الأستاذ جعفر الشايب لملحق الرسالة: التسامح الديني وضروة التعدد المذهبي
لا شك ان العمل الجريء الذي قدمه الأستاذ عبد العزيز قاسم في مكاشفاته مع الشيخ حسن الصفار يضاف إلى رصيده المهني وحواره الرصين في سلسة «مكاشفات» مع أبرز القيادات الدينية والشخصيات الاجتماعية والسياسية في المملكة. وتبرز أهمية ذلك في استنطاق التجربة من اصحابها الذين عايشوها وبصورة مباشرة بهدف إطلاع الرأي العام عليها وتنمية الحراك الفكري والثقافي عبر مناقشة ونقد أطروحاتهم وأفكارهم ومواقفهم حول الآخر. ومن اجل الوصول بقارئه إلى أقصى آفاق القضايا المطروحة، وتقليب ما خفي منها، سعى قاسم الى استفزاز محاوره من أجل تحريك التجربة في فضاءاتها المتعددة بتفاصيلها العملية والفكرية وعرضها بكل ما تحتويه، ومواجهته بكل القضايا المثارة حوله.
لعل ما يميز هذه المكاشفة عن سابقاتها، أنها تناولت – إضافة إلى تميز الضيف وصراحته الجريئة – قضية من أكثر القضايا حساسية في المجتمع السعودي وهي قضية العلاقة بين السلفيين والشيعة، حيث أن هذه المكاشفة ساهمت وبكل تأكيد وجرأة في طرح الملف الشيعي وقضاياه المتعددة كأحد هموم الوطن والمخلصين له، بعيدا عن المواقف المتشددة والحساسيات المفرطة. كما أن ضيف هذه الحلقات هو من تبنى مشروع التعددية والتسامح والتنوع في أطروحته الشاملة التي دشنها قبل أكثر من عقد من الزمن، وألف حولها العديد من الدراسات والأبحاث والمحاضرات العامة.
لقد بينت هذه المكاشفات - وعلى مدار حلقاتها الخمس - عن الحاجة الملحة إلى التوعية الثقافية للجميع بالاتجاهات المذهبية والفكرية المختلفة السائدة بينهم، حتى لا يعيشوا غرباء عن بعضهم بعضا، وتقوم اختلافاتهم على الجهل المطبق بحقائق الأطراف المختلفة. بالطبع فإن موضوعا كهذا، بكل ما يحتويه من خلفيات تاريخية ومذهبية واجتماعية، لا يتوقع له أن يمر بهدوء دون زوبعة وإثارات، لأنه يحرك المياه الراكدة ويدفع باتجاه طرح المسكوت عنه علنا عسى أن يساهم في تعرية ما علق بهذا الموضوع من قضايا هي إلى الأوهام أقرب منها إلى الحقيقة.
رأيت في المكاشفات اتجاهين حاول ان يتقمصمها المحاور يعبران عن الحالة السائدة في المجتمع السعودي، الأول اتجاه نمطي يتسم بالتعالي والصاق التهم وينطلق من مسلمات غير قابلة للنقض ويدين كل معتقدات وأفكار الآخر، ويشكك في منهجيته ووطنيته ومسلكه السياسي بصفته صاحب الحق المطلق. والثاني اتجاه منفتح باحث عن المعرفة والحقيقة يعطي لنفسه حق السؤال والاختلاف والاعتراض بهدف التعرف والفهم، كما يعطي للآخر حق الرد والحرية في التعبير عن ذاته وأفكاره ومواقفه، بكل عقلانية وموضوعية واحترام، وضمن ثوابت دينية ومصالح وطنية محددة.
الاتجاه الأول لايهمه أن يفهم الطرف المقابل، لأنه لا يبحث عن ارضية مشتركة بينه وبين الآخرين، ولا يملك مشروعا للتلاقي والحوار من أجل تطوير علاقة التعاون والـتآلف بين عناصر المجتمع ومكوناته المختلفة. يرى بأنه يمتلك الحقيقة كاملة، وعلى البقية – مهما كانوا – الانصياع له والاتباع لنهجه والتوبة من التفكير في اي مسلك آخر. فكل ما عداه شر، وما سواه خاطئ. يدفع الآخرين دوما باتجاه الزوايا الحادة والمناطق الحرجة. لديه مجموعة اشكالات ومواقف جاهزة منذ زمن، يرفعها كلافتات متى ما احتاج اليها. لايقبل بالتعددية والتنوع والتعايش مع الأفكار الأخرى، لأنه يعتبرها تأخذ حيزا من مواقعه، فبدلا من أن يحولها إلى روافد لفكره ونشاطه، يتعامل معها بكل فظاظة وعنف وشدة، ويقمعها حتى تتقوقع على ذاتها، وتنكفأ على نفسها، ويحرم الوطن من مساهماتها.
الانكفاء والتقوقع يولد بطبيعة الحال تطرفا مقابلا كرد فعل على القمع والتشدد، فالأفكار لا يمكن سجنها، والمعتقدات لا يمكن تطويعها بالقوة، بل تزداد تطرفا وحدة عندما تحاصر وتقمع. وهكذا يتولد تشددا مزدوجا وتطرفا متشعبا، يتعقد اكثر وأكثر مع مرور الزمن وتتابع الأحداث. وتتحول الاجتهادات الفرعية إلى خلافات أصلية، ثم تصاغ حولها نظريات تجعلها في حكم المسلمات النهائية والمطلقة.
هذا الاتجاه هو الذي ساد في معظم العلاقة بين الفرق والمذاهب الاسلامية، وطغى على لغة الحوار والتقريب، ووأد أي محاولات اصلاح في هذا المجال في مهدها. وبالطبع فإن ذلك أضر بالأمة الاسلامية كثيرا وشتت جهودها وفرق صفوفها، بل وأتاح فرصا ذهبية لأعدائها كي يتمكنوا من اختراقها والسيطرة عليها وعلى خيراتها.
في مقابل ذلك، يسعى الاتجاه الثاني الداعي إلى الانفتاح والحوار إلى تعزيز وجوده في الساحة الاسلامية عامة والوطنية خاصة – وتحديدا في ظل التحديات التي يمر بها المجتمع – وذلك من خلال الجهود الكبيرة والجريئة التي يقوم بها المثقفون المتنورون – ومنهم الأستاذ عبد العزيز قاسم – أملا في اعادة صياغة الخطاب التقليدي ورسم صورة جديدة للذات وللآخر وخاصة بعد أحداث سبتمبر التي دفعت بالجميع إلى إعادة قراءة الوضع الاجتماعي والخطاب الديني بنفس مختلف تماما.
وعلى ضفتي نهر الحوا ر الاسلامي الاسلامي، ينبري هؤلاء المثقفون حاملين لواء الوحدة ومبادئ التعايش والحوار والتسامح الديني والتعدد المذهبي، يؤصلون لهذه المبادئ من صلب الدعوة المحمدية، ويبحثون عن المشتركات بين جميع الاطراف، ويدفعون باتجاه وحدة الصف والموقف الوطني الثابت. إن ما نشره ابناء هذا الوطن من الاسلاميين المعتدلين طوال الفترة الماضية يعد رصيدا ثريا لخلق أرضية مناسبة للتواصل والحوار. فكتابات كل من زكي الميلاد، ومحمد محفوظ، ومحمد الهرفي، وعبد الله العتيبي، وعبد الله اليوسف، وابراهيم البليهي – كنماذج شاخصة-، كلها تصب في خدمة هذا الاتجاه وتعزز التوجه إلى معالجة أزمة الحوار المذهبي.
ليس من شك بأن هنالك تحديات كبيرة أمام هذا المشروع الحضاري والانساني، أبرزها تأثير الشارع وعموم الأتباع على من يتبنى مثل هذا الاتجاه، ويدعو الى التواصل والحوار وتجاوز تعقيدات المسألة المذهبية ويبحث عن المصالح الكبرى. فالتيار الشعبي العام قد عبأ لسنوات طويلة بافكار متشددة ومغالية لا تقبل الآخر وتتعاطى معه، ولذا فهو يرى في مثل هذا التحول خيانة بالرسالة التي سلم إياها، والمبادئ التي اعتنقها. كما أن هنالك رموز وشخصيات عاشت طول حياتها تبث هذه الأفكار وتعبأ نحوها، فهل يمكن أن تتنازل عن افكارها بهذه السهولة وخاصة أنها ألفت هذا المنحى وتعودت عليه؟. كما أن هنالك من يغذي هذه التوجهات المتشددة، كي يبقي جذوة الخلافات قائمة، وما الأحداث الطائفية التي تترى في مناطق العيش المشتركة كالباكستان والعراق الا نماذج للنية في استمرار التوتر قائما بين الطرفين.
على الصعيد الوطني، نحن في امس الحاجة إلى تعزيز حالة الانفتاح والتواصل، التي ينبغي أن تبدأ من خلال التعارف المباشر والواضح. ووسائل الإعلام الرسمية تتحمل مسئولية كبرى في توظيف امكانياتها لخدمة هذا الغرض، وتوفير الفرص أمام الجميع للبحث عن المشتركات حتى مع وجود الاختلافات. الصحافة، الكتاب، المؤتمرات، المحطات الاذاعية والتلفزيونية كلها يمكن أن تلعب دورا محوريا في هذا المجال. كما أن مناهج التعليم تتحمل جزءا من المسئولية عبر تعريف الناشئة بالتوجهات الفكرية والمذهبية القائمة واحترامها والتعاطي الايجابي معها.
في مدينة تورنتو بكندا حضرت فتاة سعودية لمدرستها الابتدائية في أيام شهر رمضان، وفي وقت الفسحة لاحظ زملاؤها وزميلاتها أنها لم تأكل معهم كالمعتاد. فسألوها فأخبرتهم بأنها صائمة ولا يجوز لها أن تأكل. نقل الطلاب كلامها إلى مدرستهم، فاهتمت بالموضوع وطلبت من الطالبة السعودية أن تشرح لزملائها ذلك، ومبرراته، وأهدافه. ترددت الطالبة ولكنها اعطت فكرة مبسطة حسب فهمها للموضوع. المدرسة اهتمت أكثر بالأمر، واتصلت بوالدة الطالبة ودعتها للحضور وطلبت منها أن تلقي كلمة على جميع مدرسي ومدرسات المدرسة بخصوص هذا الموضوع حتى يستطيعوا نقله إلى طلبتهم، ليتفهموا الموضوع ويتعاملوا معه باحترام. هكذا تحترم المراكز التربوية الاختلاف والتنوع وتتعايش معه.