الكاتب الزاكي: أفكار الشيخ الصفار شكلت دافعا للكتابة عن تجربته الإصلاحية
حاول الزاكي مؤلف كتاب ( المسألة الطائفية: قراءة في خطاب الشيخ الصفار) رصد المظاهر التي تتجلى فيها هذه الطائفية في الزمن الحاضر، والبحث عن الأسباب التاريخية التي تكمن خلف هذه المشكلة..
وعن مسؤولية التراث في ترسيخها، بالإضافة إلى تقديم الرؤى والحلول التي تساهم في تنفيس المشكلة وتسهم في حلها من خلال النظر في أفكار الشيخ الصفار وتجربته الإصلاحية وقراءته لخطاب الطائفية.
الكتاب يتكون من تسعة فصول مع مقدمة وخاتمة، فإلى جانب موضوع التقريب والتقارب بين المذاهب، هناك موضوعات حول المسألة الطائفية وضرورة الإصلاح السياسي وبناء دولة المؤسسات العصرية الحديثة، وموضوع الإصلاح الديني والثقافي والعمل على تفكيك منظومة الأفكار الهدامة والظواهر الإرهابية،بالإضافة إلى الحديث عن إشكاليات التعصب والاستبداد والحرية، وعن ضرورة التأسيس لمفاهيم جديدة، وخلق وعي معاصر يرتقي بمستوى الإنسان في مجتمعاتنا.
وأوضح المؤلف في حوار مع مركز آفاق حول كتابه أن أفكار الشيخ الصفار شكلت حافزا للكتابة عن تجربته الإصلاحية، وقراءة خطابه حول المسألة الطائفية. مبينا أن المتابع لخطاب الشيخ الصفار يلحظ أن المسألة الطائفية ومشكلاتها وقضاياها، احتلت مساحة واسعة وكأنها" هم يؤرقه ويشغل تفكيره".
ولفت في نهاية حواره أن الكتاب ومضمونه لا ينبغي أن يحسب على أنه عمل ترفي، أو مجرد جهد تنويري فقط، بل من الضروري أن يتحول إلى مشروع من أجل التغيير، وبرنامج عمل استراتيجي بعيد المدى.
وقد حاولنا في الحوار تناول بعض الإشكاليات والتحديات التي تواجه مشروع الوحدة والتقريب، وتؤرق فكر المنشغلين به، سعيا منا في تفكيك تلك الإشكاليات في محاولة للإجابة عن أسئلتها في ضوء ما تناوله مؤلف الكتاب.
حاولت من خلال تأليفك لهذا الكتاب الاطلاع على تجربة الشيخ الصفار الدينية والسياسية، كيف تقرأ هذه التجربة؟
الصراحة تقتضي الاعتراف أولا بأنني لم أكن مطلعا بشكل واسع على خطاب الشيخ الصفار، أو متابعا له إلا في حدود ما نقرأه ونسمعه عن نشاطاته ولقاءاته، أو من خلال ما نقرأه من خلاصات موجزة عن خطبه وأحاديثه التي تنشر عبر المواقع الالكترونية، أو من خلال بعض أشرطة الكاسيت التي تتضمن ما يلقيه من محاضرات كنا نسمعها بين فترة وأخرى، كما هو الحال مع غيره من الخطباء، إلا إنني حين قرأت كتابه الطائفية بين السياسة والدين، في إطار التحضير لحلقة نقاشية حول الكتاب لفتتني الأفكار الإصلاحية الواردة فيه وشدتني للإطلاع على بعض كتبه الأخرى، وأظن أن آخرين مثلي ليسوا على معرفة واطلاع على أفكار الشيخ الصفار وتجربته الإصلاحية بشكل مباشر، وهو أمر كان حافزا لي للكتابة عن هذه التجربة من موقع الدارس والباحث، وخصوصا حين أكتب عن شخصية أنتمي وإياها إلى بيئة اجتماعية واحدة.
ويمكن إيراد العديد من الأسباب التي دفعتني للكتابة حول هذا الموضوع وتجعل البحث فيه ممكنا وسهلا وغنيا، وهو أن الشيخ الصفار صاحب كتابات وأبحاث، أو مادة مكتوبة ومصادر يمكن الرجوع إليها ومطالعتها، هذا أولا.
وثانيا: أن الرجل عالم دين، وله مكانه مقدرة في هذا المجال وفي وسط مجتمعه، وله وجهة نظر إصلاحية في كثير من الشؤون، لذلك فإن عالم الدين الذي يمارس نقداً ذاتياً حول بعض القضايا التاريخية والتراثية والعقدية ومن داخل الدائرة الدينية، يختلف عن الذي يمارس النقد من خارج هذه الدائرة، لأن الذي يمارس النقد أو التأصيل للأفكار الجديدة وهو ينتمي إلى هذه الدائرة أو منطلقاً من داخلها، سيكون نقده وأفكاره وخطابه أكثر مصداقية من ذاك الذي يمارس النقد من خارج هذه الدائرة.
ثالثا: الرجل صاحب تجربة نضالية وحضوره كان واضحا خلال العقود الأربعة الماضية من تاريخ هذه المنطقة، على الرغم من أي تقييم سلبي أو إيجابي للرجل وللتجربة التي خاضها، فالرجل مهما كان التقييم الذي يحصل عليه، كانت له بصمة واضحة لا يمكن إنكارها في سيرة هذا المجتمع، وهي تجربة كان لها أثرها حين انطلقت، وأحدثت تحولاً متعدد الجوانب في مجتمعنا.
رابعا: التحولات التي جرت للتجربة ذاتها من الداخل، والمراحل التي سلكتها وقطعتها، والنقلات التي مرت بها، كلها فترات تجعل التجربة مدار اهتمام أي باحث يسعى إلى رصد تحولات هذه البيئة الاجتماعية، وعلاقتها بالبيئة الاجتماعية المجاورة، أو بالبيئة السياسية الأوسع التي تنتمي إليها ضمن دائرتها الوطنية.
خامسا: الرجل ليس عالم دين فقط، بل هو أيضاً مثقف، ومن قادة الرأي، ويعمل في الشأن العام، حيث يمارس دوره سعياً إلى تحقيق حقوق الناس الذين يمثلهم، وإدماجهم في البيئة السياسية الوطنية التي يعيشون في إطارها، ومشاركة باقي المواطنين همومهم وآمالهم في بناء مجتمع ناهض ومتحد.
سادسا: إن موضوع الطائفية الذي كتبت فيه شكل وما زال أحد أبرز المشكلات التي تعاني منها الأمة خلال العشر سنوات الماضية، ويوم بعد يوم تزداد هذه المشكلة حدة وتفاقما، وها نحن نشاهد اليوم انفلاتها المخيف، وخطر تمددها إذا لم يعمل على تحصين البيئات الوطنية المختلفة من الانجرار إلى مزالقها ومتاهاتها.
سابعا: للشيخ الصفار في موضوع الطائفية كتابات كثيرة ووجهة نظر واضحة يمكن أن تكون مصدر ثري لأي كاتب يتناول هذا الموضوع، فالمتابع لخطاب الشيخ الصفار يلحظ أن المسألة الطائفية ومشكلاتها وقضاياها، احتلت مساحة واسعة من مجمل خطابه خلال العقد الماضي، وكأنها هم يؤرقه ويشغل تفكيره، حيث يرصد الكثير من المظاهر التي تتجلى فيها أمراض الطائفية ويسلط الضوء عليها ويبرزها، وتوجيه النقد إليها، ويقدم الحلول التي تسهم في تنفيس هذه المشكلة وحلها.
ثامنا: فأنا ككاتب يهمني أن أكتب في موضوع يشكل مدار اهتمام الناس، وحديث مجالسهم، ومصدر قلقهم، فعندما أنظر إلى ما يجري حولنا في المنطقة من أحداث، وتشهده من تطورات، أجدها في غاية الخطورة، تستفز الإنسان الكاتب على إنتاج رؤية، أو بدل جهد نظري قد يكون مفيدا، ويشكل خارطة طريق للخروج من الكارثة التي تلم بنا جميعاً.
هذه الأسباب شكلت دافعا للكتابة عن تجربة الشيخ الصفار، وقراءة خطابه حول المسألة الطائفية.
تناولت في كتابك المسألة الطائفية، كواحدة من أبرز القضايا والتحديات التي تواجه الأمة، بوصفك إياها من الأمراض المزمنة التي تنخر في جسد الأمة وتفتك بنسيجها الداخلي وتدمر وجودها الكياني، ما الرسالة الأساسية التي تريد أن توصلها من خلال تناولك لهذا الكتاب؟
كون المشكلة الطائفية من الأمراض المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا، فإن ذلك يتطلب تشخيصا دقيقا لهذا المرض وتحديد مظاهره، ومن ثم البحث عن الجذور المسببة له، ووضع العلاج أو الحلول المناسبة. والكتاب يحاول رصد المظاهر التي تتجلى فيها هذه الطائفية في الزمن الحاضر، والبحث عن الأسباب التاريخية التي تكمن خلف هذه المشكلة، وعن مسؤولية التراث في ترسيخها، بالإضافة إلى تقديم الرؤى والحلول التي تساهم في تنفيس المشكلة وتسهم في حلها. وإذا كان هناك من رسالة يحملها الكتاب فهي أن المشكلة الطائفية تحولت إلى تهديد وجودي يهدد مصير أبناء هذه الأمة جميعاً إذا لم نتدارك خطورة المسألة، ونكافح جميعاً من أجل حصارها وتحجيمها ووأدها، وإلا فإن خطرها لن يستثني أحداً، وهو ما يتطلب تحصين بيئاتنا الوطنية من الوقوع في شباكها، ورفع مستوى المناعة الدينية والأخلاقية التي تمنع الجميع من الوقوع في شراكها البغيضة. والكتاب يجتهد في وضع خريطة طريق للخلاص من هذه البلوى الذي تمزق أحشائنا.
لاشك أن المشكلة الطائفية من المشاكل الأساسية التي تهدد حاضر ومستقبل العالم الإسلامي، ولكن ما طبيعة هذه المشكلة، هل هي دينية أم سياسية؟
المشكلة الطائفية لها بعدين سياسي وديني ففي بعدها الديني/التاريخي يمكن القول أنه نتيجة للتنافس، أو التسابق بين أتباع الطوائف وأصحاب المذاهب في تاريخنا القديم تحول الأمر مع مرور الزمن إلى صراع مليء بالكراهية والبغضاء، حيث جرى استغلال الخطاب الديني، وما زال الأمر إلى اليوم، من أجل تغذية المشاعر المذهبية ضد الآخر، والتحريض عليه، خوفا كما يدعي هؤلاء على الدين، وحفاظا عليه وعلى المذهب أو الطائفة من البدع والتشويه أو الاندثار.
على أن التنافس بين أتباع المذاهب من جانب، وخوفهم على عقائدهم من جانب آخر، هو الذي يوفر الفرصة للجانب السياسي كي يثير أو يفتعل الخلافات الدينية ويوظفها خدمة لأهدافه المبطنة، ويستفيد منها في تأجيج النزاع الطائفي لإشغال الناس عن واقعهم السياسي حين تقتضي مصلحته ذلك.
والمشكلة الطائفية في مجتمعات الأمة، حسب رأي الشيخ الصفار، يصنعها ويمدها عنصران رئيسيان، الأول سياسي، والثاني ديني. ويتمثل العنصر الأول في اعتماد سياسة التمييز الطائفي بين المواطنين، وتشجيع حالات الصراع المذهبي لأغراض سياسية، بينما يتمثل العنصر الآخر في نهج الخطاب الديني حين يعتمد التعبئة المذهبية، بالتركيز على نقاط الخلاف، والاستدعاء الدائم للتاريخ والتراث من أجل تغذية المشاعر المذهبية، والتحريض ضد الآخر، وما زال هذين العنصرين، يعملان اليوم بشكل محموم لتأجيج الصراع الطائفي في أكثر من موقع في ساحة الأمة.
كيف يمكن للخطاب الديني أن يتجاوز الانقسام الطائفي ويؤسس لخطاب إسلامي جامع؟
دائما ما تكون الخطابات المذهبية المتطرفة سببا في إذكاء النزاع الطائفي وإشعال نار الفتنة بين طوائف الأمة من خلال إشاعة ثقافة التحريض على الكراهية والتعبئة المتبادلة ضد الآخر، حيث تصعد ثقافة الغلو والكراهية، وتغيب ثقافة التسامح، ومن أجل تجاوز هذه الحالة من الانقسام بين طوائف الأمة يمكن للخطاب الديني المتنور أن يؤدي دورا مؤثرا، حين يمارس دوره بعيدا عن أي أجندة سياسية، ويعمل على نشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي والتعارف الموضوعي، والفهم المتبادل، وقبول التعددية، والاعتراف ببعض، والقبول بالتنوع والتعدد المذهبي، واحترام الرأي الآخر، والاحترام المتبادل بين الطوائف، وحسن الظن في الآخرين، ونبذ المشاحنات والمهاترات المذهبية والطائفية، وإقرار التعددية الفكرية والسياسية، والتأكيد على حرمة دم كل مسلم وعرضه وماله، أو الإساءة من أي طرف للآخر بالتكفير، أو التحريض، أو النيل من رموزه ومقدساته، مع حق كل طرف بأن يطرح رأيه ورؤيته.
أشرت إلى أن الخطابات المتطرفة والمتشددة ساعدت على إذكاء النزاع الطائفي وعزل الناس عن بعضهم البعض بعناوين مذهبية، كيف نواجه خطابات التطرف والتشدد، وكيف نؤسس لحالة تواصلية انفتاحية بين مكونات المجتمع والوطن؟
من القضايا التي دائما ما تستغل بشكل سلبي في العلاقة بين أطياف هذه الأمة هي التخويف من الآخر والتوجس منه، وأن الوحدة بينهم لا تتحقق إلا بإلغاء طرف لآخر، أو اندماجه فيه، مع أن التجربة التاريخية تثبت عدم واقعية هذا الطرح.
والشيخ الصفار كونه عالم دين يذكر أن هناك متحفظون على دعوات الوحدة والتقريب في الوسط الديني، ويثيرون مشاعر القلق من تقديم التنازلات للطرف الآخر على حساب العقيدة والمذهب، إلا أنه يدحض هذا القلق والتوجس الغير مبرر بقوله إن العلماء الوحدويين منذ بداية مسيرة التقريب في هذا العصر، تحدثوا بأن غرض الوحدة والتقريب هو تحقيق التعايش بين أبناء الأمة، وتوفير أجواء الاحترام المتبادل، والسعي للتعاون في خدمة المصالح المشتركة. فالوحدة والتقريب لا تعني على الإطلاق التحول من مذهب إلى آخر، ولا هو تنازل من أحد عن معتقداته وآرائه، لأن أمور العقيدة والدين لا تقبل المساومة، وهي شأن قلبي يستعصي الإخضاع.
إنه لمن المؤكد أن تغيير نمط التفكير عند عامة الناس، ودعوتها إلى تقبل الآخر واحترام آراءه ومعتقداته، يحتاج إلى عمل كبير وجهد فعال ومتواصل، لا ينحصر في النقاشات والحوارات بين النخب داخل الغرف المغلقة فقط، وإنما يحتاج إلى ممارسات عملية على أرض الواقع، من خلال نزول هذه النخبة إلى الناس وتوعيتها، ليس فقط من خلال إخبارها وإعلامها بنتائج هكذا مؤتمرات خلف أبواب مغلقة، وإنما أيضا من خلال ربط هذه النتائج والأفكار والرؤى الجديدة بتأصيلها دينيا، وذكر الحوادث والشواهد التي تثبت أن الدين أو التراث الديني، يزخر بالقيم والأفكار والممارسات الإنسانية الخلاقة، التي عاش فيها أبناء الدين الواحد في ظل أجواء المحبة والتعاون والتكاتف والتآزر من أجل مصلحة هذه الأمة.
رغم اهتمام النخب على مستوى الخطاب والكتابة والتواصل بالدعوة إلى تعزيز ثقافة التسامح والحوار والمواطنة وغيرها من المفاهيم إلا أن هذه الدعوة لم تستطع القضاء على الحالة الطائفية أو الحد من تفاقمها، في اعتقادك ما سبب وراء ذلك؟
إن الدعوة إلى تغيير الثقافة الطائفية، ونشر ثقافة التعدد والتسامح والتعايش، وقبول الآخر واحترام رأيه، ونقل مستوى الوعي إلى مستوى الحصانة الفكرية والثقافية، التي تمنع الانجرار إلى حالة التخاصم والتباعد والجفاء والإقصاء والإلغاء وممارسة التطرف والعنف والإرهاب، هي ليست أمور يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها، وإنما القضية تحتاج إلى زمن ووقت حتى تبدأ عمليات التحول والتغيير، فليس من المتوقع، كما يشير الشيخ الصفار، إنهاء آثار ومضاعفات فترة طويلة من سوء الفهم والجفاء بين عشية وضحاها؛ لأن هناك من تربوا على منهج التعصب، وارتباط مصالحهم بالأحادية والغلو.
ومع ذلك فإن من واجب سالكي هذا الطريق العمل بجد لا ينقطع، ومن دون يأس، في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل، مهما عظمت المشكلات وكبرت المصاعب، ومهما تواضعت نتائج العمل، لأنه من البديهي أن تكون هناك دائما تحديات ومعوقات، أو تحدث أحداث ومشكلات بين فترة وأخرى تعيق عملية التواصل وتؤدي إلى تعطيل عملية التغيير المرجوة.
بعض النخب يظهر الاحترام للرأي الآخر، ويدعو إلى نبذ الكراهية والبغضاء، فإذا عاد إلى وسط جمهوره، خضع للأجواء السائدة، من تجاهل الآخر، والدعوة إلى إلغائه، واستخدام لغة التشدد والتزمت، كيف تنظرون لهذه الازدواجية في خطاب بعض النخب؟
كم هو مؤسف التناقض الذي تعيشه بعض النخب، والازدواجية التي تمارسها في سلوكها وممارساتها وأقوالها، وكم هم هؤلاء الذين يقولون أشياء في العلن، إلا أنهم لا يلتزمون بها في ممارساتهم، أو يمارسون أشياء تتناقض مع ما يدعون إليه من قيم وفضائل، أو تراهم يقولون أشياء لك وأمامك، لكنهم من خلفك يقولون ما يخالفه. إن هذا السلوك عمل ممقوت من أي احد، إلا انه أكبر مقتا عندما يصدر من النخب التي تدعي توجيه الناس وإصلاحها، وتدعو في العلن، أو في الغرف المغلقة إلى الالتزام بقيم التقارب والتعايش والتسامح والتآخي والتآزر، إلا أنها عمليا لا تلتزم بأقوالها، وهو الأمر الذي يفقد هؤلاء المصداقية عند عامة الناس، وتجعلهم يتشككون في أقوالها وخطابها، أو في أعمالها وسلوكها.
إن هذه الحالة من الازدواجية في الخطاب والتناقض في السلوك والممارسات من القضايا التي يشير إليها الشيخ الصفار في خطابه، حيث يقول أنه ليس مقبولا أن يتحدث البعض منا في جلسات الحوار بلغة الوحدة الدينية والوطنية، وان يظهر الاحترام للرأي الآخر، ويدعو إلى مواجهة الأخطار المحدقة بالدين والوطن، فإذا ما عاد إلى وسط جمهوره وتياره، خضع للأجواء السائدة، من تجاهل الآخر، والدعوة إلى إلغائه، واستخدام لغة التشدد والتزمت، مضيفا أن تياراتنا تعيش آثار ثقافة التعبئة ضد الآخر، وان على النخبة مواجهة هذه الثقافة بنشر ثقافة التسامح، والتزام العدل والإنصاف، والتحلي بالجرأة للارتقاء بمستوى الناس إلى آفاق أخلاق الإسلام، لا الانجرار مع التوجهات الهابطة والخضوع لضغوطها.
ثقافتنا الدينية السائدة مشبعة في طرحها المذهبي والطائفي، وقد نواجه صعوبة في النقد الذاتي لثقافتنا المذهبية. لكن هذا النقد الذاتي يكاد يكون خطًّا أحمر عند أتباع المذاهب والثقافات المذهبية، لماذا ترفض بعض المذاهب من حالة النقد أو الخوف من نقد ذاتها؟
لعل من المسائل المهمة التي من المهم مقاربتها ونحن نبحث عن حل للمشكلة الطائفية هي مسألة النقد الذاتي، وضرورة مراجعة الذات واكتشاف شوائبها، ونقاط الضعف والثغرات فيها، وأن يكون هناك جرأة في مناقشة الثقافة المذهبية، والتراث الذي تنهل منه وتستند عليه، خصوصا بما يرتبط بمسألة التحريض على الآخر والعلاقة معه، فثقافتنا الدينية السائدة كما يشرح الشيخ الصفار ذلك، مشبعة في طرحها المذهبي بما يدعو إلى التباعد والتنافر بين أتباع المذاهب الإسلامية.
والحقيقة أن النقد السائد بيننا هو نقد الآخر وإبراز عيوبه وأخطائه والتشهير بها، بينما يتجنب البعض منا النقد الذاتي، ولا يجرأ على مسائلة ومراجعة تراثه، حيث يكاد يكون ذلك خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، ويصل الأمر إلى حد تجريم هذا النوع من النقد، باعتباره تنازلا للطرف الآخر، ومساومة على العقيدة والمبدأ.
هل أنت متفائل لحالة الانفتاح والتواصل بين مكونات الوطن والأمة، رغم تصاعد وتفاقم الصراعات والنزاعات المذهبية وازدواجية خطاب بعض النخب والتحريض الإعلامي الطائفي؟
شخصيا عندما أنظر إلى الأفق، وأشاهد ما يدور حولنا من مشاكل وصراعات ونزاعات ينتابني الخوف والقلق، وأشعر بالقنوط ، وأصاب بالإحباط، إلا أن الملفت أن خطاب الشيخ الصفار ومع إدراكه لهذه الحقيقة، وصعوبة تحقيق التغيير المرتجى، واحتمال أن يستغرق فترات طويلة من الزمن، فإنه وفي العديد من مواضع خطابه يصر على العمل في سبيل تحقيق هذا الهدف مهما تواضعت النتائج، حيث تتحلى نبرته دائما بالتفاؤل وعدم الإحباط، والمهم كما يقول ألا نسمح للانتكاسات التي تحدث بين فترة وأخرى أن تتحول إلى حالة إحباط ويأس في النفوس، أو أن تؤدي إلى التراجع في العزيمة، أو الخفوت في مستوى التطلعات التي يؤمن بها شريحة من أبناء هذه الأمة.
أخيرا ما هي الرسالة التي أردت ان توصلها من خلال هذا الكتاب؟
أود أن أشير أولاً إلى أن جملة الأسئلة المطروحة في هذا الحوار لا تمثل إلا جزء من مضمون الكتاب، فمحاور الكتاب وفحواه هي أوسع من ذلك، فالكتاب يتكون من تسعة فصول مع مقدمة وخاتمة، فإلى جانب موضوع التقريب والتقارب بين المذاهب، هناك موضوعات حول المسألة الطائفية وضرورة الإصلاح السياسي وبناء دولة المؤسسات العصرية الحديثة، وموضوع الإصلاح الديني كون مواجهة التحديات المعاصرة يتطلب تطوير وتحديث الخطاب الديني، وتحديث عقليات المنتجين لهذا الخطاب، وموضوع الإصلاح الثقافي والعمل على تفكيك منظومة الأفكار الهدامة والظواهر الإرهابية، والارتقاء بمستوى الوعي في ثقافتنا لتصل الى مستوى ثقافة إنسانية عميقة الجذور، وذات صلة بالقيم العليا للدين الحنيف، بالإضافة إلى الحديث عن إشكاليات التعصب والاستبداد والحرية، والحديث عن ضرورة التأسيس لمفاهيم جديدة، وخلق وعي معاصر يرتقي بمستوى الإنسان في مجتمعاتنا، وإلى غير ذلك من موضوعات.
لذلك فالرسالة المتوخاة من هذا الكتاب لا يمكن أن تصل إلا إذا قُرِء، ومن ثم معرفة ردود فعل القارئ ووجهة نظره في المضمون، أما حين تسمع كلمات الإطراء والمديح والمجاملة، أو كلمات الذم والقدح، أو اتخاذ موقف سلبيي أو إيجابي من الكتاب بشكل مسبق دون قراءته فهو أمر غير عادل، ولا يفيد أو ينفع، في حين أن النقد المخلص النزيه هو الذي ينفع، وتكون نتائجه مفيدة للكاتب والكتاب ومضمونه.
غير أن ما يجدر الالتفات إليه هو أن الكتاب ومضمونه لا ينبغي أن يحسب على أنه عملا ترفيا، أو مجرد جهدا تنويريا فقط، بل من الضروري أن يتحول إلى مشروع من أجل التغيير، وبرنامج عمل استراتيجي بعيد المدى، فحلم التغيير لا يمكن أن يتحقق بمجرد التفكير فيه وتخيله، ولا بالممارسات العفوية والعشوائية، وإنما هو حلم يحتاج إلى أن يتبلور في صورة برنامج تفصيلي يحقق الآمال والطموحات، ويتواءم مع المتغيرات العصرية، ويقدم إجابات مقنعة عن كل الأسئلة التي تفرضها تحديات الحياة المعاصرة، ومتطلبات تسيير المجتمعات الحديثة وطموحاتها، من خلال تفعيل دور الاجتهاد وفهم النصوص في ضوء المتغيرات والمستجدات، على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجهها مجتمعاتنا.
الكتاب: المسألة الطائفية: قراءة في خطاب الشيخ الصفار
المؤلف: السيد إبراهيم الزاكي
الناشر: مؤسسة الانتشار العربي – بيروت
الصفحات: 488 صفحة من القطع الكبير
الطبعة: الأولى 2012م