حين يكون الوطن أولًا
حين تضمحل ذواتنا أمام الإحساس الحقيقي بأهمية الوطن أولًا، وحين تتلاشى من أذهاننا ظاهرة الحديث الصوتي حال مناقشتنا لأي موضوع، حينها ينعدم الخوف من أي مخاطر يمكن أن تحدق به وبنا؛ لكوننا سنكون أكثر وعيًا، وأعمق إدراكًا، لخبايا ما يمكن أن يُحاك ضدنا؛ وبالتالي سنكون أكثر حرصًا على ترسيخ قيمنا المشتركة، وتعميق ما يعتلج في صدورنا من قواسم نتفق عليها، وفي حينه سنُغلـِّب جانب اللين على الشدة، وحُسن الظن على الشك والريبة، حال مناقشتنا لبعضنا البعض، ووقت معالجة مفاصل خلافاتنا المتنوعة.
ذلك هو المنهج القويم الذي ما فتئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- يحض عليه في كثير من خطاباته وتوجيهاته الأبوية، فالوطن للجميع بحسب قوله، وهو ما يفرض علينا أن ننشد التقارب، وأن نعزز من آليات التعايش بيننا، وننبذ كل ما يؤدي إلى تأصيل الفرقة والخلاف، ولا يتأتى ذلك إلا باحترام ذات وفكر الآخر، والقبول المبدئي بإمكانية صوابه، وهو ما قرره الله قبلا في محكم كتابه العزيز بقوله تعالى: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ظلال مبين﴾ ومارسه الفقهاء الربانيون سلوكًا وقولًا في كثير من مفاصل حياتهم العلمية، وبالتالي فليس لأحد حق الوصاية على أحد انطلاقًا من فوقية مناطقية، أو إيمان فكري باكتناز الصواب المطلق، أو غير ذلك، التي لن يكون من ثمارها إلا الخراب والشتات ونهاية ما ينعم به أي مجتمع من سلم أهلي.
ولسنا بحاجة إلى أن نستجلب -لبيان خطورة ذلك- العديد من الأدلة والبراهين التاريخية، فالشواهد المعاصرة ماثلة أمامنا، ويكفي للمتأمل أن يرى بنظرة فاحصة وسريعة لما يدور حاليا في العراق وبعض الأقطار الأخرى؛ ليدرك نعمة ما نعيشه من أمن وأمان وسلامة واطمئنان.
لكن ذلك في المقابل يحتاج منا إلى شكر ورعاية، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يتلمس أبناء هذا الوطن صغيرهم وكبيرهم، عالمهم ومتعلمهم، لعمق ما يريده والد الجميع خادم الحرمين الشريفين من مقولته الآنفة: «الوطن للجميع».
ما يدعوني إلى الحديث عن ذلك راجع إلى ما لاحظته من تشنج متبادل في الخطاب المجتمعي عند بعض المنتمين للتيارين الدينيين: الاثناعشري والسلفي، جراء زيارة الدكتور الشيخ سعد البريك لأخيه في الدين والوطن الشيخ حسن الصفار، والتقائه بجموع من أهلنا بمحافظة القطيف؛ حيث انبرى لمهاجمة تلك الزيارة العديد من الأصوات من الطرفين، عبر عدد من المقالات المنشورة في المواقع الإلكترونية، وتعرض الشيخين الكريمين لكثير من التشويه والنقد السلبي الذي لا يبني فكرة، ولا يصب في مصلحة وطن، لكون كل أولئك الذين وجهوا سهام نقدهم للشيخين وغيرهم من المؤمنين بثوابت الاعتدال، لم ينظروا إلى الجانب المستقبلي لحياتهم، ولم يتطلعوا إلى ملامح إشراقاته في عيون أبنائهم ومن يأتي من بعدهم، وإنما كان حرصهم على الانكفاء بأنفسهم في إشكالات الماضي، وكأنه دين فرض الله علينا التعبد به، وأوجب علينا أن نحمله على كاهلنا ببجرها وعجرها، وهو ما يثقل من كاهل أي مسيرة إصلاحية تجديدية تنموية، على أني في المقابل لا أدعو إلى إهمال التاريخ وطوي صفحته، لكن في المقابل لا أرى أن الصورة الحالية لقراءته واستجلابه في حياتنا هي الصورة الصحيحة، وأن ذلك هو المنهج الأمثل لدراسته وتقويمه؛ إذ ما أحوجنا إلى إعادة دراسة مفاصل تاريخنا بشكل علمي منهجي بعيدًا عن التوتر؛ حتى نتمكن من تصحيح مساراتنا الحضارية بالشكل الذي تدفع بنا إلى آفاق مستقبل مشرق نرجوه ونتأمله.