أمومة متأخرة
لقد حصل على درجة عالية بالثانوية العامة واختير ضمن بعثة دراسية لبريطانيا، نالت الفكرة سرور والديه ليجرب تجربة جديدة تكسر انطوائيته وخجله ويعيش فيها حياة مختلفة خارج نطاق جدران غرفته.
ولد طفلاً لأب جرّاح يأتي البيت في وقت متأخر من الليل، ولأم تعمل صباحاً بالمدرسة، وظهراً بالبيت وتنام مبكراً. عاش طفولته بأحضان الخادمات وكبر بالقرب من الكتب والقلم الذي يخط به يومياً بوح قلبه، لذا كان وداع والديه بالمطار بارداً عكس ما رآه من حرارة دموع الأهالي والطلبة المتوجهين للبعثة معه.
عند وصوله استأجر غرفة واسعة مزودة بكل ما يحتاج إليه في منزل «مس هالي» التي ستكون مسؤولة عن نظام متابعة أوقات دراسته وحضوره للمنزل بشكل يومي، استقبلته بأسلوب مرح رغم أنها بعمر جدته، كان صوتها هادئا وحنونا وعفويتها كالطفل.
في غربته وجد في مس هالي حب الأم الذي افتقدهُ، كالأمومة المتأخرة، إذ كانت تنتظره يومياً على وجبة الإفطار بمائدة من إعدادها برائحة الخبز المُشهية، فيدخل معها في حوارات مطولة، وهكذا كان يبدأ يومه بهدوء وسلام، وكانت السيدة هالي تُصرّ عليه أن يتم إفطاره كاملا، ثم تعطيه وجبة الغداء ليحملها معه، وترافقه للباب كطفل صغير يذهب لمدرسته، ولم تكن لتذهب لفراشها ليلاً إلا إذا تأكدت من وصوله، تغلق الباب والمصابيح وتمر غرفته لتتمنى له ليلة سعيدة هانئة.
لولا مس هالي لكان يعيش مرارة الغربة ووجع الوحشة، كانت أيام الإجازات ممتعة؛ لأنها تعد الكعك المخبوز والقهوة وتجالسه بالساعات، لقد غسلت روحه الميتة وألبسته بحسن رعايتها روحًا جديدة بيضاء.
مرت 3 سنوات مسرعة، بقي ساعة لمفارقة هذا المنزل الدافئ الذي حمل أجمل الذكريات لوداع مس هالي، متجه للمطار للعودة لدياره، كم هي صعبة هذه اللحظة لم تتحمل عينيه ثقل دموعها، فانهار باكياً، فكيف سيستيقظ غدا ولن يجد من شاركته همومه وجعلت منه إنسانًا أخر؟ حاولت مس هالي أن تهدئ حزنه بعيونها العطوفة وببسمتها المعتادة وأعطته آخر وجبة غداء يتناولها بالطائرة ودعها بقلب موجوع وعين باكية.
كانت مسؤولية مس هالي متابعة أوقات رجوعه للمنزل فقط، لكن إحسانها له كان الخير الحقيقي بمعاملتها له كابن رغم اختلاف دياناتهم وأعمارهم. إن نجاح علاقاتنا مع الناس لا تعتمد على اللون والجنس أو القبائل، لذا نحتاج إلى أسس مختلفة إحداها حسن الخلق والتصبر.
لماذا نجحت مس هالي وفشلت الأم بدور الأمومة؟ قد تجد الإجابة في محاضرة الشيخ حسن الصفار بعنوان «تحديات العلاقة الاجتماعية».
طبيعتنا الإنسانية تجبرنا على التعامل مع الناس بعلاقات قريبة أو بعيدة هذا ما بدأ به الشيخ الصفار محاضرته موضحا أن التحدي الأكبر يكمن بالصلات والعلاقات التي تفرض على الإنسان وتعاكسه الرأي.
إن هذا العالم ليس قطعة حجر بل بشر بأرواح ومشاعر لا يمكن أن يعيش الإنسان منفردا فيها لأنه:
- كلما زادت الحياة تعقيدًا وتطورًا زادت الحاجة لتوسيع العلاقات الاجتماعية حتى يستطيع الإنسان إكمال مسؤولياته بأكمل وجه فلا يستطيع القيام بجميع شؤونه بمفردة.
- تكمن راحة الإنسان النفسية بالاختلاط مع الناس، فكلما زادت وحدته قلت علاقاته وزادت أمراضه والعكس صحيح.
- تتفق المعتقدات الدينية أن الفرد يحتاج أن يسلك طرق الأخوة والصداقة والإنسانية لنيل رضا الله وأن لهذه العلاقات أجر عظيم.
- تعمل العلاقات الاجتماعية على صقل المهارات وتحقيق الشعور الذاتي عند ترابط واهتمام الناس ببعضهم.
وضح الشيخ الصفار أن من طبيعة خلق الإنسان أن يكون لكل فرد خصوصيته ومشاعره وأراءه الخاصة مهما تشابهت أمورهم يبقى هناك اختلافات تميزهم عن بعضهم، لهذا وُضع الإنسان أمام تحدي صعوبة التعامل. إن من الممكن التعامل مع أمور الطبيعة فنتحكم بها ونجعلها تصنع بما يناسب ميولنا كتصميم البيت أو شراء سيارة، لكن التعامل مع البشر لا يمكن التحكم به فما الحل؟
عندما تلتقي بشخص وجدت أن ميوله ومزاجه يختلف عنك. أنت مخير بين أربع أساليب عند التعامل معه:
- الأسلوب الأول: أن تقوم بإعادة بلورة أفكاره ورسمها من جديد بما يناسبك والصعوبة في هذا الأسلوب أن الإقناع ممكن أن ينجح في تغيير جانب في الفرد وليس تغييرا كليا بما يناسبك.
- الأسلوب الثاني: أن تنسحب من أي رابط يجمعك به وتبعده عن حياتك ويكمن عيب هذا المنهج بصعوبة تطبيقه مع أشخاص لا غنى لك عنهم مثل أولادك ووالديك وجيرانك ومسؤولك بالعمل.
- الأسلوب الثالث: وهو سياسة البقاء ولكن بجو من التوتر والمشاكل المصاحبة لكل اختلاف يتصادم مع مزاجك والضرر هنا بابتعاد الناس عنك وتقل بذلك دائرة معارفك.
- الأسلوب الرابع: سياسة الصبر والاستيعاب وهي أفضلهم وأرقاهم فالصبر لا يعتبر ضعف بل شجاعة والتغافل فن وليس غباء.
قال تعالى «وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» ذكر الشيخ الصفار دور الإحسان العميق الذي يؤثر بمشاعر المحيطين حتى لو كانوا أعداءك. يتهذب الإنسان بالإحسان؛ لأن نزعة الخير تطفو على الحقد والأنانية، وما نجده من حملات مساعدة المحتاجين والتبرع بالدم وفك قصاص ولي الدم ما هي إلا أنواع من زهور الإحسان التي تمتد شذا نتائجها على المجتمع ككل.
افتح قائمة برنامج الوتس أب في تلفونك ستجد «قروب» معد للعمل وآخر للعائلة وآخر للأصدقاء والجيران وووووووو. وكلما اتسع مجالك الاجتماعي ستزداد نسبة هذه المجموعات، إن التعامل معهم مسؤولية تحتاج صبرا بتحمل سلوكياتهم واستيعاب لفهم اختلافاتهم ومحبة لتقديم الإحسان لهم.
قد يُخلق من رحم الدنيا لك شخص بمثابة أب أو أخ أو صديق أو سند مثل «مس هالي» لذا افتح ذراعيك وقلبك بمحبة وصبر للناس ففي داخلهم أوراق رابحة من نعم الله لك على هيئة بشر.