الوجهاء والزعاطيط
"من يكون على شان يقول يصير وما يصير؟؟!!"
هل سمعت من قبل مثل هذه العبارة؟، إذن فهذا المقال يهمك.
قد يكون مقبولاً وطبيعياً جداً قبل خمسين سنة من الآن أن ينحصر تمثيل المجتمع في الطبقة الكلاسيكية من الوجهاء سواءاً كانوا علماء دين أو أصحاب حضور وثقل اجتماعي أو أصحاب أموال وغيرهم فهم طبقة نالت ثقة الناس ونالت نفوذاً لحضوتها في قلوبهم. وقد كان مقبولاً جدا ألا يرى عامة الناس أنهم معنيون بمحاولة حلحلة قضايا المجتمع ومعضلاته، ولكن الأمر حتماً لم يعد كذلك. فمع تعقيدات الحياة اليومية مؤخراً أصبح هناك احتياج ماس لتضافر كافة الأطياف والكفاءات والفعاليات لتفكيك أي مشكلة ناشئة ولم تعد الطبقة الكلاسيكية قادرة، وإن لم يكن يعوزها الإخلاص والأمانة والجهد، على الانفراد في التصدي والمعالجة.
لقد نشأت حاجة لمهارات وقدرات جديدة مثل القدرة على مخاطبة الإعلام والكتابة والإحاطة بالجوانب القانونية والنظامية والإلمام باللغات الاجنية والتعامل مع الكمبيوتر والانترنت وفن التواصل مع الآخر المختلف والتعرف على تجارب الشعوب في تنوعها والاطلاع على العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، ولم تعد تنحصر المؤهلات في العلم الديني والثروة المادية والثقل الاجتماعي فقط.
ان المجتمع الذي يريد أن يكون ناضجاً في اختياراته وتلمس مساراته لابد أن يتوفر في المقام الأول على خيارات توضع على الطاولة في مستوى ذلك النضج، ولا بد أن يمتلك أدوات وأساليب وقدرة للتمييز تعين على ذلك الاختيار الناضج وهذا برأيي لا يتم إذا تمت إقالة أو استقالة أكثرية المجتمع عن التفاعل والاهتمام وإيجاد الخطط والاقتراحات واستعراض الخيارات المتاحة وابتكار أساليب التعاطي المختلفة مع أي قضية أو ظاهرة. بل لا بد من انقداح حالة من المخاض الفكري المفتوح تكون بمثابة التنور الذي تخبز فيه تلك الخيارات.
لكن وللأسف فما أن يثور الجدال في المجتمع بخصوص قضية ما، إلا ويستولي الهلع على قلوب الجميع ويرون ذلك نذر فتنة ويسمعونه طبول حرب، ويستشهدون على ذلك بالتجاوزات التي تحصل من تسقيط وهجوم شخصي وننسى أننا بإزاء تجربة وممارسة إنسانية لا بد أن تشوبها الأخطاء وعلينا التعامل ومعالجة تلك الأخطاء بحزم لا أن نسد الباب في وجه تلك التجربة والممارسة ونستريح من تلك الريح ولكن الى حين.
لا بد أن تتوفر حالة عامة من الانفتاح وتقبل الرؤى من الأفراد جميعاً وهذا لا يعني تهميش القيادات والزعامات التقليدية والتشكيك في كفاءتهم ولكن قوى أخرى بل الجميع بلا استثناء يجب أن يشارك في التناول و"زيادة الخير خيرين". فكل شخص قادر على العطاء في حدود مقدرته ونحن اذا طالبنا الطبقة الوجهائية التقليدية بحل مشاكلنا المختلفة فإننا أولاً نحملهم ما لا يطيقون ونعرضهم لارتكاب أخطاء غير مقصودة وخارج حدود طاقتهم، وثانياً ذلك يؤدي إلى صعود من هم ليسوا مؤهلين أصلاً للضلوع بهذا الدور ولكنهم اكتسبوا التفويض تلقائياً بحكم موقعيتهم التي ينظر لها باعتبارها عضواً طبيعياً في الطاقم الوجهائي ولاعباً أساسياً في منتخبهم وليتمتع بعد ذلك بهذا الامتياز طوال العمر، وثالثاً يؤدي ذلك إلى حالة عزوف من يملك القدرة على المساهمة لإدراكه صعوبة اختراق هذه الهرمية، فيحرم المجتمع من آراء نيرة وطاقات كامنة تؤثر الصمت طلباً للسلامة. وعلى العكس من ذلك فانه لو فتح المجال لأصبح هناك مجال للتنافس والتسابق فلا يوجد هناك استحقاق تلقائي ولا شطب مسبق، بل تنافس وتسابق للمصلحة العامة والرأي الأصوب.
وغني عن القول أن المراد هنا هو التعاطي على المستوى الشعبي وصناعة الرأي العام، ولا نعني المستوى الرسمي والذي يتطلب وجود آليات ترشيح وانتخابات ومؤسسات مجتمع مدني وعمل أهلي وهذا ما ليس متوفراً في أغلب دول العالم الثالث. ففي البلدان المتقدمة تجد الديمقراطية هي في المقام الأول عبارة عن جو عام وممارسة شعبية قبل أن تكون مؤسسات رسمية وانتخابات. وما إن تبرز عندهم قضية أو حدث جديد حتى يصاب رأسك بالصداع من كثرة مناقشة الناس له. فما ان تفتح التلفاز أو تدير المذياع أو تلقف الجريدة إلا وترى نقاشاً واختلافاً وتقليباً وقتلاً للآراء حتى في القضايا التي نرى من منظورنا الثقافي أنها تافهة ولا تستحق الهرج والمرج. وهذا لا يعني إهمال دور المؤسسات والقوانين والأنظمة في الدول الغربية والتي تدفع باتجاه وتشجع المشاركة والمناقشة الشعبية الجماعية، ولكن افتقارنا لذلك لا يعني أن نعود لثقافة القبيلة وشيخ القبيلة«الوجهاء».
نختم بكلام رائع وعميق لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله وأيده في كتابه القيم " أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع- المجلد السابع"ص171:«في كل مجتمع قيادات تحظى بثقة أبنائه وتؤثر في توجهاتهم، كعلماء الدين والوجهاء النافذين والزعامات المؤثرة، وحين تكون هذه القيادات في مستوى ناضج من الوعي ورحابة الصدر، فإنها ستتبنى الدعوة إلى الفاعلية والنشاط، وترعى مبادرات العمل الأهلي على مختلف الصعد.
أما إذا كانت قيادات المجتمع تعاني من ضيق الأفق وأنانية التفكير، فإنها ستتحسس من أي مبادرة أو نشاط خوفاً من التأثير على مواقع نفوذها، وقلقاً من بروز قوى جديدة تنافسها على الزعامة والظهور».