين حيث أنّه مزدحم جدّا جدوله، وفيه أكثر من لقاء، فخرجنا في السّاعة الخامسة عصرا، ورجعنا إلى البحرين، وكانت الحدود بين السّعوديّة والبحرين مزدحمة، إلا أنّه اعجبني تنظيم الحدود في البحرين، حيث استغلوا المكان ليس بشكل عمودي، بل بشكل انحنائيّ بحيث ممكن تسجيل المركبات وإنهاء المركبات بشكل سريع جدّا.
ولمّا وصلت إلى البحرين ذهبت أولا إلى فندق جولف كورت، وعملت (THECK OUT)، ثمّ ذهبت إلى فندق دلمون عند بوابة البحرين، وهو من أقدم الفنادق في البحرين، وأرخص من الأول، إلا أنني أردته لبعض التّأمل.
فوصلنا بعد المغرب، وودعت الأستاذ المحفوظ، ثمّ ذهبت إلى مسجد قريب فصلّيت المغرب، ثمّ صلّيت معهم العشاء، وبعدها ذهبت إلى مطعم حاجّي، وسبق الحديث عنه، وهنا وجدت ثلاثة رجال عمانيين، لم أسألهم عن سبب المجيء، ولكن سلّمنا على بعض مع السّؤال عن الأخبار كعادتنا في عمان.
وبعدها تجوّلت قليلا في السّوق، ووجدت عالما آخر من النّاس، كلّ في فلك يسبحون، وكأن سوق مطرح الشّعبي، وسوق روي التّجاري، جمعا في مكان واحد، ثمّ رجعت إلى النّزل لأستعد ليوم جديد لزيارة القلعة الهرمزيّة البرتغاليّة، ولتسجيل حلقة مع الدّكتور سلمان المحاري كما سنرى في الحلقة القادمة.