قوة الحكم برضى الشعب
حينما يقرأ الإنسان الفكر السياسي لأمير المؤمنين يجده سابقًا لعصره وأوانه، فمن يقرأ النظريات السياسية الجديدة، والتجارب الإنسانية التي أنتجت تلك الأفكار السياسية، ويقرأ كلام أمير المؤمنين كالتي كان يعهد بها لولاته، يجد أسبقية الإمام علي إلى هذا الطرح السياسي.
كما تتطور المجالات العلمية والاقتصادية في حياة البشر، فإن الجانب السياسي والاجتماعي أيضًا يتطور، ما يطرح الآن ويطالب به كثير من الشعوب من التداول السلمي للسلطة أسوة ببقية الدول المتقدمة والذي يشارك فيه الناس في اتخاذ القرارات وإدارة شؤون حياتهم، وهو ما يسمى بالحكم الديمقراطي والذي يعتبر أفضل صيغة وصلت إليها البشرية في إدارة الحكم، نجد أن أمير المؤمنين يشير إلى مضمونه في كثير من كلماته وسيرته.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يؤكد أن على الحاكم أن يهتم برضى عامة الناس، وأن يصغي لعامة شعبه، وألا يولي كل اهتمامه لخاصته، فعلى طول الزمن والتاريخ هناك من يلتف حول السلطة من المنتفعين والذين يعبر عنهم الإمام بالخاصة، والبعض يسميهم الحاشية أو البطانة، وعادة ما يجد الحاكم نفسه معنيا بهذه الشريحة فيعطيهم الامتيازات والمجالات الواسعة، ويكون ذلك على حساب بقية الشعب، فلا يصغي لصوتهم، ولا يهتم بمطالبهم وأوضاعهم .. والإمام يحذر من هذا الأمر، ويلفت نظر مالك الأشتر إلى ذلك باعتباره أحد ولاته: (وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة) لأنه لو سخط العامة فماذا ينفع رضى الخاصة؟ في حين أن (رضى الخاصة يغتفر مع رضى العامة) وما دام الرأي العام راضيا عنك فإن سخط الأقلية وإن كانوا من الخاصة يذوب أمام رضى العامة. ثم يحذر الإمام مالك الأشتر من خاصة الحاكم من أنهم أتعب وأثقل على الحاكم من العامة: (وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل مؤنة له في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة).
ونحن نرى هذا جليا في الأحداث الأخيرة التي وقعت في تونس ومصر وليبيا، كيف أن أهل الخاصة عند الحكام مدانون بسرقة أموال الشعوب، وأنهم مطلوبون للعدالة والمحاكمة. ونرى كيف أنهم أول من يتخلى عن الحاكم. في ليبيا نرى الآن كيف يتسلل خاصته عنه ويتبرءون منه، والبعض منهم وقف ضده وطالب بإسقاطه! لأنه الآن أصبح في موقف ضعف، وأمام مواجهة شعب كامل، وما عادت عنده امتيازات يستطيع أن يوفرها لهم فتركوه.
يهرب الخاصة، ولكن تبقى العامة، يبقى الشعب، يناضل ويدافع، ولذلك يؤكد الإمام على مالك أن يهتم بعامة الناس: (وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صوغك لهم، وميلك معهم).
الإمام يطرح هذا التوجيه في ذلك الزمن، وكما قلنا مع تطور الفكر السياسي أصبح هذا الأمر واضحا جليا، تجاوزت البشرية كثيرًا من الحقب التي عانت المجتمعات البشرية فيها الاستعمار والرق والإقطاع، والآن هي في حالة مكافحة للاستبداد، والذي يعني السيطرة على الناس من دون رضاهم، وعدم مشاركة الناس في إدارة شؤونهم، وأغلب الدول العربية والإسلامية تعاني من هذا الجانب، والشعوب فيها تريد حكما سياسيا ووضعا اجتماعيا شبيها بالنمط السائد في الدول المتقدمة، فالكل هناك يعطي رأيه، ويشارك في اتخاذ القرار المتاح له، الناس يتطلعون إلى تحقيق مستوى أعلى من الحرية، والعيش بكرامة، ويطالبون بالعدل والمساواة. وعلى الحكام أن يعلموا أن الاستجابة إلى هذه التطلعات هي التي تضمن استقرار الوطن وأمنه، وهي ما تجعل الشعوب تلتف حولهم.
نسال الله أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يمنّ على أوطاننا بالأمن والاستقرار.