الإعلام لأولياء اللَّه
لم يخل عصر من العصور ولا زمن من الأزمنة من الاهتمام بالدعاية والإعلام للأشخاص أو للأفكار أو للقضايا والأحداث، ولكن أساليب الإعلام وبرامجه تختلف من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. ويحتل الإعلام في هذا العصر أرقى المراتب وأعلى مستويات الاهتمام. فقد تطورت أساليبه وبرامجه وأصبح علماً يدرس في الجامعات والمعاهد المتخصصة، وتحول إلى صناعة تعتمد على الخبرة والكفاءة والتجربة ولها مؤسساتها ومطابخها وأجهزتها المتطورة.
فالإعلام اليوم يعتمد التخطيط والبرمجة ويستفيد من تجارب وأبحاث علم النفس والمجتمع ونظم المعلومات. وللتقدم التكنولوجي والعلمي دور كبير في توطيد أركان الإمبراطورية الإعلامية على مستوى العالم، وخاصة بعد استخدام الأقمار الصناعية ومحطات البث الفضائي المباشر. إن الإعلام اليوم عنصر أساسي وفاعل ومؤثر في مختلف مجالات حياة الإنسان.. في عالم السياسة والاقتصاد والفكر وفي جميع الحقول. لذلك فإن أي حكومة أو حزب أو شركة أو مصنع أو أي شركة مادية أو معنوية لا بد وأن تخصص قسطاً كبيراً من اهتمامها ورأس مالها وجهدها للجانب الإعلامي، وما هذا التسابق الذي نشهده الآن على أخذ المواقع في شبكة الإنترنت من قبل الجهات السياسية والدينية والفكرية والفنية والتجارية إلا مظهر واضح لإدراك الجميع لأهمية الإعلام وتوجههم للاستفادة منه.
ولسنا الآن بصدد الحديث عن أهمية الإعلام ومدى تأثيره فهو أمر واضح مسلم به أولاً كما أن هناك سيلاً من الكتب والدراسات والبحوث المتخصصة التي تدرس جوانبه المختلفة ثانياً. لكن ما نريد تناوله في هذه السطور المتواضعة هو تعاطي أوساطنا الدينية مع المسألة الإعلامية.
هل نحتاج إلى الدعاية والإعلام؟
الفكرة السائدة في غالب أوساطنا الدينية أن الأمور الدينية ليست بحاجة إلى الدعاية والإعلام والإعلان حيث يجب أن يقبل الناس على شؤون دينهم باقتناع واندفاع ذاتي، كما أن الدين يؤكد على قيمة الإخلاص للَّه والزهد في المنصب والبروز والظهور، ويحذر من الرياء وطلب السمعة. والإنسان المؤمن يجب أن يكون متواضعاً متهماً لنفسه بالنقص والتقصير، لا يزكي نفسه ولا يمن بعمله ولا يغتر، ولا يتطلب المدح والشهرة. وكل ذلك يدفع الإنسان المؤمن إلى الابتعاد عن الأضواء والنفور من الدعاية والإعلام. ونتيجة لهذه الفكرة السائدة فإن الكثيرين من رجال الدين والعلم يعيشون مغمورين لا يعرف العالم بل لا تعرف الأمة الإسلامية والجماهير المؤمنة شيئاً عن حياتهم وموقعهم العلمي وإنجازاتهم الفكرية والعملية.
ويحصل كثيراً أن يفاجأ الناس بالحديث عن فضل عالم أو مكانته ضمن برامج تأبينه (أي بعد وفاته)، أما في حال حياته فلا أحد يعرف عنه شيئاً عدا القلة القريبة منه. إن في حوزاتنا العلمية وأوساطنا الدينية قمماً شامخة من العلم والمعرفة، وكفاءات عظيمة في الفكر والثقافة، ونماذج رائعة في الالتزام بالقيم والمبادئ والخدمة والعطاء.. لكنها مغمورة مجهولة مما يحرم الأمة والعالم من الكثير من فوائدها ومنافعها. وهناك جهود جبارة عظيمة في مختلف ميادين العلم والمعرفة والحضارة لكنها تعيش في ظلام التعتيم والخفاء، إن الإعلام والدعاية للشخصيات العلمية الدينية وللمؤسسات والأنشطة التي يقوم بها المؤمنون أمر ضروري ومهم وذلك للمبررات الآتية:
أولاً: إن الشخصيات العلمية والفاعليات الدينية تجسد القيم الخيرة الصالحة فالإعلام لها وإبرازها يعني نشر وتكريس القيم التي تمثلها فحينما تمتدح العالم وتشيد به فأنت في الواقع تشيد بقيمة العلم وتؤكدها.
ثانياً: الإعلام والإشهار للجهات الدينية يعني اتاحة الفرصة لجماهير الأمة لكي تتعرف عليها وتلتف حولها وتستفيد منها. فالطبيب المقيم في مكان خاف بعيد عن الأنظار ودون لوحة أو إشارة تدل عليه لا يقصده المرضى لأنهم لا يعرفون عنه مع حاجتهم إليه.
ثالثاً: إن الإعلام سلاح فعال في معترك الحياة بين الأديان والمبادئ والتوجهات والأمم والمجتمعات، وكأصحاب دين ومبدأ لا يصح لنا أن نترك ساحتنا تحت تأثير الإعلام للشخصيات والأفكار والجهات الأخرى. بل لابد وأن نشهر سلاح الإعلام لرفع معنويات جمهورنا ولإرشادهم للبديل الإسلامي الأفضل، ولتأكيد الثقة في نفوسهم بدينهم وقادتهم وشخصياتهم ورجالاتهم. بل إن الإعلام السليم والمتطور يمكننا من التأثير على سائر المجتمعات والأمم، وإلفاتهم إلى قيم الإسلام ومبادئه وعظمته.
رابعاً: من الناحية الدينية فإن الإسلام يربينا على الدعاية والإعلام لأولياء اللَّه وإبرازهم واحترامهم، إن اللَّه تعالى يأمر نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بتخليد ذكر الأنبياء والأولياء والتحدث عن صفاتهم العظيمة.. يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾[2] ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾[3] . ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾[4] . ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾[5] .
وفي القرآن الكريم مساحة واسعة لقصص الأنبياء والأولياء للإشادة بهم وتقديمهم للبشر كقدوات ولأخذ الدروس والعبر من سيرتهم. والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمدح خيار صحابته ويشيد بفضلهم ومكانتهم كمدحه الكثير والمكرر لآل بيته الهداة علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام. ومدحه لخيار الصحابة كأبي ذر وسلمان وعمار بن ياسر وأشباههم. وكذلك كان الأئمة المعصومون يثنون على أفاضل أصحابهم ويركزون قيمتهم ومكانتهم في المجتمع.
بل إن النبي وأهل بيته صلوات اللَّه عليهم أجمعين كانوا يشجعون على مدح أنفسهم والثناء على صفاتهم الكريمة ومواقفهم النبيلة ومعاناتهم من الظالمين. يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (( ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس )) [6] .... وعن أبي طالب القمي قال: (( كتبت لأبي جعفر (عليه السلام) بأبيات شعر وذكرت فيها أباه وسألته أن يأذن لي في أن أقول فيه فقطع الشعر وحبسه وكتب في صدر ما بقي من القرطاس قد أحسنت فجزاك اللَّه خيراً )) [7] .
وينقل التاريخ عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تقديره للشعراء الذين كانوا يمدحونه ويذكرون جميع خصاله كارتياحه لشعر عمه العباس بن عبد المطلب لما قال: يا رسول اللَّه أريد أن أمتدحك؟ فقال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لا يفضض اللَّه فاك..فأنشأ قصيدته التي مطلعها:
من قبلها طبت في الظلال وفي
مستودع حيث يخصف الورق[8]
وكارتياحه (صلى الله عليه وآله وسلم) لشعر كعب بن زهير لما أنشده في مسجده الشريف لاميته التي أولها:
* بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *
فكساه النبي بردة اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم وكان الخلفاء يلبسونها في العيدين.
ولما أنشد كعب قصيدته وبلغ قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به
وصارم من سيوف اللَّه مسلول
أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) بكمه إلى الناس ليسمعوا منه.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يضع لحسان بن ثابت منبراً في مسجده الشريف يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إن اللَّه يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول اللّه )). ودخل الكميت على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أيام التشريق بمنى فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ فقال الإمام (عليه السلام): إنها أيام عظام. قال الكميت: إنها فيكم. فلما سمع الإمام مقاله بعث إلى ذويه فقربهم إليه وقال: هات فأنشده لاميته من الهاشميات فحظي بدعائه (عليه السلام)، وأمر له بألف دينار وكسوة[9] .
ما أغنى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) عن مدح المادحين وثناء الشعراء ولكنهم كانوا يعرفون تأثير ذلك في مجتمعاتهم ودوره في معركتهم ضد الكفار الفاسدين. وما أعظم درجة الإخلاص والزهد لدى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته عليهم السلام، ولكنهم كانوا يرضون بالمدح والثناء ويشجعونه لما في ذلك من خدمة لخطهم الإلهي ولأهدافهم المقدسة.
وربما يتساءل البعض: كيف نوفق بين هذه الحقيقة وهي ضرورة توظيف الإعلام في خدمة الدين عبر الإعلام لرجالات الدين والمؤسسات الدينية والأنشطة الإسلامية وبين التعاليم الدينية التي تحذرنا من طلب الشهرة والتلوث بالرياء؟ والجواب: إن ذلك يكمن في طبيعة الدوافع فإذا كان الإعلام من أجل السمعة والمصالح الشخصية وإذا كان الهدف من العمل الديني هو التظاهر به، فهنا يكون المحذور وهو ما تنهي عنه التعاليم الدينية.
أما إذا كان العمل خالصاً لوجه اللَّه واستفيد من الإعلام لخدمة التوجه الديني، وكان المقصود إعزاز الدين بإبراز رجالاته وتشجيع الخير بتقديم النماذج له فهو ما يحبذه الإسلام ويرغب فيه. وقد يقال: كيف نستطيع أن نحكم إذاً على صحة هذا العمل شرعاً أو عدمها ما دامت المسألة مرتبطة بالدوافع والنوايا ولا يعلمها إلا اللَّه؟ والجواب: إن العمل الإعلامي كسائر الأعمال التي يؤديها الإنسان المؤمن من صلاة وصيام وحج وإنفاق وجهاد وفي جميعها ترد احتمالات الإخلاص أو الرياء، ولسنا معنيين بالتفتيش على النوايا وإنما الأصل الحكم بالصحة حتى يتبين العكس وعلينا أن نرحب بأي عمل إعلامي لصالح جهة دينية، دون أن نبحث أو نناقش في نوايا القائمين بذلك العمل الإعلامي كما ننظر إلى صلاة أي مسلم أو حجه أو إنفاقه فهل نطلب منه شهادة إثبات على صحة نواياه؟.
الإعلام الديني والحساسيات الداخلية:
من الطبيعي أن تتعدد الجهات والاتجاهات في الساحة الدينية وهناك العديد من المراجع والكثير من العلماء والفقهاء والخطباء والمؤسسات والأنشطة الدينية، وينبغي أن تكون الكثرة والتعدد منبع سرور وارتياح للإنسان المؤمن، لأن ذلك يقوي جبهته أمام الجبهات المعادية، ويبعث على التنافس الإيجابي والتسابق إلى الخيرات. ومن حق كل جهة بل قد يكون من واجب كل جهة أن يكون لها اهتمام إعلامي وسعي لإبراز رموزها وشخصياتها والإعلان عن أنشطتها وأعمالها.
بيد أن المؤسف حقاً أن تنظر جهة بسلبية وانتقاص لإعلام الجهة الأخرى وكأن الدعاية والإعلام للجهة الأخرى يتم على حسابها أو أن امتداح هذا المرجع وإبرازه وإشهار شخصيته يتضمن التقليل من المرجع الآخر!!. إنها نظرة سلبية ضيقة فإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وإذا ما رأيت جهداً إعلامياً لصالح عالم أو مؤسسة ما فعليك أن تعرف أن ذلك يصب في صالح الحالة الدينية والإتجاه الديني بشكل عام، ولا بأس أن تندفع أنت لإبراز العالم الآخر، وإشهار شخصيته، فالمجال مفتوح أمام الجميع، ولتعرف جماهير الأمة كل المراجع، وليطلع العالم على ما لدينا من قمم علمية وفكرية.
الإعلام للبرامج والمواقف:
لا شك أن لإبراز شخصيات الأمة والإشادة بكفاءات أبنائها أمر مفيد لرفع المعنويات وتأكيد الثقة بالذات ولأداء شيء من حق الفضلاء الأعلام. لكن ما ينفع الأمة أكثر هو تقديم الدروس والعبر من خلال سيرة وتجارب أعلام الأمة وشخصياتها. والأكثر أهمية هو تبيين البرامج والمواقف لكل قائد ديني وزعيم اجتماعي في الأمة، فالأمة تواجه تحديات مصيرية وترتسم أمام أبنائها تساؤلات هامة في شتى مجالات الحياة. ومهم جداً أن نعرف برامج مراجعنا وقادتنا للخروج بالأمة من هذا المأزق ولمواجهة التحديات الكبيرة، وأن نطلع على آرائهم ومواقفهم وإجاباتهم على التساؤلات المطروحة.
تحية لـ[مجلة المرشد]:
لقد أكبرت في الأخ الكريم الفاضل الشيخ حسين الفاضلي همته العالية وطموحه الريادي حينما أخبرني عن عزمه على إصدار مجلة ثقافية موسمية فشجعته على ذلك. لكني أشفقت عليه من عبء هذه المهمة الشاقة لما أعرفه من أوضاع الساحة الدينية والتي غالباً ما تضن بالدعم والتشجيع للمبادرات الطيبة وتستقبل أي مشروع بالتساؤلات والتشكيكات، وتضيق ذرعاً بالمنابر الحرة التي تستوعب مختلف التوجهات، وتحترم الرأي والرأي الآخر.
وأتذكر أني أكدت للأخ رئيس التحرير ضرورة الخروج من بوتقة الفئوية والتحيز لمرجع واحد، أو اتجاه واحد أو تيار واحد، وأن تكون المجلة منبراً للساحة الإسلامية على اختلاف مدارسها ومراجعها ورموزها وشخصياتها. ولقد سرني وأنا أتابع مسيرة هذه المجلة الطيبة -المرشد- انفتاحها على الجميع وأرجو أن تستمر المجلة على هذه السياسة الحكيمة لتكون ساحة للتعارف ودافعاً للتقارب ومنبراً للوسط الديني بأجمعه.
أكتب هذه السطور وأنا أتصفح مواد هذا العدد الجديد من مجلة [المرشد] الذي يتضمن ملفاً عن أحد المراجع البارزين هو آية اللَّه العظمى المرجع الديني الميرزا علي الغروي (دام ظله العالي)، والذي يعتبر اليوم ركناً أساسياً للحوزة العلمية في النجف الأشرف، وقد يفاجأ الكثيرون بالمعلومات الواردة في هذا الملف عن حياته المليئة بالعلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة، والنشاط المتواصل في خدمة الحوزة العلمية، وتربية أبنائها، وذلك راجع لما سبق ذكره من عوامل وأسباب تقعد بالمؤمنين عن إبراز شخصياتهم والإشادة برجالاتهم.
حفظ اللَّه للأمة هذا العالم الفقيه والمرجع البارز وزاد في توفيقه لخدمة الدين والعلم، وجزى اللَّه المبادرين لإعداد هذا الملف خير الجزاء، متمنياً للمجلة الاستمرار والتوفيق والتقدم.