في رحاب فكر الشيخ حسن الصفار:
نحو وعي تربوي من أجل صناعة الحياة الصالحة
كثيرا ما تتداول مواضيع التغيير و الاصلاح و النهضة و التجديد و ما هنالك من عناوين استراتيجية في حياة أي أمة ترنو لبناء و تجديد و تنمية مجدها الحضاري، و لا مناص أن كل تلك العناوين هي معاملات منهجية و رؤى و أفكار بحاجة لدينامية واقعية بجل شؤون الحياة الاجتماعية و مشاكلها و أزماتها و ظواهرها المؤثرة سلبا على مسيرة التمدن و التحضر...
من بين المسائل المهمة في حياة الأمم و الشعوب، تأتي بالصدارة مسألة تربية الأبناء، التي أصبحت أم القضايا و البحوث العلمية بالغرب، حيث نجد عدة مدارس بحثية لها نظرياتها الخاصة بمجال التربية فهناك المدرسة الأمريكية و الكندية و البلجيكية و الفرنسية و البريطانية و الألمانية و الإسكندنافية و هناك نظريات بارزة كالمدرسة الصينية و نظيرتها اليابانية في تربية الأبناء...
في ظل هذا الحضور العلمي التربوي لدى الأمم الأخرى، نتساءل هل لدى المسلمين اشتغال علمي حديث حول تربية الأبناء؟ بغض النظر عن الترجمات لكتب الباحثين الغربيين و البحوث الجامعية التي بقيت حبيسة اشكالياتها المنهجية و غاياتها الدراسية و لم تنزل نتائجها و توصياتها للحياة الاسلامية ، نلحظ أن الواقع الاسلامي المعاصر بأمس الحاجة لاشتغالات معرفية نظرية و تطبيقية حول تربية الأبناء، تداركا للتقهقر الأمني الاجتماعي الذي تعاني منه المجتمعات الاسلامية و يهدد مستقبلها...
من هذا المنطلق و تأسيسا على مركزية التربية في البناء النفسي و الفكري و الروحي للمجتمع جاء كتاب الأستاذ الشيخ حسن بن موسى الصفار-حفظه الله و رعاه- "تربية الأبناء...استثمار أفضل" الصادر عن دار أطياف للنشر و التوزيع سنة 1433هـ-2012م بالقطيف- المملكة العربية السعودية.
يستهل سماحة الشيخ الصفار بأسلوبه اللطيف و المنبه، ببعض المطالب التي قد يغفل عنها الناس رغم أنهم يدّعون العمل من أجل بلوغها و نيلها، إنها السعادة في مفهومها الصحيح والرسالي بالنسبة للراشدين و تحديدا الوالدين حيث يعبر بالقول سماحته: "ما أعظم سعادة الوالدين حين يكون الولد بارًّا بهما، مجتهدًا في أداء حقهما من الخدمة والإجلال، وخاصة في مرحلة الضعف والعجز، حيث يجدان فيه سندًا وذخرًا تتحقق به الآمال المعقودة عليه. وما أشد فرح الوالدين بالولد الناجح في حياته، الصالح في سيرته وسلوكه، حيث يكون مصدر فخر لهما بين الناس، وذكر خير فيما بعد الحياة."
وما أعلى درجة الوالدين عند اللّه حين يكون الولد مطيعًا للّه تعالى موفقًا لأعمال الخير والصلاح، فينالهما الأجر والثواب، وتنهمر عليهما الرحمة والرضوان. حقًّا إن الولد الصالح قرة عين لوالديه في الدنيا والآخرة، وقد ورد عن
رسول اللّه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: (من سعادة الرجل الولد الصالح).([1](
و في ذات السياق يورد سماحته عدة روايات حديثية عن النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لينزل بنا في ساحة أسئلة حساسة و دقيقة في حياة الوالدين و الأسرة و المجتمع و الأمم و الشعوب ككل:
وإذا كان الولد الصالح أمنية كل أب وأم، فإن السؤال الملحّ هو الطريق إلى تحقيق تلك الأمنية والتطلّع؟
هل صلاح الأبناء مرتبط بعوامل غيبية لا دخل ولا تأثير للوالدين فيها، وغاية ما يمكنهما فعله هو الدعاء والطلب من اللّه سبحانه ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾؟
أم أنه أمر عفوي اتفاقي، وضربة حظ، وليس على الوالدين إلا الانتظار لاستكشاف حظهما ونصيبهما من مستقبل الأبناء؟[2]
بهذه الأسئلة الاحتمالية ينطلق بنا سماحة الشيخ في تبيان مباحث مشروع تربية الأبناء في حياة الوالدين و الأمة ككل، حيث ينبه سماحته إلى أهمية التربية في عدة نقاط كمدخل للموضوع:
- أن لمستوى التربية والرعاية دورًا أساسًا في صنع مستقبل الأبناء، وبناء شخصياتهم، وتوجيه سلوكهم، فنفوس الأبناء حين يأتون إلى الحياة أشبه بالمادة الأولية القابلة للتشكيل والتصنيع، وقلوبهم كالأرض الخالية الخصبة التي تنمو فيها أي بذرة تغرس في ترابها.
- يأتي دور الوالدين في تشكيل شخصية الأبناء، وصنع ملامح مستقبلهم، فإذا وعى الوالدان هذه المسؤولية، واستعدا للقيام بمتطلباتها، وبذلا الجهد الكافي في إنجازها، كان الأبناء أقرب إلى خط الاستقامة والصلاح، وأوفر حظًا في تحقيق الرقي والنجاح.
- دخول عوامل خارجية على خط التربية العائلية، حيث لا تكون العائلة مستقلة في التأثير على أبنائها، بل تشاركها البيئة الاجتماعية بمؤثراتها المختلفة، التي قد تكون عونًا ودعما للتربية الصالحة، أو معرقلة ومربكة لها في كثير من الأحيان.
- التطور الهائل في الحياة الاجتماعية يجعل العملية التربوية من قبل العائلة أمام تحدٍّ كبير، لا بد من الاستجابة له بمضاعفة الجهد والاهتمام، ومزيد من الإعداد والتخطيط لإنجاز المهمة التربوية.
- إن الأبناء في مرحلة الطفولة والمراهقة بحاجة ماسّة إلى الكثير من رعاية الوالدين واهتمامهما.
- وعليهما إعطاء الأولوية لتربية الأبناء؛ لأن نجاح الوالدين في أي مجال آخر لا يمكن أن يعوّض عن خسارتهما بضياع مستقبل الأبناء، وانحرافهم عن جادة الخير والصلاح.
و يذكر سماحته بعد هذه المحاور التي أشار إليها في مدخل الكتاب، الغاية الرئيسية من هذه السطور الخلاقة للوعي التربوي قائلا: إن النجاح الأكبر والاستثمار الأفضل هو في التربية الصالحة للأبناء.
وهذه السطور المتواضعة تهدف إلى إثارة الاهتمام الجادّ بتربية الأبناء، والتأكيد على أولويتها، كما تتضمن بعض الأفكار والمقترحات التربوية، أرجو أن يكون فيها ما يخدم هذا الهدف النبيل، وأن يتقبلها اللّه بأحسن
القبول إنه جواد كريم.
بعد ذلك ينتقل بنا سماحة الشيخ حسن الصفار مباشرة نحو مشروع الكتاب أو البحث و الموضوع الرئيسي الذي يريد إثارته من خلال مطارحاته و آرائه و مقارباته، حيث عنون الفصل الأول بعنوان مثير جدا: نحو وعي تربوي، وتحليلا لهذه الغاية ركز على عدة ركائز تتراوح بين حقائق وواجبات يدخلنا في رحاب هذا كله من خلال أسئلة جوهرية دقيقة و منبهة لفلسفة الأبوة و ماهيتها ليستقبل القارئ الركائز الرئيسية الآتية الذكر:
1/ الأولاد إمتداد للذات
2/ الرعاية الشاملة
3/ الوعي التربوي.
هذه الركيزة الثالثة تعتبر حوصلة للفكرة العامة المرجوة، نجد المؤلف سماحة الشيخ الصفار يدعم قراءته و دعوته لبعث و صناعة وعي تربوي في مجتمعاتنا العربية و الاسلامية يواكب العصر، من خلال عرض سماحته احصائيات و تشخيص للواقع، بالإضافة إلى نقد و تقويم للواقع الاجتماعي بخصوص ماهية التربية خاصة لدى الزيجات الشابة، مما يستدعي استنفار لجميع المؤسسات الفاعلة و المؤثرة في الوعي الاجتماعي، و التي يذكر منها سماحته:
- وسائل الاعلام
- المؤسسات الدينية و الاجتماعية و الثقافية
- مناهج التدريس و التعليم التي لا تولي هذا الجانب اهتماما مناسبا خاصة في طور الثانوية و الجامعة.
4/ كيف نفهم أطفالنا؟
من خلال هذا السؤال الارشادي يوجه سماحته القارئ إلى حقيقة قد تغيب عن وعي غالبية الآباء، أن الطفل إنسان و بحاجة لفهم، للقدرة على التعامل معه و تربيته و توجيهه و نصيحته فكونه انسان لديه استفهامات يحتاج إلى إجابات عنها، كما لديه رغبات و حاجات يحتاج لإهتمام و توجيه و تهذيب لها من لدن الكبار، مما يتطلب انفتاح و سعة صدر في التعاطي معه لدى الوالدين.
5/ المسؤولية تجاه الأطفال
هذه الركيزة بمثابة رسالة للمجتمع و الآباء بضرورة مراجعة حيثيات و حقيقة مسؤولية الرعاية للأطفال، لأن المسؤولية يعني ثقافة و جدارة و شجاعة و تحمل للمشاق حتى يصل الآباء بالطفل إلى بر الأمان، بحيث ينمو نموا سليما و يصبح بعد مراحل التربية صاحب شخصية سوية و نافعة في المجتمع.
و بحسب منهج المؤلف في الموضوع، نلاحظ بين الفصل الأول و الثاني ترابطا وثيقا، او بمعنى آخر تكاملا، فعبر حديث سماحته عن الوعي التربوي يسعى بهمة المثقف المسؤول و الأب الفقيه العارف بزمانه لتقريب ماهية رعاية الطفل، فمن خلال ارهاصة ثقافية حضارية تؤكد أن مستوى التحضر في المجتمعات الحديثة يقاس بمدى اهتمام هذه المجتمعات برعاية الطفل، حيث يوجهنا لأحد الإصدارات المهمة والقيّمة للدكتور محمد عماد الدين اسماعيل بعنوان: "الأطفال مرآة المجتمع"، بعد ذلك يعاين بتوثيق مآسي الطفولة المعاصرة و عبر قراءة نقدية لمنطلقات ديباجة إعلان حقوق الطفل -الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة- و عدم واقعيته، ليواجهنا بأرقام و حقائق مذهلة خاصة بواقع الطفل في الغرب، ثم يغني ثقافة القارئ برعاية الطفولة و تربيتها من منظور اسلامي أصيل، معبرا عن الحقائق الاسلامية بشأن الطفل أنه ريحانة و أمانة، مستشهدا بفقه الرضاع و الحضانة، كاشفا عن التعامل الانساني الحضاري الذي يفرضه الاسلام على اتباعه بخصوص الطفولة.
و اختتاما لسياق موضوع الكتاب يطرق سماحة المؤلف الشيخ حسن الصفار، بعدا ثالثا خاصا بمرحلة مصاحبة لمرحلة التربية بل تكاد تتماهى معها، إنه التعليم و مسؤولية العائلة، في هذا الفصل أكاد أجزم أن المؤلف استطاع بجدارة أن يحرك موضوعا جدا متشعب و دقيق فمنهج التحليل كان هندسي و موضوعي و جاء على الشكل الآتي:
- أهمية التعليم
- بين المدرسة و العائلة
- مسؤولية العائلة أولا
- التشجيع و المتابعة
- بين العائلة و المدرسة
في المبحث الأخير عدّد سماحة المؤلف الشيخ حسن الصفار ثلاث نقاط تعتبر المرتكزات الرئيسية لنجاح العملية التربوية وهي:
- متابعة سير الولد في المدرسة
- مراقبة العملية التعليمية
- التعاون مع المدرسة
بإختصار هذا الاصدار يعتبر ورقة تمهيدية لتباحث مشروع صياغة نظرية خاصة بمعرفة التربية وفق متطلبات واقعنا العربي و الاسلامي، الأهم أن صناعة الوعي بحاجة لجد و اجتهاد من قبل كل مؤسسات المجتمع، حيث وفق بإمتياز المؤلف الشيخ حسن الصفار في إختياره للعنوان عبر الربط بين التربية كمفهوم رمزي في وعي الناس و الاستثمار كمفهوم مادي في واقع الناس، كل ذلك وفق ماهية القيم بحيث تصبح تربية الأبناء...استثمار أمثل.