الجهل بمعنى التقارب المذهبي أعاق تقدمه
أحدثت إساءة ياسر الحبيب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ضجة في الأوساط السنية والشيعية على حد سواء، وبدأ البعض يشكك في دعوى التقارب طالما أن تلك الأصوات ما زالت حية، وقد يحدث مستقبلا أن يخرج نكرة من أحد الجانبين ليسيء لمعتقد الآخر لأبعاد سياسية في أغلبها، مع أن هذه الإساءات ثم استنكار علماء ومراجع من طرف الشخص المسيء تصب في خدمة التقارب متمثلة بالاستنكار نفسه، لأنه ينبئنا عن مواقف جديدة لم نكن لنطلع عليها لولا تلك الإساءة، وقد حدث شيء من ذلك مع الإساءة الأخيرة حيث اطلعنا من خلالها على مواقف شيعية جديدة من الصحابة بعد أن كانت في دائرة الاحتمال، وهذه طريقة مثلى للاستفادة من الإساءة نفسها لدعم التقارب، خاصة في هذه المرحلة، والتي ما زال مبدأ التقارب فيها ضعيفا من حيث المضمون والمعنى، كونه طارئا على الساحة الدينية المحكومة بالإرث التاريخي، والتي ما زال التاريخ يشكل الركيزة الرئيسية في قبول المستجدات بها، فالصراع الديني على مر التاريخ كان خاليا من مفردة التقارب وإن وجد شيء من اعتبار الآخر، فيرتكز على ما يمنع الاعتداء عليه لا غير، كأن يكون من الناجين أو من أهل القبلة أو غير كافر أو معذور بالتأول فهذه هي أدبيات العلاقة مع الآخر، وكلها تعبيرات لا تتجاوز الكف عن الآخر ولكن لا يوجد أي مصطلح يخدم التقدم نحوه مما أدى إلى تجذر المذهبية الحزبية التي نعيشها اليوم.
إن ذلك العمق التاريخي للمذهبية وانكفاءها على نفسها والذي ما زال يأسر الكثيرين جعلهم يشككون في نجاعة فكرة التقارب بل الجهل بالفكرة نفسها قبل نجاعتها مما يجعل أي إساءة كفيلة بهدمها، ولذا لا بد من تجلية مفهوم التقارب بإبراز أهم خطوة به وهي فرزه عن المضامين العقدية التي تشوش عليه فلا ينبغي خلطه بالمعتقد الشخصي للآخر، فالمفاهيم المغلوطة له تتصور أنه تقارب ما يعتقده الطرفان، فأصبح التقارب والاعتقاد شيئا واحدا، وأنه وسيلة لجعل معتقد الطرفين واحدا أي آلية لدمج المعتقدات، وأن على كل طرف إجراء تعديلات على معتقده مما أدى لظهور ما عرف بالتنازل عن الثوابت تبعا لذلك وهذا كله وهم، لأن التقارب لا يعدو أن يكون تقارب طرف بمعتقده مع الآخر بمعتقده من خلال المرتكز العقدي لكل منهما والذي يقبله طرف من الآخر دون نظر إلى جزئيات المعتقد، وبالتالي فلا يعد عدم التوافق العقدي الكامل عائقا في التقارب لأننا لا ندمج معتقدات كما أسلفت، ولعل اللبس أتى من الشعار المرفوع وهو تقارب المذاهب أو التقارب السني الشيعي أو التقريب بين المذاهب حيث يوحي بأنه تقارب للمعتقدات مع أنه في حقيقته تقارب لأشخاص المعتقدين ومن هنا يتبين خطأ من يجعل آلية الوصول للتقارب الشخصي كآلية الوصول للتقارب الاعتقادي ومن ذلك:
الرجوع إلى الكتب أو المصادر القديمة أو المعاصرة حتى ولو كانت معتمدة في المذهب لأجل التقارب، فهذه طريقة الوصول للمعتقد، وأما التقارب فالوصول له يكون بالاتصال بأشخاص المتقاربين، فنحن لم نرجع للتوراة والإنجيل للتعايش مع اليهودية والنصرانية، وإنما اتصلنا بأشخاصهم من خلال حوار الأديان، ولم ننعزل عنهم لنقول التوراة تقول ذلك والإنجيل يقول ذلك، ثم نحكم على الأشخاص من خلالها، فكذلك يجب أن يكون الحال مع الفرق الإسلامية، لأن التقارب والتعايش يرتكزان على الأشخاص، وفي التقارب لا تشكل الكثرة العددية ثقلا به، أي إنه يكفي قلة من كلا الطرفين لأنه موقف قائم على التمثيل، وأي أشخاص يمثلون البقية فلا يضر الجهل بملايين الأشخاص الذين لم يصدر منهم أي موقف للتقارب ولا يعتبر عائقا، فالقساوسة الذين يدعمون حوار الأديان قلة، مقارنة ببقية القساوسة في العالم الذين لم يظهر منهم موقفا أيا كان، ومع ذلك لم يجعل جهلنا بمواقف البقية عائقا فكذلك المسلمون فيما بينهم، بل حتى استنكار فعلة القس جونز صدرت من قلة مسيحية، ومع ذلك اعتبر موقفا مشرفا للمسيحية، وفي التقارب لا حاجة للشمولية، أي معرفة موقف الطرف الآخر في جميع أنحاء الأرض، وإنما تدخله الفئوية فالتقارب مع شيعة الخليج لا نحتاج فيه لبيانات من شيعة باكستان أو لبنان أو حتى إيران، وهم لا يحتاجون بيانات من "متطرفي" السنة، بل إن الفئة المتقارب معها ليسوا مسؤولين عن غيرهم في أي إساءة تحدث مستقبلا.
مما سبق يتضح خطأ من يعطي مواصفات معينة للتقارب، أشبه بشروط للتقارب وكلها تدور حول جزئيات وكأنه يريد أن يحول المذهب الآخر إلى مذهبه، أو يغلب مذهبه على مذهب الآخر، وكل هذا يزيد من التنافر بل إن ترك التقارب بهذه الشروط يساهم في التقارب نفسه، لأن تلك المواصفات والشروط تبعث على الخلافات من جديد، وهذا ما يحاول التقريب تجاوزه.