المشهد الوطني وجدلية التنوع والتعايش
في الفضاء الوطني والاجتماعي، ثمة شخصيات دينية وثقافية، عملت على بلورة مشروع ثقافي واجتماعي ووطني، يستهدف تطوير العلاقة بين مكونات وتعبيرات المجتمع السعودي، ووظفت كل إمكاناتها المعرفية والاجتماعية، من أجل إنهاء حالة الجفاء والخصومة التي تحكمت لاعتبارات عديدة واقع العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية.. ومن هذه الشخصيات فضيلة الشيخ حسن الصفار وهو احد أعلام الوطن والأمة.
وهو شخصية دينية وثقافية معروفة، وله العديد من الأنشطة والفعاليات، والذي عمل خلال العقدين الماضيين تحديدا على تفعيل خيار التواصل مع أبناء الوطن الواحد، ودعا عبر خطاباته الدينية والثقافية وكتاباته ومؤلفاته إلى نقد ظاهرة التطرف والغلو وحالات الانكفاء والعلة والعزوف عن المشاركة في الحياة العامة..
ومن كتاباته المطبوعة في هذا السياق [التعددية والحرية في الإسلام – بحث حول حرية المعتقد وتعدد المذاهب] و[التسامح وثقافة الاختلاف – رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات] و[الوطن والمواطنة الحقوق والواجبات] و[التطلع للوحدة] و[التنوع والتعايش – بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية] و[المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية] و[الطائفية بين السياسة والدين] و[الانفتاح بين المصالح والهواجس] و[الآحادية الفكرية في الساحة الدينية] و[الحوار والانفتاح على الآخر] وغيرها من الدراسات والأبحاث التي تؤكد وتؤصل لخيار احترام التعددية وصيانة مقتضيات التعايش والسلم الأهلي.. فقد جاء في كتابه [الطائفية بين السياسة والدين] إن [التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية مهمة مرحلية اقتضتها حالة مرضية، هي التباعد والتنافر بين أتباع المذاهب، ومن أجل تجاوز هذه الحالة المرضية نحن بحاجة إلى ما يلي:
أولا: نشر ثقافة التسامح والتعددية وقبول الرأي الآخر، والتركيز على أسس الدين الجامعة والمشتركات التي توحد بين أبناء الأمة..
ثانيا: تشجيع أجواء التواصل بين علماء المذاهب الإسلامية ونخبها المثقفة والفاعلة، لتوفير فرص التعارف المباشر فكريا وعلميا..
ثالثا: قيام مشاريع مشتركة لخدمة المصالح العامة للدين والأمة]..
وفي كتاب آخر يقول [الانكفاء على الذات والابتعاد عن الآخر ليس حالا سويا.. إن الخصوصية العرقية أو الدينية لأي مجتمع لا تبرر انغلاقه وانعزاله عن محيطه، فمن مصلحته الانفتاح ليشارك في مسيرة التنمية والبناء، وليعزز موقعيته الوطنية، وليقدم نفسه بالصورة التي يريدها أمام الآخرين.. ومفاهيم الدين تدعو إلى التعارف بين أبناء البشر على اختلاف أعراقهم وأديانهم، وإلى التآخي بين أبناء الأمة مع تنوع مذاهبهم وتوجهاتهم]..
وفي مبادرة فكرية جريئة دعا في بحثه الموسوم بـ(السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل) إلى إعادة بناء العلاقة بين السلفيين والشيعة على أسس جديدة، بحيث يخرج الجميع من سجون التاريخ إلى رحاب الإسلام وقيمه العليا..
والذي يؤكد أهمية وحيوية المشروع الذي يشتغل عليه الشيخ الصفار القائم على تجسير العلاقة بين الشيعة والسنة في المملكة، وإزالة كل الالتباسات والموانع التي تحول دون تطور هذه العلاقة، والدفع إلى الأمام بمشروع الاندماج الوطني على قاعدة المواطنة المتساوية، هو طبيعة المشاكل والهواجس القائمة في نظرة الأطراف المذهبية لبعضها..
فنزعات التشدد والغلو والمفاصلة الشعورية والعملية بين المختلفين، هي العناوين السائدة.
لهذا فإن العمل على بناء حقائق جديدة للعلاقة قائمة على التواصل والحوار والاحترام المتبادل، يعد من الضرورات الوطنية والاجتماعية، لأنه هو الذي يعالج مشكلات ملحة في الواقع الاجتماعي السعودي..
ونحن هنا لا ندعي أن العناوين التي يشتغل عليها الشيخ الصفار سواء في خطاباته أو مبادراته الوطنية والاجتماعية، هي عناوين ناجزة ومكتملة وإنما نحن نعتقد أن ملاقاة الشيخ الصفار في منتصف الطريق من قبل علماء ومهتمين من مختلف الأطراف والأطياف، سيساهم في تذليل الكثير من العقبات التي تحول دون اندماج المواطنين السعوديين مع بعضهم البعض..
فتفكيك موجبات الانكفاء والعزلة، وبناء العلاقة على قاعدة الاحترام المتبادل، بحيث لا يسئ أي طرف للآخر سواء في ذاته الراهنة أو مقدساته أو رموزه التاريخية، والعمل على تجسير العلاقة والتواصل الفعال بين فعاليات المجتمع ونخبته الدينية والثقافية، كلها من الأعمال والمبادرات الحيوية، التي ينبغي أن تدعم وتسند بالإضافة عليها ومراكمة ذات المضمون من مواقع دينية وثقافية واجتماعية مختلفة..
فنحن كسعوديين أحوج ما نكون اليوم إلى هذا الخطاب، الذي يدفعنا إلى الانفتاح والتواصل مع بعضنا البعض، ويؤسس لنظام العلاقة مهما كان حجم التباين في الآراء والقناعات على قاعدة المواطنة..
فالأمن الوطني والاجتماعي مرهون إلى حد بعيد، على قدرتنا وانخراطنا الفعلي في مشروع تجسير العلاقة بين مكونات الوطن.. ووجود اصطفافات مذهبية وطائفية في هذا البلد أو ذاك المجتمع، ليس مبررا للتمترس والتخندق الطائفي، وإنما وجود صعوبات في الواقع المعاصر للمسلمين على صعيد علاقتهم مع بعضهم البعض، ينبغي أن يدفعنا نحن أبناء هذا الوطن من مختلف مواقعنا المذهبية والفكرية إلى التشبث بخيار الحوار والانفتاح والتواصل.. وأهمية هذا الخيار نابعة أن في العالمين العربي والإسلامي هناك مشاكل وأزمات تهدد نسيج الأوطان والمجتمعات.. والمطلوب من قبلنا ليس الانخراط في هذه المشاكل وتغطيتها مذهبيا وثقافيا واجتماعيا، وإنما بناء حقائق وطنية واجتماعية تعزز الوحدة الوطنية، وتنظم الاختلافات عبر الحوار والتواصل ومقتضيات الاحترام المتبادل.. فما يجري في بعض البلدان من فتن طائفية، ينبغي أن لا يدفعنا إلى الوقوع في المحذور وزيادة اشتعال وتأجيج النيران.. وإنما على العكس من ذلك تماما، فما يجري من فتن وتوترات، ينبغي أن يدفعنا إلى الإسراع والمبادرة إلى توطيد العلاقة وإزالة الالتباسات ومنع التوترات من الوصول إلى فضائنا ومحيطنا الاجتماعي..
وإن تغيير الأنماط الثقافية والاجتماعية السائدة في أي بيئة اجتماعية، يتطلب مجموعة من الأعمال والأنشطة المستديمة حتى تحقق مفهوم التراكم المعرفي، لكي يتمكن المجتمع أو بعض فئاته وشرائحه في تغيير أفكارها وخياراتها الثقافية والاجتماعية.. ونحن في الدائرة الوطنية والاجتماعية، حيث نعيش التعدد المذهبي والتنوع الفكري، بحاجة إلى تلك الشخصيات الدينية والثقافية والاجتماعية، التي عملت على تفكيك حوامل الانكفاء والعزلة، وسعت من أجل هدم الجدر التي تفصل بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد لاعتبارات مذهبية أو فكرية، لأن هذه الشخصيات بما تملكه من معرفة وخبرة اجتماعية وتراث ثقافي وسياسي، لديها قابلية التأثير على شرائح وفئات اجتماعية عديدة.. لهذا فإن مشروعات الإصلاح التي تستهدف تطوير العلاقة بين تعبيرات وأطياف الوطن والمجتمع، بحاجة باستمرار إلى شخصيات متميزة وقادرة على صياغة رؤية أو مشروع متكامل يستهدف تقويض الكوابح والموانع التي تحول دون تطوير هذه العلاقة، وتعمل كخطوة ثانية على خلق الحقائق الإيجابية الجديدة والتي تنطلق من تعزيز مفهوم التواصل والحوار في أبعاده الاجتماعية والثقافية والعملية، وتعمل على خلق حالة التعاون بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد من أجل إنجاز الأهداف والغايات المشتركة، وتتعاضد مع غيرها من الشخصيات والفعاليات لحماية هذا الخيار وتوفير كل أسباب نجاحه واستمراره في الفضاء الاجتماعي والوطني..
ولعل من أبرز هذه الشخصيات الوطنية والاجتماعية، التي عملت انطلاقا من موقعها الديني ومركزها الاجتماعي على تطوير العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، وسعى بكل جهده وفعاليته وديناميته الاجتماعية والثقافية على القيام بمبادرات ثقافية واجتماعية تستهدف إزالة الحواجز والهواجس بين مكونات الوطن، وتجسير العلاقة بين نخبتها وفعالياتها الدينية والثقافية والعمل على خلق فضاء اجتماعي حاضن وفاعل في مشروع التواصل وإزالة الالتباسات التاريخية والثقافية بين أبناء الوطن الواحد..
أقول إن من أبرز هذه الشخصيات التي عملت في هذا السياق هو فضيلة الشيخ حسن الصفار.. لهذا فإننا نعتقد أن تجربة الشيخ الصفار على هذا الصعيد، من التجارب الثرية والتي تحتاج إلى قراءة متعددة الأبعاد فيها، للاستفادة منها، والبناء عليها..
فهي من اللحظات المتميزة والنوعية على صعيد العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في المملكة، حيث يباشر أحد الزعامات الدينية والاجتماعية مشروعه الثقافي والاجتماعي على قاعدة إزالة الحواجز والموانع التي تحول دون تطوير العلاقة بين السنة والشيعة في المملكة..
إذ يعبر الشيخ الصفار عن مشروعه بقوله: [لا بد أن أشير إلى أن كل العقلاء في الوطن أدركوا أن حالة الجفاء والقطيعة والتعصب المذهبي هذه كلها أضرت ببلادنا، وأضرت بالبلاد الإسلامية جمعاء.. وما الحوار الوطني الذي بدأ إلا إشارة خضراء للبدء في مسيرة جديدة نتجاوز بها آثار الاستبداد الفكري والهيمنة الآحادية لتيار واحد، لأنه يضر بالجميع، فحينما يشعر الجميع بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، وأن الفرص أمامهم متساوية، حينئذ نفوت الفرصة على كل الأعداء وعلى كل المغرضين في الداخل والخارج]..
وجماع القول: إن مشهدنا الثقافي والاجتماعي يحتضن العديد من حقائق التعدد والتنوع، وأن لا خيار أمامنا إلا التعايش مع بعضنا البعض.. والتعايش هنا لا يعني التساكن بل التفاعل والمشاركة والمصير المشترك..
وتجربة الشيخ الصفار على هذا الصعيد نوعية ، لأنه بلور آراء وتصورات متقدمة على صعيد إنجاز مفهوم الاندماج الوطني.. ونتطلع إلى أن تتراكم الجهود وتلتقي الأصوات مع هذا الصوت والجهد الذي يبذله الشيخ الصفار من أجل هدم الجدر والحواجز التي تحول دون انسجام وتفاعل المواطنين مع بعضهم البعض، وتصيغ العلاقة بين تعبيرات وأطياف الوطن على أسس الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل وصيانة حقوق الإنسان..
والساحة الوطنية اليوم، أحوج ما تكون إلى تلك الرؤى والأفكار التي تساهم في صياغة وبلورة مشروع وطني متكامل لإدارة حقيقة التنوع بكل آفاقها التي يزخر بها المجتمع السعودي..
وتعريفنا السريع بعطاءات هذه الشخصية الوطنية (الصفار)، هي من أجل إثارة النقاش والحوار الوطني حول سؤال التنوع في الواقع الوطني وسبل وآليات إدارته..
وهي دعوة أيضا لكل الباحثين إلى الاقتراب الثقافي والمنهجي من هذا الملف الهام والحيوي، لكي يساهم الجميع في بناء معرفة وطنية متكاملة تجيب على أسئلة التنوع، وتتفاعل مع مقتضيات هذه الحقيقة وتحدياتها، وتغرس في النفوس والعقول مقتضيات احترام هذه الحقيقة وسبل حمايتها..