مرجعية الضمير في التوجيه النبوي
من أجلى النعم والميزات التي منحها الله تعالى للإنسان، القدرة على التمييز بين الخير والشر، بين الحسن والقبح. حيث أعطى الله تعالى للإنسان في هذه الحياة حرية اختيار طريقه نحو الخير أو باتجاه الشر، وحرية أداء أعماله التي يقررها حسنة أو سيئة.
فلا بُدّ وأن يمتلك قدرة التمييز والتشخيص، ليمارس حرية الاختيار عن معرفة وقصد.
يقول تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾
لذلك زوّده الله تعالى بالعقل كقوة إدراك وتفكير، ليتأمل ما يواجهه من خيارات ويستبين به الأمور، كما أودع في نفسه الضمير والوجدان، لتحفيزه نحو الخير وتحذيره من الشر.
من هنا فإنّ بني البشر في جميع الأزمان والعصور، ومن مختلف الانتماءات يتفقون على تمجيد مكارم الأخلاق، وعلى تقبيح الرذائل والمساوئ. وذلك من وحي إدراك عقولهم وفطرتهم، فلا يحتاج الإنسان إلى تعلّم حتى يدرك حسن العدل والأمانة والصدق، وقبح الظلم والخيانة والكذب وأمثال ذلك.
إنّ أصول الأخلاق لها جذور في عمق الإنسان وطبيعته، وبما أنّ الفطرة الإنسانية واحدة في جميع الظروف، فإنّ أصول الأخلاق النابعة منها ثابتة لا تتغير.
قد تختلف بعض مصاديق الخير والشر والحسن والقبح باختلاف ثقافات الناس وتقاليدهم، وبتطور الحياة الاجتماعية. ولكن المبادئ والأصول تكون ثابتة.
إلهام وهداية من الله
وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في عدد من آياته كقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
إنه تعالى يقسم بالنفس الإنسانية، وخلقه لها سويّة متقنة الخلق والوجود، ثم يردف ذكر خلقه النفس وتسويتها، بذكر منحه لهذه النفس قدرة التمييز بين الخير والشر، على نحو الإلهام.
والإلهام: مشتق من اللهم، وهو البلغ دفعة، ويقصد به إلقاء الشيء في روع الإنسان من قبل الله تعالى، فهو يطلق على حدوث علم في النفس بدون تعلم ولا تجربة، كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية.
وتعني الآية أنّ الله سبحانه أودع في نفس الإنسان معرفة أمري الفجور والتقوى، أي الشر والخير.
ويقول تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي طريقي الخير والشر، والهداية الدلالة على الطريق.
والنجد: هو المكان المرتفع، فكلا الطريقين يحتاج سلوكه إلى جهد وتحمل، كتسلق المكان المرتفع.
فهناك صعوبات قد تعترض سالك طريق الخير، ونتائج وخيمة تصيب سالك طريق الشر.
ورد عن رسول الله أنه قال: "يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ: إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْر".
وربما يقال إنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريق الخير والشر وبروزهما، كبروز الأرض المرتفعة.
ويقول تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾
معرفة مصاديق الخير والشر
إنّ الإنسان يدرك بعقله وفطرته أصول المبادئ الأخلاقية، والمعالم الرئيسة لها، وليس كلّ الجوانب والتفاصيل والتطبيقات، التي قد يخفى عليه بعضها، ويقصر عن معرفتها، فإدراك الإنسان للخير والشر والحسن والقبح هو على نحو الموجبة الجزئية وليس الكلية، على حدّ تعبير المناطقة.
وللإحاطة بأمور الخير والشر والحسن والقبح، ومعرفة التفاصيل والتطبيقات، وموارد التزاحم والتعارض، يحتاج إلى الشرائع الإلهية، والتخصصات العلمية، والخبرات والتجارب، وكلها أمور يسّر الله تعالى للإنسان سبلها لتتكامل هدايته ومعرفته.
وقد يجد الإنسان نفسه أمام حالة التباس في تحديد بعض الموارد والمواقف فتختلط عليه الأوراق، إما لانشداده نفسيًّا بدافع الرغبة والمصلحة تجاه بعض الخيارات، أو لوجود أجواء اجتماعية تؤثر على اختياره لهذا المورد أو ذاك.
وهنا على الإنسان أن يرجع إلى ضميره ووجدانه ويأخذ بما يرشده إليه ويمليه عليه.
وهذا ما نجد التأكيد عليه في التوجيهات النبوية الشريفة.
ورد عَنِ الإمام علي اَلرِّضَا عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَنَّ وَابِصَةَ بْنَ مَعْبَدٍ اَلْأَسَدِيَّ أَتَاهُ [أي رسول الله ] فَقَالَ لاَ أَدَعُ مِنَ اَلْبِرِّ وَاَلْإِثْمِ شَيْئاً إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ : أَتَسْأَلُ عَمَّا جِئْتَ لَهُ أَوْ أُخْبِرُكَ؟ قَالَ: أَخْبِرْنِي. قَالَ : جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ اَلْبِرِّ وَاَلْإِثْمِ، قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا وَابِصَةُ اَلْبِرُّ مَا اِطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ اَلنَّفْسُ، وَاَلْبِرُّ مَا اِطْمَأَنَّ بِهِ اَلصَّدْرُ، وَاَلْإِثْمُ مَا تَرَدَّدَ فِي اَلصَّدْرِ وَجَالَ فِي اَلْقَلْبِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ اَلنَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" .
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الباقر: «مَا ورَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَدِيثِ آلِ مُحَمَّدٍ فَلَانَتْ لَهُ قُلُوبُكُمْ وعَرَفْتُمُوهُ، فَاقْبَلُوهُ؛ ومَا اشْمَأَزَّتْ مِنْهُ قُلُوبُكُمْ وأَنْكَرْتُمُوهُ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وإِلَى الرَّسُولِ وإِلَى الْعَالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ».
مغالطة الضمير
إنّ بعض الناس قد يغالط ضميره، ويلتفّ على وجدانه، بالقيام بممارسات خطأ لا يقبلها ضميره ووجدانه، اعتمادًا على مبررات من خارج ذاته، كالاستناد إلى بعض الفتاوى والقوانين، وهنا لا بُدّ من استحضار رقابة الله ومعرفته بما تخفي الصدور.
وهل هناك أعظم من أن يصدر حكم قضائي من النبي محمد ، لكن الإنسان إذا كان يعلم أنه ليس صاحب حقّ، فإنّ الحكم النبوي لا يعفيه من المسؤولية أمام الله تعالى ولا يحميه من عقابه.
مبررات للالتفاف على الضمير
فقد ورد في حديث صحيح من طرق الفريقين السنة والشيعة، كما في الكافي بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِاَللَّهِ جعفر الصادق قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَاَلْأَيْمَانِ وَبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ".
وفي صحيح البخاري بسنده عن أم سلمة أنّ رسول الله قال: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا" .
وفي تراثنا الإسلامي وجدنا أنّ هناك من يستند إلى تصرف مزاجي أو قول هزلي لأحد الفقهاء لتبرير الإساءة والعدوان، فلقد نقلوا عن الأعمش -المحدِّث المشهور، (ت 147هـ)- وهو صاحبَ نوادر، وكان في خُلُقه شراسة، فحكوا أنه أراد الحج فخرج مع جَمّال، وخرج معه بعضُ طلاب الحديث يرجون أن يسمعوا منه الحديث، فكان الجمّال يؤذيهم، على عادة الجَمّالين من غِلَظ الطباع وسوء التعامل، فاجتمعوا يوماً في خيمة فجاء إليهم الجَمّال يؤذيهم، فقام إليه الأعمش بعمود الخيمة فضربه وشجّ رأسه! فقال له أصحابه: يا أبا محمد، تَشُجّ رأسه وأنت مُحْرِم؟! فقال: مِن سُنّة الإحرام ضربُ الجَمّال! إنّ كلّ من عرف شخصية الأعمش واطلع على نوادره المروية في تراجم المحدثين وكتب الأدب يمكنه سريعًا تصنيف هذه العبارة في أبواب النوادر الأدبية، ولا تلتبس عليه بأبواب الجِد، خصوصاً أنه لا عاقل يقول بظاهر هذا الحكم الذي تلفّظ به الأعمش، ومع هذا نجد ابنَ مُفْلح -الفقيه الحنبلي الشهير ت 763- ينص في إحدى مسائل الحج على قوله: "وليس من تمام الحجّ ضربُ الجَمّالين، خلافًا للأعمش، وحَمَل ابنُ حزم قوله على الفَسَقة منهم" (الفروع، كتاب الحج، ص 74).
بل ربط بعضُ الشرّاح تصرف الأعمش بالحديث المروي عن أسماء بنت أبي بكر وفيه: "خرجنا مع رسول الله حُجّاجاً... وكان أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه غلامه ببعيره، فطلع وليس معه البعير، فقال له أبو بكر أين بعيرك؟! فقال أضْلَلْتُه البارحة، فقال أبو بكر: بعيرٌ واحدٌ تُضِلّه؟! فطَفِقَ يضربه ورسولُ الله يتبسم ويقول: انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع"! فوجّه بعضُ متأخري الشرّاح تصرفَ الأعمش وعبارته على ضوء تصرف أبي بكر) .
إنّ على الإنسان أن يصغي دائمًا لصوت ضميره، ونداء وجدانه، وخاصة في مجال علاقاته مع الآخرين، قريبين أو بعيدين، حتى لا يتورط في ممارسة الظلم والجور على أحد، ولا تلتبس عليه الأمور، ولا يقع في فخ التبرير للخطأ والانحراف.