محنة الأمة المعاصرة
نحن مطالبون بغربلة التراث وحسن الانتقاء منه
إن حرص الأمة على تراثها، واحترامها لتاريخها وأسلافها، لا ينبغي أن يؤدي إلى حالة من الأسر والانبهار، والتوقف والجمود، فذلك يعني الخروج من معادلة التاريخ، وانتهاء الدور الحضاري، والقبول بالتخلف عن مسيرة الحياة.
فتراث الأمة في مجمله عدا النصوص الشرعية الثابتة، يعبّر عن جهد بشري، في الفكر والممارسة، بذلته الأجيال السالفة، وهو محصلة خبراتها وتجاربها.
ولا يمكن ادعاء العصمة والكمال لأي جهد بشري، باستثناء ما صدر عن وحي إلهي، وتسديد خاص (عصمة)، لذلك من الطبيعي أن يحتوي التراث على نقاط الضعف والقوة، والغث والسمين، والخطأ والصواب، كما أن تناقل التراث عبر مسيرة زمنية، تجعله معرضاً للشوائب والتحريفات.
وليس كل ما في التراث وإن كان صحيحاً قابلاً للتمثل والمحاكاة في كل عصر، ذلك أن اختلاف العصور والظروف قد ينشئ اختلافاً في المفاهيم والقيم، وفي المعايير والمقاييس وترتيب الأولويات. بل تحدث الفقهاء عن تأثير الزمان والمكان في تحديد الأحكام الشرعية للموضوعات.
ثم إن تطور الحياة، يفرض أسئلة جديدة، وتحديات معاصرة، تستلزم القيام بدور الإضافة إلى التراث، والإسهام في تجديده وتطويره.
كل هذه الأمور تفرض النظر إلى التراث والتعامل معه بعقل مفتوح، ووعي معاصر، وحينما نجد القرآن الكريم ينعى على المجتمعات الأخرى، تجميدها لعقولها، واتباعها لطريقة أسلافها، دون تأمل وتفكير، فإن ذلك يعني التأسيس لمنهجية التعامل الواعي مع تراث الأسلاف، بإعمال العقل، واستخدام المقاييس الصحيحة، لتمحيص التراث، وأخذ الصواب واجتناب الخطأ، وليس الانبهار والاستسلام والوقوع في أسر التراث.
يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾.
إن دراسة نهج السلف قد يكشف للجيل خطأ نهج السابقين وضلاله، وقد يكشف وجود ما هو أصوب وأهدى منه، والمطلوب ليس فقط تجنب الضلال والخطأ، وإنما البحث عن الأفضل والأحسن، حتى في دائرة الصواب. فقد يكون ما سلكه السابقون أنسب لعصرهم وظرفهم، وعلى كل جيل أن يتأكد مما هو أهدى وأصلح لحاضره. هذا ما يمكن استيحاؤه من قوله تعالى:﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾.
وإذا كنا مطمئنين كمسلمين للنهج العام لأسلافنا على طريق الإسلام، فإن ذلك لا يعفينا من لزوم النظر والبحث في تفاصيل هذا النهج وتطبيقاته، والاستجابة لتحديات العصر الذي نعيشه.
وفي إطار الدين فإن علمنا بما عرض للفكر والتشريع الإسلامي، من محاولات تحريف وتشويه، من قبل الثقافات الدخيلة، والجهات المغرضة في صفوف الأمة، يفرض علينا أن نجتهد في التمحيص والتدقيق لتجاوز آثار تلك المحاولات. حتى لا ننسب إلى الدين ما ليس منه فنكون مشمولين بوعيد الله تعالى حيث يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾. ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
ثم إن أسلافنا قد اجتهدوا في فهم الدين حسب طاقتهم، ومستوى معارف عصرهم، وليس هناك ما يلزمنا بحدود فهمهم واجتهادهم، إننا ملزمون بالنص الديني الثابت، أما تفسير السابقين وفهمهم للنص فليس جزءاً من الدين، بل هو معرفة بشرية، يمكن المناقشة فيها، وقبولها أو رفضها، على أساس البحث العلمي.
وهذا هو منطلق القول بوجوب الاجتهاد وجوباً كفائياً على الأمة، بأن تكون هناك حركة اجتهادية في كل عصر وجيل. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين:
((حاجة الأمة إلى الاجتهاد والمجتهدين، فلا ريب في أن تحصيل الاجتهاد واجب شرعاً وجوباً نفسياً تعينياً كفائياً على كل مسلم قادر عليه، ولا يسقط هذا الوجوب عن الأمة، إلا إذا وجد من المجتهدين ما تتحقق به الكفاية، فلا يحد بعدد مخصوص.
وهذا الحكم بالوجوب ينبغي أن يكون من ضروريات الإسلام، لأن طبيعة العقيدة والشريعة، وبمقتضى أصل وضعهما من قبل الشارع المقدس تعالى شأنه، تقتضيان الاستمرار والدوام المتوقفين على استمرار حركة الاجتهاد في الأمة المسلمة، لإظهار أحكام الله تعالى، التي تصوغ حياة البشر وتوجهها في تطورها وتقلباتها، ولحفظ الإسلام من الجمود على خصوص الأحكام التي اقتضتها طبيعة حياة المجتمع، في عصر الرسالة، والإمامة المعصومة الظاهرة، حيث إن هذا الجمود يؤدي إلى النسيان والاضمحلال بتعاقب الأزمان.
وقد دلت على هذا الوجوب من الكتاب العزيز آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
فقد دلت على وجوب التفقه لأجل تبليغ أحكام الشريعة. ودلت على أن هذا الوجوب ثابت على الأمة بنحو الكفاية، يجب أن تقوم به (طائفة من كل فرقة) فهو واجب على الأمة الإسلامية مع ملاحظة انقسامها إلى فرق، وينبسط هذا الوجوب على فرق الأمة، بنحو الكفاية على كل فرقة، ويتحقق الامتثال بقيام طائفة من كل فرقة بالنفر والتفقه.
ومما ذكرنا لا يبعد استفادة عدم كفاية وجود مجتهدين في شعب من الشعوب الإسلامية، لسقوط وجوب التفقه عن سائر الشعوب الإسلامية، بل يجب على كل شعب (فرقة) مسلم، أن يكون منه نافرون متفقهون (مجتهدون) لأن الأمر في الآية الكريمة وارد بنحو العموم الاستغراقي (كل فرقة) فلا يتحقق الامتثال بنفر طائفة من فرقة واحدة أو أكثر، إذا لم ينفر طوائف من جميع الفرق)).
التراث وواقع الأمة
سوء الواقع الذي تعيشه الأمة حقيقة ثابتة لا يمكن النقاش فيها، فالأمة التي كانت رائدة الحضارة والتقدم، وكانت خير الأمم في سالف الزمن، أصبحت الآن في وضع يُرثى له. حيث تعيش تخلفاً شاملاً، وتصنّف كل دولها ضمن قائمة دول العالم الثالث.
إنها تفتقد الاستقرار السياسي، لغياب الديمقراطية في معظم مجتمعاتها، وتعيش على هامش الحضارة لانعدام مشاركتها في ميادين العلم والتكنولوجيا، وتعاني من التمزق والخلافات الداخلية، لافتقادها السياسات العادلة، وضعف لغة الحوار.
لقد تضاءلت مكانة الأمة عالمياً، ووصلت سمعتها إلى الحضيض، خاصة في هذه السنوات الأخيرة، حيث شُوهت صورتها، وأُلصقت تهمة الإرهاب والتطرف بدينها وأبنائها، واتخذت مختلف دول العالم إجراءات التحفظ، تجاه مؤسساتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية. وأصبح اسم المسلم وشكله مثيراً لعلامات الاستفهام في أكثر من بلد.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل للتراث دخل في صنع هذا الواقع الذي تعيشه الأمة؟
إن قسماً من الناس لا يرون داع لمثل هذا السؤال، ذلك أنهم يعتقدون ببراءة الأمة وظلامتها، فهناك عدوان وتآمر خارجي، أوصل الأمة إلى
هذا الواقع المرير، في الوقت الذي تستحق فيه واقعاً أفضل، لعظمتها وأحقية دينها.
وخلاص الأمة ـ وفق هذه النظرة ـ هو في إشهار سلاح المقاومة، وسيوف الجهاد، ضد الغزاة المعتدين، والكفار المتآمرين.
أما حسب منطق القرآن ورؤيته، فإن انحدار مستوى الأمم، وسقوط المجتمعات، علته الأساس فساد الداخل وضعفه، واتساع رقعة ثغراته، وهو ما يتيح الفرص لنجاح التآمر والعدوان الخارجي، يقول الله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.
وهنا يكمن التساؤل عن علاقة التراث بواقع الأمة، فالأمة تعلن انحيازها لتراثها، وتظهر التزامها بشعاراته وشعائره، مما يعطي للتراث حضوراً ودوراً في صنع الواقع المعاش.
إننا لا نستطيع أن نتهم وندين كل تراثنا، فهو يشتمل على قيم الدين ومبادئه التي نؤمن بصحتها وصوابها، لكننا نستطيع افتراض الخطأ في طريقة تعاملنا مع التراث، ومنهجيتنا في الاختيار والانتقاء منه.
لقد تورطنا في الأخذ بجوانب سلبية من التراث، وقدسنا ممارسات خاطئة لبعض الأسلاف، ووقعنا في فوضى تراثية اختلط فيها علينا الحابل بالنابل، فاخترنا من التراث ما يبرر لنا واقعنا، وما يحقق في أنفسنا الرضا عن أوضاعنا المتخلفة.
ذلك أن تراثنا في جانب معارفه البشرية، وتجاربه العملية، نتاج لمدارس ومذاهب وتيارات متعددة، وكان للسلطات الزمنية والقوى النافذة، دور مؤثر في توجهات قسم كبير من هذا التراث، حيث خضع لها كثير من الفقهاء، وتملق لها أكثر الأدباء، وألتف حولها معظم الكتاب والمؤرخين. مما أفسح المجال لاتساع رقعة ثقافة الاستبداد في تراثنا، لتزاحم مبادئ الحرية والعدل والكرامة، التي جاء بها الدين، وتبتدع الحيل الشرعية والمخارج الفقهية للالتفاف على تلك المبادئ والقيم.
وكما في تراثنا ما يدفع إلى الانطلاق والإبداع، ويدعو إلى اكتشاف آفاق الطبيعة والكون، واعمار الحياة، فإن فيه ما يشجع على الكسل والعزلة والانطواء، وإهمال أمور الدنيا، بحجة إننا لم نخلق لها وإنما خلقنا للآخرة، فلا تستحق الحياة أن ننشغل بالتفكير في تطويرها، فلنتركها للكافرين الذين لا آخرة لهم، ولنتوجه للعبادة طمعاً في الجنة.
إننا مطالبون بغربلة التراث، وحسن الانتقاء والاختيار منه، وتجاوز الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها، والخروج من أسر التقديس المطلق لكل التراث ولجميع السلف. والذي يفقدنا القدرة على التقويم الموضوعي، والتعامل السليم.