الصوم بين الأداء والجودة
مفهوم الجودة من المفاهيم التي انتشرت وترسّخت في ثقافة الإنسان المعاصر، فقد أصبحت هناك وفرة في الإنتاج، وتنافس شديد على تسويق المنتجات. فصار الإنسان يبحث عن المنتج الأفضل.
وتشكلت معايير ومقاييس للجودة معتمدة على المستوى العالمي.
وتتولّى المنظمة الدولية للتوحيد القياسي (الإيزو) وهي كيان عالمي موضوع الجودة ووضع المعايير المحددة لها.
وقد عرّفوا الجودة بأنّها (الدرجة التي تستطيع أن تحقّقها مجموعة من الخصائص الأصلية لموضوع ما فيما يتعلق بتلبية المتطلبات).
واتّسع هذا المفهوم ليقاس به المستوى العام لحياة الإنسان فيما يطلق عليه جودة الحياة.
مفهوم الجودة في الثقافة الدينية
وفي ثقافتنا الدينية نجد التأسيس لهذا المفهوم، حيث تؤكد النصوص والتعاليم الدينية على الاهتمام بمستوى العمل من الجودة والإتقان وليس مجرّد أداء العمل.
يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
وكما ورد عن النبي : "إِنّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ" .
وفي دعاء مكارم الأخلاق يغرس الإمام زين العابدين طموح تحقيق الجودة الشاملة في نفس الإنسان المؤمن، كما ورد في أول فقرة من الدعاء: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ" .
إنّ جودة العمل وإتقانه ينبغي أن تكون شعارًا ومقصدًا ومنهجًا للإنسان في مختلف أعماله.
معيار الجودة في الصيام
وحيث نعيش هذه الأيام في رحاب شهر رمضان المبارك، وفي رحاب فريضة الصوم العظيمة، فإننا أمام اختبار مستوى الجودة في القيام بهذه الفريضة الواجبة.
فلا يكتفي الإنسان بمجرّد أداء الصوم في حدّه الأدنى وهو الاجتناب عن المفطرات، فذلك هو الأيسر والأسهل، كما ورد عنه : "أَيْسَرُ مَا اِفْتَرَضَ اَللَّهُ عَلَى اَلصَّائِمِ فِي صِيَامِهِ تَرْكُ اَلطَّعَامِ وَاَلشَّرَابِ" .
بل على الإنسان الصائم أن يطمح إلى مستوى الجودة الأعلى في الصيام.
ذلك أنّ أداء الصيام في مستواه الأدنى يسقط الواجب من ذمة الإنسان لكنّه لا يبلغ به الفوائد والمكاسب العظيمة. لذلك ورد عنه : "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ اَلْجُوعُ وَاَلْعَطَشُ" .
أمّا تحقيق جودة الصيام فيمكن استنتاج معاييرها من النصوص الدينية الواردة حول هذه الفريضة العظيمة التي تتحدث عن المعايير التالية:
1/ إخلاص النيّة والقصد:
بأن يكون دافع الإنسان لأداء الصوم هو الاستجابة لأمر الله تعالى، دون أيّ شائبة أخرى، فهو لا يصوم تكيّفًا مع المحيط الاجتماعي، ولا استجابة لعادة ألفها، ولا توقعًا لثناء أحد وإعجابه، ولا توخيًا لمنفعة صحية. إنّما الدافع الأساس هو التقرّب إلى الله تعالى بامتثال أمره، ولا ينافي ذلك حصول المكاسب الأخرى بالعرض.
وكلّما كانت النية أخلص وأصفى، كان مستوى الجودة في الصوم أعلى. وهذا ما يجعل الصوم فرصة لتنمية روح الإخلاص في نفس الإنسان، لترافقه في كلّ أعماله وأفعاله.
وقد روي عن الإمام علي : "الصِّيَامُ ابْتِلَاءٌ لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ"
وجاء في خطبة فاطمة الزهراء : "فرض الله... وَاَلصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلاَصِ" .
2/ استحضار حكمة التشريع:
حين يؤدي الإنسان فريضة الصوم، فإنّ عليه أن يستحضر هدف تشريع هذه الفريضة، ثم يسعى إلى تحقيقه. وفي آية تشريع الصيام نصٌّ إلهي على الغاية من هذا التشريع، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .
فالوصول إلى درجة التقوى هو الهدف. والتقوى تعني الانضباط الشامل في الفكر والمشاعر والسلوك. فلا تتحكم في الإنسان رغباته وشهواته.
ولأنّ الصائم بإمساكه عن المفطرات يتحدّى أقوى الرغبات في نفسه، فإنّ في ذلك تربية وتدريبًا له على التحكم في رغباته.
وإذا لم ينجح الصائم في امتلاك هذا المستوى من الانضباط، فذلك يعني فقدان قيمة الصوم الحقيقية، وغرضه المقصود.
فقد ورد عن رسول الله أنه قال: "مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاِحْتِسَاباً وَكَفَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ عَنِ اَلنَّاسِ قَبِلَ اَللَّهُ صَوْمَهُ وَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَأَعْطَاهُ ثَوَابَ اَلصَّابِرِينَ" .
وعنه : "إنَّ الصِّيامَ لَيسَ مِنَ الأَكلِ وَالشُّربِ فَقَط؛ إنَّمَا الصِّيامُ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، فَإِن سابَّكَ أحَدٌ أو جَهِلَ عَلَيكَ فَقُل: إنّي صائِمٌ" .
علي : "صِيامُ الْقَلْبِ عَنِ الْفِكْرِ فِي الآثامِ أَفْضَلُ مِنْ صِيامِ البَطْنِ عَنِ الطَّعامِ" .
3/ الاجتهاد في الطاعة وعمل الخير:
لكي يرتقي الإنسان بدرجة صيامه إلى المستوى الأفضل، عليه أن يُرفق صيامه بنشاط مكثف في أعمال الخير والصلاح، فيجتهد في عبادة الله تعالى، بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، ويحرص على حسن التعامل مع محيطه الاجتماعي، بالأخلاق الفاضلة، وصلة الرحم، والإحسان إلى من حوله، وتفقّد حاجات الفقراء والمحتاجين.
وهذا ما أكّد عليه النبي وهو يتحدث عن فضل شهر رمضان، وأنه موسم للطاعات وأعمال الخير.
ومما جاء في حديثه قوله : أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ الله عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ الله عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ الله يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ، وَصَلَهُ الله بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ، قَطَعَ الله عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلاةٍ، كَتَبَ الله لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً، كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ، ثَقَّلَ الله مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ، وَمَنْ تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ" .
وهناك نصوص دينية كثيرة تحفّز الإنسان الصائم لتحصيل أعلى مستوى للجودة والكمال والإتقان في صيامه، وألّا يكتفي بمستوى أداء الصيام في حدّه الأدنى المتمثل في الإمساك عن المفطرات فقط.