رؤية حول التعايش المذهبي (١-٢)
تهب على الأمة الإسلامية عاصفة فتنة طائفية هوجاء، تهدد بتمزيق مجتمعات الأمة، وتقويض أمنها واستقرارها، وإشغالها عن مواجهة تحديات الهيمنة الأجنبية، والتخلف الحضاري.
وتنطلق هذه الفتنة من حال الاقتتال والمجازر اليومية الفظيعة في العراق، هذا الحال الذي يعرف الجميع دور الاحتلال الأمريكي البغيض في صنعه، كما يعرف الجميع الدافع السياسي للأطراف المشاركة فيه، حيث يسعى كل طرف لأخذ موقعه وحصته في الواقع العراقي الجديد، بعد عقود من الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد والقائد الفرد، الذي همش وقمع الجميع، وصادر إرادة كل الشعب العراقي.
مع وضوح هذه الخلفية للأحداث المؤلمة في الساحة العراقية، إلا ان هناك إرادة وإصراراً على إثارة الفتنة الطائفية من خلالها، وتصويرها وكأنها احتراب مذهبي، والترويج لخطر داهم من قبل الشيعة على السنة ومن قبل السنة على الشيعة.
وفجأة سادت لغة طائفية فجة على اغلب وسائل الإعلام العربية، وأصبحت تضفي على مختلف الأخبار هذه النكهة، وتتصيّد الأنباء والمشاهد المثيرة في هذا السياق.
وتخندق كثير من كتاب الصحف والمجلات وراء متاريس طائفية، حتى بعض الليبراليين الذين كانوا يستسخفون التوجهات الدينية بشكل عام.
وتحولت خطب الأئمة في المساجد إلى منابر للتحريض الطائفي، مستدعية كل ما في التراث والتاريخ من رصيد للكراهية المتبادلة والصراع المذهبي.
أما مواقع الانترنت المهتمة بهذا الشأن فقد وجدت فرصتها الثمينة، وتحركت أسواقها بعد أن كانت تعاني من الركود والكساد.
العلماء بين الاستدراج والوعي
أمام هذه الفتنة الهوجاء كان متوقعاً من علماء الاسلام أن يأخذوا دور التحذير والتنبيه، حتى لا تسقط الأمة في هذا الفخ الخطير، وأن يتحركوا سريعاً لمحاصرة الحريق المشتعل في العراق، حتى لا يمتد لهبه إلى سائر المناطق، ومن ثم العمل على مساعدة الشعب العراقي للخروج من محنته بأقل قدر من الخسائر والتضحيات.
فالعلماء يتحملون مسؤولية تذكير الأمة بمبادئ دينها، وتوعيتها بأخطار التحديات المحدقة بها، وتبصيرها في مواجهة الفتن والشبهات.
يقول الله تعالى: ﴿إِنا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيونَ الذِينَ أَسْلَمُوا لِلذِينَ هَادُوا وَالربانِيونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
والعلماء يمثلون دور الربانيين والأحبار في هذه الأمة، وواجبهم ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ﴾ أن يؤكدوا على مبدأ الوحدة الذي فرضته آيات القرآن المجيد، وأحاديث السنة النبوية الشريفة، وأن يأخذوا دور الرقابة والشهادة على الواقع ﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ فيحذّرون من الفرقة والتنازع وفق توجيه كتاب الله تعالى، الذي يقول: ﴿إن هَذِهِ أُمتُكُمْ أُمةً وَاحِدَةً﴾ ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرقُوا﴾ ويقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
لكن المؤسف جداً انزلاق بعض العلماء واستدراجهم إلى أوحال الفتنة، ومشاركتهم بوعي أو غفلة في تأجيج إضرامها، عبر التعبئة وإثارة الضغائن والأحقاد، وفتح ملفات الخلافات العقدية والفقهية، وتجميع أوراق السقطات والأخطاء.
إنه لا يمكن إنكار وجود مشكلة هنا وخطأ هناك، بحدوث إساءة من طرف شيعي، أو تصرف سيئ من طرف سني، كما أن تاريخنا وتراثنا الإسلامي مليء بالأوراق الصفراء، والجراح الدامية، لكن هل هذا هو الوقت المناسب لفتح الملفات، وطرح الأوراق؟ ألا يعتبر ذلك صباً للزيت على نار الفتنة المتقدة وتوسيعاً لرقعة اشتعالها؟ أليس ذلك نوعاً من تقديم الخدمة الممتازة لإنجاح مخططات الهيمنة الأمريكية بإحداث الفوضى الخلاقة - حسب وصفهم - في أرجاء المنطقة؟
الموقف المسؤول
وبمقدار ما يأسف الإنسان ويألم لمواقف بعض العلماء الذين انطلت عليهم الخديعة، وخذلهم الوعي، أو دفعتهم المصالح الشخصية والفئوية للوقوع في شرك الفتنة الخطير، فإن الإنصاف يقتضي الإشادة والتقدير للموقف الرسالي المسؤول الذي جسده العلماء المصلحون الربانيون، وفي طليعتهم المرجع السيد السيستاني، هذا الرجل الذي ضرب أروع الأمثلة المعاصرة في التزام المبدئية، والحرص على وحدة الأمة، والتسامي على الجراح.
إن الجميع يعرف الظروف القاسية التي عاشها السيد السيستاني والحوزة العلمية في النجف الأشرف وامتداداتها في الشعب العراقي، في عهد النظام البائد، والمقابر الجماعية، وأرقام الشهداء من الفقهاء والعلماء والخطباء، وحملات التهجير، ومآسي المعتقلات كلها شواهد واضحة لا تقبل الإنكار.
لكن السيستاني بعد سقوط النظام ألجم أي نزعة للانتقام وأخذ الثأر في صفوف أتباعه، واصدر أكثر من فتوى تحرّم أي نوع من أنواع الانتقام حتى نشر الوثائق التي تفضح أزلام النظام السابق وعملاءه.
فقد أجاب على سؤال حول من تأكد دوره المباشر في قتل الأبرياء من أزلام النظام السابق هل تجوز المبادرة إلى القصاص منه؟ أجاب سماحته: «القصاص إنما هو حق لأولياء المقتول بعد ثبوت الجريمة في المحكمة الشرعية، ولا تجوز المبادرة إليه لغير الولي، ولا قبل الحكم به من قبل القاضي الشرعي».
ورداً على سؤال حول كون الشخص عضواً في حزب البعث السابق أو متعاوناً مع أجهزة النظام الأمنية، هل يكفي ذلك لمعاقبته؟ أجاب سماحته: «لا يكفي وأمر مثله موكول إلى المحاكم الشرعية، فلا بد من الانتظار إلى حين تشكيلها».
وحول نشر الوثائق التي تفضح عملاء النظام السابق أجاب سماحته: »لا يجوز ذلك، بل لا بد من حفظها وجعلها تحت تصرف الجهة ذات الصلاحية«.
تجاه فتنة الإرهاب والتكفير
حين بدأت فتنة الإرهاب والتكفير الطائفي في العراق، وأعلن الزرقاوي حربه على شيعة العراق، واستهدافه لشخصياتهم ومناسباتهم الدينية، بمرأى ومسمع من الجميع، وبصراحة تامة، حيث توالت الاغتيالات والتفجيرات من عصابته والمتحالفين معهم، كالتفجير الذي استهدف السيد محمد باقر الحكيم بتاريخ ١رجب ٤٢٤١ عند مرقد الإمام علي في النجف الأشرف، وكتفجيرات يوم العاشر من المحرم ٥٢٤١ في كربلاء، التي استهدفت مواكب المعزّين والزائرين، وما تلاها من تفجيرات الكاظمية وغيرها كالحلة والعمارة ومسجد براثا التاريخي في بغداد وصولاً إلى تفجير قبة الإمامين العسكريين في سامراء.
ولا شك أن هذه التفجيرات وما تسفر عنه من ضحايا ومجازر رهيبة، وما تشكله من انتهاك لحرمة المقدسات والشعائر الدينية للشيعة، كانت تفجّر الغضب في نفوسهم، وتلهب مشاعر التحدي في أوساطهم، ما يدفع باتجاه الانتقام والقيام بردود فعل مشابهة، لكن وعي السيستاني وحكمته منعت ذلك لوقت طويل، حيث كان يرفض اتهام أي جهة مذهبية، ويؤكد على التحلي بالوعي والحذر من الفئات المعادية لكل العراق ولكل المذاهب.
ففي رده على سؤال عن الموقف تجاه تهديدات الزرقاوي، قال بيان صادر عن مكتبه بتاريخ ١٢ شعبان ٦٢٤١: «إن الهدف الأساس من إطلاق هذه التهديدات وما سبقها وأعقبها من أعمال إجرامية استهدفت عشرات الآلاف من الأبرياء في مختلف أنحاء العراق هو إيقاع الفتنة بين أبناء هذا الشعب الكريم، وإيقاد نار الحرب الأهلية في هذا البلد العزيز، للحيلولة دون استعادته لسيادته وأمنه، ومنع شعبه المثخن بجراح الاحتلال، وما سبقه من القهر والاستبداد، من العمل على استرداد عافيته، والسير في مدارج الرقي والتقدم».
ولكن معظم العراقيين - ولله الحمد - على وعي تام بهذه الأهداف الخبيثة، وسوف لن يسمحوا للعدو الطامع بتحقيق مخططاته الإجرامية، مهما نالهم من ظلم وأذى وأريق على ثرى بلدهم الطاهر من دماء زكية لأهليهم وأحبتهم.
وإننا في الوقت الذي نعبّر فيه عن بالغ الأسى لكل قطرة دم عراقية تسفك ظلماً وعدواناً، ونتألم لآهات الثكالى وبكاء الأيتام وأنين الجرحى، ندعو المؤمنين من أتباع أهل البيت إلى الاستمرار في ضبط النفس مع مزيد من الحيطة والحذر».
ولنا أن نقارن هنا بين هذا الموقف المسئول للسيد السيستاني وهو يعيش في معمعة الأحداث، ويواجه غليان الشارع المحيط به، وبين مواقف علماء وشخصيات أخرى تعيش مرفهة خارج العراق، ثم تتخذ من الأحداث الإرهابية التي أصابت بعض السنة في العراق مبرراً لإثارة النعرة الطائفية والفتنة المذهبية، وكأنها تحمّل كل الشيعة في العالم وزر ما حصل لأهل السنة في العراق، متجاهلة تعقيدات الساحة العراقية، وانعكاسات الإرهاب التكفيري، ودور الاحتلال الأمريكي، وتأثيرات السياسة الإقليمية!!