الشيعة هم جزء من هذه الأمة، وحيثما يتواجدون فهم جزء لا يتجزأ من أوطانهم وشعوبهم.
في خضمّ التطوّرات الراهنة والمتسارعة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي، حيث نجحت الثورات الشعبية في إسقاط رؤوس أنظمة حكمت شعوبها بالحديد والنار لعقود خلت، ومع وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم لأول مرة في أكثر من بلد عربي، وفي ظل تصاعد اللغة المذهبية التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخها، والتي قد تحرّف الثورات العربية عن مسارها وأهدافها لتصب أولاً وأخراً في خدمة أعداء الأمة... في هذا الخضمّ، ارتأينا في مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر أن نجري هذا الحوار مع علم من أعلام الفكر، ومنارة من منارات الإسلام، وداعية من دعاة الانفتاح والتقريب والحوار، سماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله) للحديث عن بعض الإشكاليّات التي تطرحها هذه التحوّلات، وما يرافقها من تحديات وطنية وقومية ودينية واستراتجية عامة.
هناك رؤى متباينة حول ما يحصل اليوم من حراكات في العالم العربي بين من يسميها ثورات ومن يسميها صحوات إسلامية في أي خانة تصنفون ما يجري؟
من وجهة نظري فإن ما يحصل اليوم من حراك في العالم العربي هو ثورات شعبية تتجاوز التصنيف الأيديولوجي؛ لأن الشعوب قد طفح بها الكيل لمعاناتها من الاستبداد والفساد وما أنتجاه من تخلف التنمية والفقر والبطالة والتبعية والخنوع لقوى الاستكبار العالمي.
وقد عقدت الشعوب لحقبة طويلة آمال التحرر والخلاص على مختلف التوجهات الايديولوجية من دينية وغيرها، لكنها وجدت نفسها في بعض الأحيان تدفع ثمناً باهظاً للصراع بين أطراف هذه التوجهات، كما أن بعضها لم ينجح في تقديم البديل الأفضل حين أتيحت له فرصة الحكم والسلطة.
لكل ذلك لم نجد حضوراً للشعارات الأيديولوجية في ثورات الربيع العربي حيث تطمح الشعوب في حراكها الجديد لبناء حكم ديمقراطي يقوم على أساس الإرادة الشعبية، ومفهوم المواطنة والتداول السلمي للسلطة، ويسعى لإنجاز التنمية وتعزيز حقوق الإنسان. والشعوب واثقة من دينها وتدينها، لكنها تريد إصلاح شؤون حياتها.
برأيكم هل مع وصول الإسلاميين اليوم إلى السلطة يكون حلم المشروع الإسلامي قد بدأ يتحقق؟
آمل ان يكون وصول الإسلاميين الى السلطة حافزاً لإنضاج مشروع حكم عادل رشيد ينبثق من قيم الإسلام ويستفيد من تجارب المجتمعات الإنسانية.
إن كثيراً من الإسلاميين يتحدثون عن مشروع إسلامي غير واضح المعالم، ويرفعون بعض الشعارات الدينية لدغدغة المشاعر وإثارة الأحاسيس، دون أن يقدموا برنامجاً قابلاً للتطبيق منسجماً مع تطورات العصر وحاجات الشعوب على الصعيد السياسي والاقتصادي.
وبعضهم يعد باستنساخ سيرة الخلفاء والسلاطين في التاريخ الإسلامي. مما يوجب الرعب من تكرار سياسة الاستبداد والقمع التي عانت منها الأمة في معظم عصورها السابقة.
وما يدعونا الى الأمل والتفاؤل هو الوعي الجماهيري المنفتح على تطورات العصر، والذي يدفع ويضغط باتجاه السير في طريق الديمقراطية والمشاركة الشعبية، حيث حركة التاريخ، ولغة الواقع العالمي.
كيف تنظرون إلى مستقبل الشيعة على ضوء الثورات العربية الحاصلة؟
إذا نجحت الثورات العربية في إرساء مفهوم المواطنة الذي يعني تجاوز التصنيف والتمييز بين المواطنين، وأن تكون هناك مساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، فإنه لا مبرر للحديث عن مستقبل خاص للشيعة أو أي طائفة أخرى خارج سياق المستقبل العام للأمة وللشعب في أي وطن من الأوطان.
فالشيعة هم جزء من هذه الأمة، وحيثما يتواجدون فهم جزء لا يتجزأ من أوطانهم وشعوبهم.
إن الاستبداد السياسي والديني هو الذي انتج حالة التهميش والاقصاء لهذه الطائفة أو تلك، ودفعها للانكفاء على نفسها، والشعور بالقلق على هويتها، وتحصن أفرادها بالانتماء إليها لحماية مصالحهم من الانتهاكات التي تستهدفهم.
وهذا هو ما خلق الواقع الطائفي القائم، والذي نأمل تجاوزه بثقة المواطن واطمئنانه على مصالحه وحقوقه في ظل هويته الوطنية الجامعة، ودون حاجة للاحتماء بهويّة فرعية كهوية المذهب أو القبيلة.
إن الأكثرية في الأمة وفي كل وطن من الأوطان مطالبة باستيعاب الأقليات، مع تحفظنا على مصطلح الأكثرية والأقلية على هذا الصعيد.
لكن لا بد من تطمين من عانى من التهميش والإقصاء والتمييز، ليمارس دوره الوطني بثقة ودون هواجس من تكرار المآسي.
ومن المؤسف أن نرى استمراراً لخطاب الاقصاء الطائفي في بعض أوساط المتطلعين للثورة والتغيير، حيث يتحدثون عن الشيعة وسائر الطوائف الأخرى، وكأنهم وجود طفيلي أو غير مرغوب فيه، أو لا يحق لهم أن يعبّروا عن ذاتهم ويشاركوا بحجمهم في الواقع السياسي والاجتماعي.
في مقابل ذلك فإن في الوسط الشيعي من استمرأ حالة الانكفاء والانطواء، واستغرق في معادلة ردة الفعل، لمواجهة التشدد والتعصب المذهبي بخطاب من جنسه ولغته.
بالتأكيد فإن العدو الخارجي ليس بعيداً عن لعبة الصراعات الطائفية بل هي فرصته لإضعاف الأمة، وتمزيق وحدتها وقوتها.
وهنا تأتي مسؤولية قوى الوعي والتنوير في الأمة لبث الخطاب الوحدوي، وتكثيف مبادرات الحوار والتواصل والتعاون، ليشترك الجميع في صنع مستقبل واحد يضمن مصالح الجميع وحقوقهم، ويدشّن عصر دولة المواطنة والمشاركة والمساواة.
متى يجوّز الإسلام اللجوء إلى الثورة ومتى يرجّح الطرق السلمية في معالجة المشاكل؟
الثورة لا تعني العنف وإنما تعني إظهار الأمة لإرادتها في رفض واقع الظلم والفساد، بالطرق السلمية، كما حصل في تونس ومصر واليمن والبحرين، وقبل ذلك بثلاثة عقود حينما انطلقت الثورة الإسلامية في إيران بحراك جماهيري عام، لم يستخدم فيه العنف من قبل الشعب الإيراني، رغم بطش النظام الشاهنشاهي الزائل.
والإسلام يؤكد بمفاهيمه وتشريعاته على عدم اللجوء الى العنف في الخلافات الداخلية، والتوسل بالطرق السلمية، حفاظاً على الأرواح والأعراض والممتلكات الخاصة والعامة، ولكي تتعزز في الأمة روح السلم ومنهجية السلام.
وقد دلّت التجارب الثورية المعاصرة على قوة الحراك الشعبي حينما يكون عاماً وسلمياً، وقدرته على اسقاط الطغيان، وكسب الرأي العام الداخلي والخارجي، شريطة الثبات والصمود، والاستعداد للتضحية والبذل، والإصرار الواعي على تحقيق الأهداف المرسومة المحددة.
لماذا اليوم يصار إلى مذهبة أي تحرك في المجتمع الخليجي مع أن المطالب حقيقية وجدية؟
مشكلة المجتمع الخليجي أنه يعاني من وجود اتجاهات طائفية تعصبية نافذة، وهناك أنظمة تتبنى سياسة التمييز الطائفي بين مواطنيها، وقد أنتج ذلك حالة من الانفصال بين الطوائف، فإذا ما جرى الحراك من قبل أبناء طائفة معينة، وإن كان لمطالب حقيقية، فإنه يثير الهواجس لدى أبناء الطائفة الأخرى، ويعطي الفرصة للأنظمة للّعب على هذا الوتر الطائفي، وتشويه صورة الحراك، والتعبئة ضده.
وما نتمناه هو حصول حراك وطني لا ينحصر في طائفة معينة، علماً بأن ذلك لا يبرر التنكر لحق من يتحرك لدفع الظلم والسعي للإصلاح والتغيير، لا لذنب إلا انتماؤه لهذه الطائفة أو تلك.
يجب الانصاف ودراسة أهداف الحراك ومدى شرعية المطالب التي ينادي بها، والتضامن مع المطالب الحقة لأي فئة من المواطنين.
ولا ينبغي لصاحب شعور وطني إنساني أن يكون وقوداً في معركة ظالمة لصالح الطغاة ضد طلاب الحق والعدل.
إن جميع المواطنين في الخليج يدركون سوء الواقع السياسي، ويعانون من تفاقم المشكلات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ويطمحون جميعاً الى الاصلاح والتغيير، لكنهم بحاجة الى تجاوز الحواجز المذهبية والقبلية والمناطقية، وأن ينفتح الشباب الواعون على بعضهم بعضاً، ليقودوا حراكاً وطنياً، يطالب بالعدل والمشاركة وحماية حقوق وكرامة جميع المواطنين.
من يتحمّل مسؤولية ما وصلنا إليه من تفشي حالة المذهبية في العالم العربي والإسلامي؟
الحالة المذهبية في العالم العربي والإسلامي هي إرث ثقيل لعصور سابقة من الاستبداد السياسي والديني، يعززها تراث مذهبي يطفح بالتعصب والغلو والتحريض على الكراهية للآخر المخالف.
وهناك جهتان تتحملان المسؤولية الأساس في تفشي واستمرار هذه الحالة.
الأولى: هي النظام السياسي الذي يمارس التمييز الطائفي ويدعم بث التفرقة والصراع المذهبي، لأغراض وأهداف سياسية.
والثانية: هي القيادات الدينية التي تمارس التعبئة المذهبية والتحريض الطائفي في صفوف أتباعها لتأكيد دورها في الزعامة النفوذ.
إن غض الطرف من قبل القيادات الدينية في الجانبين عما في التراث المذهبي من تعصب وغلو وإثارة للشحناء، هو بمثابة المشاركة في جريمة تمزيق صفوف الأمة، وضياع وحدتها، حيث تتحمل هذه القيادات إثم ما يحصل من سفك للدماء وانتهاك للحرمات، في النزاعات الطائفية البغيضة.
هل من تحرك ما على صعيد علمائي أو قيادي لإيجاد صيغة حل لهذا الخطر المحدق؟
حين يتأمل الإنسان في النصوص الدينية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وروايات عن أهل البيت ، وعن الصحابة الأخيار (رضي الله عنهم)، يرى لوحدة الأمة أولوية ومركزية عظيمة، وحين ينظر الإنسان إلى واقع الشعوب الإسلامية يرى أخطار التفرقة والفتن الطائفية تهدّد مستقبل الأمة ومصالحها بأشد الأضرار الفادحة.
وذلك يقتضي أن تعطي المرجعيات الدينية لقضية الوحدة ما تستحق من الاهتمام بمستوى مركزيتها في الدين، وضرورتها لحفظ مصالح الأمة، لكن ما يثير التساؤل والأسف تغافل معظم المرجعيات الدينية السنية والشيعية عن التصدي لهذه القضية، وانشغالها بتعزيز دورها داخل طوائفها، بل إن بعض هذه المرجعيات تصب الزيت على نار الفتن الطائفية، بإصدار الفتاوى التكفيرية والتحريضية، ونشر الأفكار التعصبية، وتشجيع الممارسات المثيرة للآخر المذهبي.
وهناك جهود مشكورة مقدرة تقوم بها بعض المرجعيات والقيادات الدينية، لكنها لا ترقي إلى مستوى التحدي.
كنا نعقد آمالاً على الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في تعزيز الحوار والتواصل المذهبي بين علماء الأمة، والتأكيد على المشتركات في الآراء والمواقف، لكن الأوضاع السياسية ألقت بظلالها على مواقف بعض قيادات هذا الصرح الشامخ، بما أصاب مسيرته بالتعثر على هذا الصعيد.
ويبذل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي ترعاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية جهوداً كبيرة مميزة، لكن امواج الفتن الطائفية التي تحركها المصالح السياسية، عاتية هوجاء.
إن من الضروري ان تنطلق مبادرات محلية في كل بلد يعيش التنوع المذهبي، لحماية التعايش، وتوفير اجواء التواصل والتقارب، وهناك مبادرات رائدة في هذا السياق كتجمع علماء المسلمين في لبنان، وتجمع علماء المسلمين في العراق، وائتلاف القوى الإسلامية في باكستان، مما يشجع على مبادرات شبيهة في مختلف البلدان والمناطق الإسلامية.
هل هناك تعارض بين الولاء للدين والولاء للوطن؟ وعليه هل تجدون المواطنة حلاً لمشكلات التمييز الحاصلة في العالم العربي والإسلامي، وكيف نؤسس لها إسلامياً؟
حين نفهم الدين فهماً سليماً فإن الولاء له سيجعلنا أكثر حرصاً على مصالح أوطاننا؛ لأن جوهر الدين هي قيم المحبة والتسامح والعدل والنفع لعباد الله وخدمة المصلحة العامة.
أما التعصب والكراهية والعدوان على حقوق الآخرين والإساءة للمخالفين فهي رذائل يبرأ منها الدين، ومن ينسبها للدين فهو مسيء إليه.
إن المواطنة والتي تعني الشراكة بين أبناء الوطن الواحد في إدارة شؤون وطنهم، وفي بنائه وتنميته والتمتع بخيراته والدفاع عن مصالحه، بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم وقبائلهم وتوجهاتهم، هي الطريق الصحيح لتجاوز حالات التمييز والصراعات الداخلية، وهذا ما تسير عليه الأمم والشعوب الأخرى، فالشعب الأمريكي مثلاً خليط من انتماءات متنوعة مختلفة، لكنهم سواسية أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات.
ونجد في صحيفة المدينة التي وضعها رسول الله عند هجرته للمدينة المنورة وإقامة الكيان الإسلامي فيها والتي نصت على المشاركة في الحقوق والواجبات بين سكان المدينة آنذاك من مسلمين ويهود وغيرهم، نجد أن هذه الصحيفة تمثل تأصيلاً دينياً لأي دستور يتوافق عليه المواطنون بمختلف أديانهم.
كما أن في سيرة امير المؤمنين علي نجد اعترافاً والتزاماً صريحاً منه (عليه السلام) بمساواة المخالفين والمعارضين له ببقية المواطنين في حفظ حقوقهم ومصالحهم كقوله للخوارج: (لهم علينا أن لا نمنعهم دخول المساجد وأن لا نقطع عنهم الفيء وأن لا نبدأهم بقتال ما لم يثيروا فتنة).
وكل قيم الدين التشريعية والأخلاقية وفي طليعتها حق الجوار تلهمنا المبادئ والمفاهيم التي تؤصل لمفهوم المواطنة.
لكن حداثة هذا المفهوم قياساً الى قدم النصوص والمتون الفقهية يتطلب من الفقهاء المعاصرين بذل الجهد لاستنباط تفاصيل وحدود هذا المفهوم من المصادر الدينية، وبالاستفادة من تجارب سائر الأمم والشعوب.
إذا تعارضت مصلحة الوطن مع مصلحة الدين فأي مصلحة على المسلم أن يبدّيها؟
تعارض مصلحة الوطن مع مصلحة الدين افتراض وهمي وإنما يحصل التعارض بين ما يتوهمه الإنسان مصلحة للدين أو الوطن.
وهذا يذكرنا بالنقاش بين علماء أصول الفقه عن التعارض بين حكم العقل وحكم الشرع، أو ما عبروا عنه بالملازمة العقلية بأنه إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلاً أن يحكم الشرع على طبقه؟
وقد قرر العلماء ثبوت هذه الملازمة، وأن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه أي إذا تطابقت آراء العقلاء بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام ومصلحة البشر، أو على قبحه لما فيه من الاخلال بالنظام ومصلحة الناس، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم لأنه من العقلاء بل رئيسهم على حد تعبير علماء الأصول.
لماذا لم نشهد تحركاً إسلامياً ضخماً لوقف نزيف الدم في بورما، فقط سمعنا بعض الأصوات الخجولة المنددة؟
يبدو أن انشغال مراكز العالم الإسلامي بمشاكلها الداخلية والقريبة منها، هو الذي يضعف الاهتمام بمشاكل المسلمين في الأطراف النائية كالفظائع التي تحدث في بورما.
إن ذلك مؤشر خطير على انحسار الروح الإسلامية التي تجعل المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى.