تقديم كتاب «أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع» - المجلد الثالث
الوزير: خطب الشيخ الصفار ومواعظه تدعوا دائماً إلى الله بالحسنى
الحمد لله الذي اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن البشر آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد المصطفى، الذي اختصه الله بالتكريم والتشريف، فجعله خاتماً للرسالات السماوية، وهادياً ورحمة للعالمين، وعلى آله الطاهرين القائل فيهم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ وعلى صحابته الراشدين، الذين وصفهم الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أشداءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخرج شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
لقد بلغت الرسالات السماوية كمالها في (الرسالة الخاتمة)، و(الكتاب المهيمن)، يوم بلغت البشرية رشدها، وتقاربت زماناً ومكاناً.. وهذه الشريعة الهادية تضع أمام الاختيار الحر للإنسان معالم المنهج لحياته، وهدى الله له في معيشته، ومختلف ما تقتضيه حياته من المهد إلى اللحد.
وكمال الأمم في (الذروة) هو أن تجمع في (فقهها) وتطبيقاتها بين السنن الكونية الماضية على الكون، وما فيه ومن فيه، والسنن التشريعية الهادية الموضوعة أمام الاختيار الحر للإنسان، والتي على أساسها تكون الحياة الطيبة المطمئنة، للفرد والجماعة على هذه الأرض، والسعادة الأبدية في الدار الآخرة.
وهذه (كلمات الجمعة) التي يتناول فيها سماحة العلامة الشيخ حسن بن موسى الصفار بعضاً من قضايا الأمة وهمومها، مستخدماً في تناوله ومعالجاته أسلوباً علمياً مستنيراً، يرتكز على منهج الوحي.. المنهج الإلهي.. الذي جاء به من أرسله الله رحمة للعالمين، متأسياً به كما أمر المولى عز وجل في كتابه العزيز: ﴿َلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وبالتابعين له من آل بيته الكرام، وصحابته الذين اقتفوا بأثره.
وتأتي أهمية هذه الكلمات، كونها تطرح معالجات لبعض جوانب ووجوه القصور والانحرافات التي تعاني منها الأمة، على مستوى الفرد والمجتمع.
والأمة وفي الوقت الذي تمر فيه بمنعطف خطير في تاريخها، بعد أن لاقت في القرن الماضي، وبداية القرن الحالي، من صنوف التفتت والفرقة والانقسام، والتخبط في الانحرافات، التي تستر عليها علماء بحسن نية أحياناً (مثال هؤلاء: العلماء المغفلون)، وبسوء نية أحياناً كثيرة (مثال هؤلاء: العلماء المتعيشون)، بل إن هؤلاء العلماء قد أضفوا ثوب القداسة على هذه الانحرافات وفتنها المظلمة، كذلك الذين أصيبوا بمشكلة الحرفية والسطحية في الفهم، والذين يريدون أن يفرضوا حرفيتهم وضيق آفاقهم على ميادين الفهم عند ذوي الألباب.. وهؤلاء إذا بحثوا عن أدواء الأمة فعن الظواهر يبحثون، لا عن الأسباب الباعثة للأمراض المتفشية في المجتمع.. ولم يعوا أن الإسلام: قوة في غير كبر، ورفق في غير ضعف، وبشاشة في وجه أخيك.. لا تماوت ولا تظاهر بالخشوع رئاء الناس، ولا تجهم في وجوههم، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا بعلم، وإلا في قطعي أو مجمع عليه، لا في مسائل خلافية، ولم يفقهوا قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
ففي غمار جهل الأمة وغفلتها، وإعراضها عن الحقائق القائمة على العقل والعلم، لم تستفق من مهانتها بالاستعمار، وهي تظن أنها مشرفة على الحرية والاستقلال، إلا لتمضي في غباء في الخطوط المرسومة لها من قبل أعدائها.. حتى تكرس مفهوم القطرية، وغاب عنها نهائياً في كل أجزائها الممزقة قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ وغاب عنها قول رسول الرحمة محمد : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
وها هي الساحة العربية والإسلامية تتعرض لمشروع إبادة وتمزيق للأجزاء، التي مزقها أصلاً غياب الشورى والديموقراطية، وحرية مشيئة الإنسان وحقوقه وكرامته، عندما استولت الدبابة والمصفحة وآلات التعذيب، فاغتصبت معنى كلمة (دولة) في الأجزاء الممزقة، وبذلك جعلت من الاتحاد هدفاً مستحيلاً بين أمة يجمع بينها كل ما يوحدها، وهي ترى وتشهد وحدة قارات مختلفة القوميات والأعراق والمعتقدات واللغات.
ونظرة إلى تطورات الأحداث المأساوية الراهنة، التي يتعرض لها أبناء الأمة في فلسطين، الأرض المباركة، ومسرى خاتم الرسل ، من قبل الصهاينة المعتدين، وردة فعل الأمة تجاه تلك الاعتداءات، التي يقترف فيها أبشع الجرائم، من قتل للأطفال والنساء والشيوخ، وهدم للمنازل على رؤوس ساكنيها، وتجريف للحقول والمزروعات، وتخريب للمدارس والمستشفيات، وكل ما ينبض بالحياة، نجد الأمة تتفرج لا تحرك ساكناً، مصابة بالذل والهوان، متناسية الشرط الإلهي الموضوعي للنصر، الذي أكد عليه المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
هذا الذل والانهيار حدد أسبابه رسول الله ، منذراً ومنبهاً لتتداركه الأمة في أي وقت تفيق من غيبوبتها واستسلامها: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، أولها نقضاً للحكم وآخرها نقضاً للصلاة» إن نقض (عروة الحكم) هو افتراق الكتاب والسلطان.. فالكتاب أسس السلطان على الشورى في الأمر، ولكن السلطان أقام سلطته على كسروية وقيصرية. فعلى الشعوب أن تمارس شجاعتها وتتنبه إلى نذير رسول الله : «كلا والله، كلا والله، كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه إلى الحق أطرا، ولتقصرنه إلى الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ويلعنكم كما لعنهم» والأطر: هو الرباط والعقد، والقصر هو: اتخاذ ما يضمن من الوسائل أن يفرط مستبد على الأمة أو يطغى.
ولكي تعود الأمة إلى عزتها وقوتها يجب عليها إقامة:
الشورى في الأمر: فلا يستبد فرد ولا يطغى، وتفقه الأمة أن الشورى مثل للاستجابة لله، ومثل الصلاة علامة على المسلم المؤمن، وشعيرة من شعائر الحياة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.
العدل في المال: فلا يكون دولة بين الأغنياء: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾.
الخير في الأرض: تجدداً دائماً وتحسناً مستمراً: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ﴾.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾.
التعاون على البر والتقوى: ﴿وَتَعَاونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاونُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾....
وسماحة العلامة المصلح الشيخ الصفار دائماً خطبه ومواعظه تدعوا إلى الله بالحسنى، وتشرح منهج الوحي، وتعاليم من أرسله الله رحمة للعالمين، لجمهوره ولعامة المسلمين والإنسانية في كل مكان، هادفة لخروج البشرية من الظلمات إلى النور، مبينة لهم الحقيقة الكونية:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وأن هذا المنهج قائم على بيان الرحمة المهداة للعالم «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا». فجزاه الله خيراً عن أمته وكل من سمع أو اطلع على كلماته الجمعة المستنيرة في ضوء القرآن وبيانات الرسول .
ها أنا أقدمها إلى إخوانه المسلمين في كل مكان وآمل أن تترجم إلى اللغات الأخرى، وأسأل الله أن يطيل في عمره ويبارك في دعوته إلى الله.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ﴾.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم بن علي الوزير
5 ربيع الثاني 1423هـ
الموافق 15 يونية 2002م