الأنسنة في الفكر الإسلامي المعاصر
أنسنة الفكر الإسلامي وخطابه بتضمينه القيم الإنسانية، اتجاه برز وتطور مؤخراً على أيدي نخبة فكرية مستنيرة، منها: الشيخ حسن الصفار في سلسلة مؤلفاته ومقالاته التي أبرزت الجانب الإنساني في الإسلام وبخاصة كتابه القيم "الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان". استمع إليه شارحاً قوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم" يقول "عندما خلق الله تعالى الإنسان أقام له مهرجاناً كونياً للاحتفاء به، وأمر الملائكة بأداء مراسيم التحية والإكرام له بالسجود، لقد ربط القرآن الكريم، التكريم ببني آدم، أي أن التكريم للإنسان لكونه إنساناً، فالإنسانية وحدها علة التكريم وليس الدين أو المذهب أو الجنس أو الجنسية أو اللغة أو اللون، وهو بهذه الصفة له حقوق كاملة، لا يجوز لأحد أن ينتهكها أو يمسها".
وينتقد الشيخ الخطاب الإسلامي، وضعف اهتمامه بحقوق الإنسان مقارنة باهتمامه بالقضايا العقدية والعبادية والسياسية، رغم أن القرآن الكريم أكد هذه الحقوق قبل مواثيق حقوق الإنسان بعشرة قرون، واعتبر الاعتداء على فرد عدواناً على البشرية جمعاء.
وللدكتور عبدالجبار الرفاعي، المفكر العراقي، كتابه المرجعي الهام "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين". الإنسان عنده "كائن ديني" تكون ضميره الأخلاقي وعرف العدالة من الدين، لكن على مر العصور تراكم على جوهر الدين، موروثات فلسفية وأيديولوجية وفقهية ومذهبية حجبت الجوهر الأصيل للدين، والذي يتجسد في القيم الإنسانية والأخلاقية، ومن هنا علينا إنقاذ هذا الأصل المغيب بإعادة قراءة للقراءات المتعددة للدين، انطلاقاً من مبدأ المطابقة بين الدين ونزوعه الإنساني.
وللدكتور سعد الدين هلالي، أستاذ الفقه بالأزهر، كتاب نفيس "الإسلام وإنسانية الدولة" سعى فيه إلى إبراز الإسلام ديناً إنسانياً يعتمد العقلانية وحرية الاختيار، وأخيراً، للباحث المفكر زكي الميلاد، كتيب رائع "الإسلام والنزعة الإنسانية: كيف نعطي النزعة الإنسانية قوة المعنى؟"، أصّل فيه النزعة الإنسانية في المجال الإسلامي من مصادرها الشرعية، ساعياً إلى إحيائها وتفعيلها بهدف تغيير أوضاعنا العامة، والنزعة الإنسانية عند المؤلف، ذات 3 أبعاد هي: البعد القيمي المستند إلى وحدة الأصل، والبعد الحقوقي المستند إلى قاعدة المساواة بين البشر، والبعد الفكري المستند إلى أن الإنسان صاحب عقل وإرادة.
يتساءل الباحث: هل توجد نزعة إنسانية في القرآن الكريم؟ ويجيب بأن الكتابات في هذا الشأن قليلة، لكنه يثبت تفوق الموقف القرآني في نزوعه الإنساني، وينقل عن د. النجار قوله "إن المذهب الإنساني في القرآن رائع وأخاذ"، وعن هشام جعيط "أن الإنسان يحتل في القرآن مكانة مركزية" في إشارة إلى مقالته "النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام"، ويستفيض في سرد الآيات القرآنية عن خلق الإنسان ونفخ الروح فيه وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة له، وجعله خليفة في الأرض وتسخير الكون له، لينتهي إلى القول "بأن الإنسان ليس كائناً بيولوجيا فحسب، بل هو كائن فيه أيضاً نفخة من روح الله، تجعله يتطلع دوماً إلى السمو الروحي". ويعرج المؤلف على جهود المفكر محمد أركون في مجال الأنسنة، ليقدرها ويراها الأوسع والأضخم والأسبق في مجال المحاولات وأكثرها ثراءً، إذ ترجع إلى ستينيات القرن الماضي في رسالة أركون للدكتوراه 1969 ليتعرف العالم العربي إليها بعد ربع قرن في كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي" 1997، ولاحقاً كتابه "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية" 2001، يسلط الباحث الأضواء على جهود أركون، محللاً وناقداً، ويأخذ على منحاه "هو بخلاف نهج المفكرين الذين وجدوا في القرآن الكريم منبعاً ثرياً وصافياً ومتجددا لاكتشاف نزعة إنسانية إسلامية، مثل شريعتي وجعيط".
ما أهمية إبراز هذه الدراسات المعنية بالنزعة الإنسانية في الإسلام، في وقتنا؟ لا شك أن حاجتنا إلى إبراز هذه النزعة في ديننا، اليوم، هي بسبب "التوظيف المفرط" للدين في صراعاتنا السياسية وخلافاتنا الأيديولوجية والمذهبية، والتي يذهب ضحاياها آلاف البشر سنوياً، هذا التوظيف الذي يمارسه تياران:
1- تيار الإسلام القاعدي الذي تجاوز كل الثوابت، وداس كل المحرمات، وأهدر كل قيمة للإنسان، أين يحصل: انتحاري شاب يلبس حزاماً ناسفاً، يدخل مجلس عزاء فيفجر نفسه في المحزونين، ليتطايروا أشلاء؟! وأين يحصل: يقطعون رؤوس البشر ويفصلونها عن الأجساد ليتلاعبوا بها كالكرة؟!
2- تيار الإسلام السياسي الذي استرخص البشر في صراعات دموية على السلطة، انظر حولك على امتداد الساحة العربية: ما أرخص دم الإنسان العربي!
كيف نرسخ "الأنسنة" في مجتمعاتنا؟
عبر استراتيجية وطنية تقوم على تفعيل المفاصل الرئيسية الحاكمة التي تصوغ وتوجه ثقافة المجتمع، وتشكل عقول أفراده ووجدانهم، ومنها:
1- المفصل التعليمي: بتضمين المناهج، قيم التسامح واحترام التعددية وحقوق الإنسان والمرأة ونقد الذات وقبول الآخر وثقافة الاختلاف، وتبني المنهج النقدي في تدريس التاريخ الإسلامي، وتدريس "تاريخ الأديان المقارن" طبقاً لمناهج البحث الحديثة لا كما يدرس اليوم للانتصار لمذهب ضد آخر، وتخصيب المناهج الدراسية بأفكار المجددين الإسلاميين، مثل الإمام محمد عبده والشيخ شلتوت.
2- المفصل التربوي: بتربية الناشئة على ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر المختلف ديناً أو مذهباً.
3- المفصل الديني: بإحياء النزعة الإنسانية في الخطاب الديني، مصداقاً لقوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم" واحتضان الإنسان لكونه إنساناً بغض النظر عن معتقده أو مذهبه أو جنسه، وبتعظيم القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب، وتجريم استخدام المنابر الدينية في غير أهدافها الشرعية الجامعة للمسلمين والهادية للحق والخير، وهذا يستلزم ضبط الفتاوى التكفيرية والتشكيكية ومحاسبة أصحابها عبر قانون بتجريم التحريض على الكراهية.
4- المفصل الإعلامي: نريد إعلاماً مسؤولاً، متوازناً، ينمي القيم الإنسانية ويؤكد ما يجمع الشعوب المختلفة ويؤلف بين أبناء المجتمع الواحد، ويتجنب التحريض والإثارة، وينبذ التعصبات المذهبية والقبلية والطائفية، نريد إعلاماً إيجابياً يعزز قيم الاعتدال والتسامح والمحبة وقبول الآخر.
5- المفصل التشريعي: بإعلاء سيادة القانون على الجميع، وتحقيق المساواة بين الناس، وتجنب التمييز والإقصاء أو الانحياز لفئة أو طائفة أو جنس أو مذهب.
6- المفصل السياسي: إن "تسييس" الدين هو الآفة الكبرى التي ابتليت بها مجتمعاتنا وأنتجت آثاراً مرعبة، ومن هنا على السلطة السياسية العربية أن تنأى بنفسها عن الانحيازات المذهبية والدينية، وعلينا إخراج "الدين" من ساحة الصراعات السياسية، فالدين للجميع، ولا ينبغي احتكاره من أحد.
المقال الأصل: http://m.aljarida.com/pages/news_more/2012644428