و"قولوا للناس حسنا"
النخبة الدينية الثقافية ومبادرات التواصل
في كل شريحة من المجتمع قيادات فكرية واجتماعية بارزة، لها موقعيتها وتأثيرها في الأوساط المحيطة بها، ومن أجل أن تتحقق حالة التواصل والتلاحم بين فئات المجتمع، لابد من وجود حوار وتواصل بين الرموز المؤثرة في شرائحها، لأنها هي التي تصنع وتحدد الموقف من الآخر بين أتباعها، فحين تتواصل وتتحاور مع رموز الأطراف الأخرى، تكون أفضل معرفة وإدراكاً لواقع الآخرين، حيث تكتشف مناطق الاتفاق، وتحدد موارد الاختلاف، وتظهر لها مجالات التعاون لخدمة المصالح المشتركة للأمة والوطن.
كما أن حالة التواصل الشخصي والجمعي بين هذه النخب تساعد على تجاوز الحواجز النفسية، وتخلق أجواء إيجابية تخدم وحدة المجتمع وتكرس نهج الحوار في أوساطه.
وعلى العكس من ذلك فإن التباعد والقطيعة بين ذوي الرأي والتأثير في المجتمع، يتيح الفرصة للأخذ بالظنون السيئة، ولانتشار الشائعات الخاطئة، ولإبقاء الحواجز بين مختلف الشرائح والفئات.
فلو بادر بعض ذوي الرأي من كل جهة، للانفتاح على أمثاله من الجهة الأخرى، ومناقشة موضوع العلاقات الداخلية بين الجهات والفئات، وكيفية تأطيرها في الإطار الإسلامي والوطني، لقطعت مجتمعاتنا شوطاً متقدماً، على طريق الوحدة والانسجام والتعاون، ولوفرّنا على أمتنا خسائر القطيعة والنزاع والاحتراب.
ونقصد بذوي الرأي أصحاب الكفاءة العلمية والفكرية، ممن يمارسون دور التوجيه والتأثير في المجتمع كعلماء الدين، والمفكرين المنتجين، والقيادات الاجتماعية.
إن تقاعس ذوي الرأي عن المبادرات الإيجابية، وعن رفع الصوت عالياً بالدعوة إلى الانفتاح والحوار، هو الذي يترك الساحة فارغة، لأصوات دعاة الكراهية والمتطرفين، من الجهات المختلفة.
ونتساءل هنا: لماذا تنعدم في ساحتنا - أو تقل - مبادرات ذوي الرأي على اختلاف توجهاتهم في الانفتاح على بعضهم بعضا، والتحاور فيما بينهم من أجل رأب الصدع، والاهتمام بالمصلحة العامة؟
في الجواب على هذا التساؤل يمكن القول: إن هناك مجموعة من الأسباب والعوامل، تضعف توجه ذوي الرأي، وتقلّل مبادراتهم باتجاه التواصل والحوار، ومن أبرزها ما يلي:
1- ضعف الاهتمام بالشأن العام:
إذا وفقّ اللَّه تعالى الإنسان لنصيب من العلم والمعرفة، وقدر من الوعي والخبرة، فإنه بنفس الدرجة يكون مسؤولاً عن توظيف ذلك في خدمة المجتمع والمصلحة العامة، لكن بعض ذوي الرأي يعيشون همومهم الخاصة، فإذا كان الحوار والانفتاح على الآخر لا يحقق كسباً ذاتياًً، فإنه لا يكون من دائرة اهتماماتهم، ولا ضمن سلّم أولوياتهم.
وهذا هو منطق البعض من علماء الدين أو المثقفين في مجتمعاتنا. إنه لا يشعر بحاجة شخصية، ولا يتوقع مكسباً ذاتياً من خلال الانفتاح على الآخر والحوار معه. ولكن ماذا عن المصلحة العامة؟
إنك قد لا تكون محتاجاً للآخر على المستوى الذاتي الشخصي، وهو قد لا يكون محتاجاً لك كذلك، ولكن الوطن والمجتمع يحتاج إلى تلاقح الآراء، وتضافر الجهود، وسد ثغرات الفتن والنزاعات، وترسيخ الوحدة الوطنية والاجتماعية.
2- مشاعر الاستعلاء أو الرهبة:
حينما يكون ذو الرأي في موقع متقدم، من حيث المنصب أو الإمكانيات المادية والاجتماعية، فإنه قد يهيمن عليه شعور بالاستعلاء والتفوق على أمثاله، من ذوي الرأي الذين لا يصلون إلى مستوى مكانته وقدرته، فيعزف عن الانفتاح عليهم، ويترفع عن الحوار معهم، لأنه لا يجدهم أنداداً.
وقد لا يكون ذو الرأي شخصياً في موقع قوة، لكن انتماءه إلى فئة هي في موقع القوة، يكفي لمنحه ذلك الشعور بالاستعلاء.
وعلى العكس من ذلك، فقد يكون الشعور بالضعف والرهبة من الطرف الآخر سبباً للعزوف عن الانفتاح والحوار، فمن لا يكون واثقاً من نفسه، أو من علمه ورأيه، فإنه يتلكأ في التواصل مع الآخرين، خوفاً من ظهور ضعفه، أو أن يفتح ذلك منافذ للتأثير على جمهوره وقاعدته.
3- التصنيف والأحكام المسبقة:
في أجواء التشنج والخصام، وحينما تتضخم مسائل الخلاف، يصنّف الناس بعضهم بعضاً تصنيفاً حاداً، ويصدرون على بعضهم البعض أحكاماً غيابية قاسية.
وحينما يصنف الإنسان الآخرين عدائياً، ويحكم عليهم بالإدانة سلفاً، فإنه لا يندفع للانفتاح عليهم والحوار معهم.
ولكن حتى إذا غضضنا النظر عن خطأ التصنيف والحكم المسبق، فانه لا يصح أن نتجاهل أن تطوراً واضحاً في مستوى الوعي، والثقة بالذات، والاستقلالية في الرأي، قد حصل في ساحة المجتمع، نتيجة للتطورات العلمية والاجتماعية، وهذا يعني أن الأيديولوجيات والمذاهب والمدارس الفكرية، ما عادت تحكم سيطرتها في جميع الآراء والمواقف على المنتمين لها، لذا لا يصح أن تحاكم شخصاً أو تدينه من خلال ما تكونه من انطباع عن الجهة التي ينتمي إليها، فالأحكام التعميمية لم تعد دقيقة ولا صائبة.
ثم إن كون الآخر منتمياً لهذا الاتجاه أو ذاك، ومهما كان تصنيفك له، فإنه لا يصح أن يمنعك من إشادة جسر العلاقة الإنسانية والاجتماعية معه، خاصة مع وجود مصلحة مشتركة، ولقد عاهد رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يهود المدينة ونصارى نجران، وتعاطى الخلفاء من بعده مع مختلف أتباع الديانات، وجرت اللقاءات والحوارات بين زعاماتهم والقيادات الإسلامية، ويكفينا قولـه تعالى: ﴿لاَ يَنْهـَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجـُوكُمْ مِنْ دِيَارِكـُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهـِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحـِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وتحدثنا السيرة النبوية الشريفة عن مداراة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لزعماء المنافقين والتواصل معهم كما في عيادته (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبدالله بن أبي عند وفاته. وكان أئمة المذاهب وعلماء الفرق يتواصلون فيما بينهم عبر تاريخ الأمة مع اختلافاتهم العقدية والفقهية، ولنا حاضراً في بعض الساحات الإسلامية كمصر ولبنان وإيران وباكستان شيئاً من التواصل بين مختلف التوجهات.
4- ضغوط التعبئة الجماهيرية:
يبالغ بعض علماء الدين أو المثقفين أحياناً، في تعبئة جمهوره ضد الطرف الآخر، وإلصاق مختلف التهم والعيوب به، والتشكيك في نواياه، ويرتب على ذلك تحريم وتجريم أي نوع من التواصل معه.
إن مثل هذه التعبئة تصبح أسراً وقيداً على حركة منتجيها، ويجعل من الصعوبة بمكان أن يتجرؤوا على الانفتاح على الطرف الآخر، أو الحوار معه، لأن جمهورهم قد تربى على منحى مخالف.
ولا أدري ما هو المبرر الشرعي لهؤلاء في تربية جمهورهم على الأحقاد والأضغان، وسوء الأخلاق؟ مع أن القرآن الكريم يأمر المسلمين أن يتعاملوا مع الكفار المشركين بالتي هي أحسن، لإظهار وجه الإسلام الحضاري الإنساني، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
إن التعامل الإنساني مع الآخرين يساعدك على استقطابهم والتأثير فيهم، بينما إساءة التعامل والأخلاق تنفّر الآخرين من الحق الذي تعتبر نفسك داعية له!!
كما يأمر اللَّه تعالى عباده المؤمنين أن يستقبلوا الناس -كل الناس- بحسن المعاشرة وطيب الكلام يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وفي تفسير هذه الآية الكريمة يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: ((ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموماً، فقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى الكفار)).
5- مراكز القوى:
هناك مراكز قوى خارجية وداخلية، لا يعجبها أن تسود أجواء الوئام والانسجام في شعوب الأمة، ولا أن تتصلب الوحدة الوطنية في بلاد المسلمين، لذلك تستخدم كل أساليبها ووسائلها للإبقاء على حالة التفرقة والنزاع، ولمنع أي تقارب جادّ بين الجهات والاتجاهات المختلفة.
تلك هي أبرز العوامل - فيما يبدو لي - التي تعيق انطلاق مبادرات الانفتاح والحوار بين ذوي الرأي من علماء ومفكري هذه المجتمعات.
لقد آن أن يتحمل ذوو الرأي في مجتمعاتنا، وخاصة علماء الدين، مسؤوليتهم في تجاوز حالة القطيعة مع بعضهم البعض، وأن يتحلّوا بالجرأة والشجاعة في الانفتاح والحوار، وأن ينقذوا المجتمع من مشاكل الصراع والنزاع، فالتحديات والأخطار التي تواجهها أجيالنا المعاصرة، أكبر من القضايا التي يتم على أساسها التصنيف والافتراق.