الأحادية الفكرية
أنهيت قبل أيام قراءة كتاب صغير في حجمه، كبير في مضمونه ومعانيه، هو كتاب " الأحادية الفكرية في الساحة الدينية" لمؤلفه الشيخ حسن الصفار، وأبدأ بالقول إن بيننا وبين الشيخ الصفار خلافات جوهرية في قضايا عقدية وتاريخية، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نقر بالحق أيا كان مصدره، فالحكمة ضالة المؤمن، والحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، كما أن مضمون الكتاب في حد ذاته يدعو إلى قبول حق الغير في الرأي الحر والفكر الذي يعتقدونه دون قبول هذا الفكر أو المعتقد في حد ذاته، وأن مواجهة أي فكر أو رأي إنما تكون عن طريق الحجة والبرهان عملاً بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُل هَاتُوا بُرهانَكُم﴾.
يبدأ المؤلف حديثه بالقول إن " اختلاف الآراء وتباين الأفكار أمر طبيعي في واقع المجتمعات البشرية، فلا تخلو ساحة من ساحات المعرفة من تعدد المدارس والنظريات " ثم ينتقل المؤلف ليقول: "ليس من الخطأ أن يقتنع الإنسان برأي، أو ينتمي إلى مدرسة، أو يؤمن بقيادة، أو يثق بمرجعية، لكن الخطأ هو احتكار هذا الحق لنفسه وإنكاره ذلك على الآخرين " وهو ما يعرفه المؤلف بأنه الوصاية الفكرية التي يسعى أصحابها إلى فرض رأيهم على الآخرين والنيل من حقوق المخالفين وتحقيرهم وإساءة معاملتهم، كل ذلك بحجة إخلاصهم لما يرون أنه الحق في رأيهم ورغبتهم في نشره وهداية الآخرين إليه، ويقول المؤلف لو كانت هذه الحجة كافية لتبرير فرض الوصاية الفكرية لوجدنا لها دليلاً في القرآن الكريم أو في سيرة الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولكننا في الواقع نجد خلاف ذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وفي شأن الرسل يقول الله عز وجل: ﴿فَهَل عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ﴾.
لقد وجدت في كتاب الشيخ الصفار دعوة إلى الانفتاح وإلى الحوار وإلى التجديد وإلى المراجعة التاريخية وإلى القبول بتعدد الآراء والأفكار والمعتقدات وإلى تنشيط الساحة الفكرية والعلمية عن طريق التواصل والنقاش ومراجعة الحجة بالحجة والابتعاد عن فرض سلطة الرأي الواحد حتى وإن جاء ذلك تحت حجة حماية النقاء العقدي، وهي دعوة لابد لنا من أن نعترف بوجاهتها وبأهميتها في عصرنا الحالي الذي يتعذر فيه حجب الآراء أو الانطواء على فكر واحد ولا شك في أن أحسن وسيلة لتحصين المجتمع تتمثل في زيادة انفتاحه على التيارات الفكرية المختلفة مع تزويده بالحجة والرأي السديد وبذلك يتمكن الإنسان الرشيد من تكوين قناعات راسخة لا تهتز بمجرد سماع رأي مخالف أو فكر طارئ.