شيوخ الصحوة في السعودية.. محطات وتحولات
في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته سطع نجم عدد من الدعاة السعوديين الشباب، الذين حققوا حضورا قويا ومؤثرا في أوساط شعبية واسعة وعريضة، وكان يصدق على كل واحد منهم القول السائر "ملأ الدنيا وشغل الناس"، فهم يتمتعون بذكاء وفطنة، ويمتلكون قدرات عالية في فنون الإلقاء والخطابة والتدريس، كما أن خطابهم الدعوي امتاز عن الخطاب التقليدي السائد هناك، باشتغاله بقضايا الواقع، واشتباكه بالهموم المعاصرة، الأمر الذي أدخلهم في مواجهة مع النظام السعودي على خلفية مواقفهم المعارضة لاستدعاء القوات الأمريكية والاستعانة بها في حرب الخليج الثانية، أفضت بهم إلى الاعتقال والمنع من التدريس والخطابة، وتقييد حرياتهم بالحركة والدعوة والسفر إلى الخارج.
من أبرز أولئك الدعاة الذين عُرفوا باسم "شيوخ الصحوة": سفر الحوالي، وسلمان العودة، وعائض القرني، وناصر العمر، من الطبيعي أن يكون لكل واحد منهم تجربته الخاصة، عبر محطات حياته المتتابعة، لكن ما يميز تجربة الشيخين العودة والقرني، تلك التحولات في عالم الأفكار والرؤى والمواقف، بين مرحلتي التسعينيات من القرن الماضي، ومرحلة العقد الأول من الألفية الثانية، فقد انتقل الشيخان من مواقع التشدد والمواجهة إلى رؤى الاعتدال والمعايشة، وفارقا منهجهما السابق القائم على النقد العلني، والمعارضة الجهرية للسياسات الحكومية، إلى المناصحة سرا إن تيسرت أسبابها، وفي الموقف من الآخر الإسلامي (وخصوصا شيعة السعودية)، فقد أقاما مع رموز الطائفة الشيعية كالشيخ حسن الصفار، جسورا للتواصل والتلاقي والحوار، الأمر الذي كان مرفوضا ومذموما في المرحلة السابقة.
الشيخ عائض القرني كان ضيفا على برنامج "نقطة تحول" الذي تبثه قناة (أم بي سي)، حيث أضاء على جوانب عديدة من فصول تجربته الدعوية، فقد تحدث عن تفاصيل الشهور العشرة التي قضاها في السجن، وعن منعه من التدريس والخطابة والسفر للخارج لمدة عشر سنوات، وعن توسع مداركه، وامتداد آفاقه، وتغير أفكاره، وتنوع قراءاته، كقراءته لشعر نزار قباني، ومسرحيات شكسبير، وديوان الشاعر الإيراني سعد الشيرازي، وعن سماحه لبناته بمشاهدة ومتابعة برامج قناة (أم بي سي)، وعدم ممانعته لذلك..
في تجربة الشيخ عائض قد تكون مرحلة السجن، هي بداية التحول والانتقال في عالم الأفكار والرؤى والمواقف، فهو يتحدث عنها بصفتها المحطة التي مهدت لتغيير منهجيته ومجرى حياته فيما بعد، فقد قدم خلاصة تجربته تلك ذاكرا ما خرج به من أفكار ورؤى جديدة، "أولاً: لا بد أن نعذر الناس ونفهم حجتهم. الأمر الثاني: لا يجب أن يعتقد الإنسان أن الناس متآمرون عليه ومتربصون به. ثالثاً: إننا إذا قرأنا الثقافات المختلفة ازدادت مداركنا، "وقل ربِّ زدني علماً" فعلينا أن نوسع عقولنا، أن نقبل الحوار، أدركت أننا يجب أن ننظر في العفو، وكتبت في كتاب "لا تحزن" عن "العفو العام" إنني لا أحقد على من سجنني، ومن أساء إليَّ".
بخصوص تجديد خطابه الدعوي، أشار الشيخ القرني إلى أنه يواجه بالرفض من شيوخ ورموز المؤسسة الدينية، قائلا إنه: "إذا كتبت مقالاً أو رأياًَ فيه شيء من التجديد أو تطور في الرأي، أواجه بالرفض من بعض أصحابي، في المؤسسة الدينية، ومن بعض الكتاب المخالفين، الذين إن بقينا على رأينا قالوا إننا نحمل التطرف والإرهاب، وإن رجعنا قالوا تَلَبَّسْنا أثواباً جديدة، وغَيَّرْنا جلودنا للمصالح"!!
وحول ما يقال ويشاع أن ثمة صفقة سياسية أدّت إلى شراء ذمم القرني وآخرين، فغيروا مواقفهم السياسية المتشددة، وأصبحوا الآن تحت عباءة الدولة والسلطان، أو كما يطلق عليهم "فقهاء السلطان"، قال القرني: "لا يوجد مسؤول في الدولة اشترى ذممنا، وأنا أقول من هذا المنبر: ما اشترى ذمتي أحد، وأنا أقول كلمة الحق، لكن كلمة الحق التي أقولها الآن هي بالحكمة التي طالبنا بها الله عز وجل، كنا نعرض الأمر على المنابر يوم الجمعة، وكنا ننقد الدولة في خطب الجمعة، ولما قرأت كلام العلماء علمت أن هذا ليس صحيحا، فهذا تشهير وتجريح.."
تجربة الشيخ القرني كشخصية دعوية عامة، تستحق التأمل والتحليل والنقد والمراجعة، وهي تكشف عن مدى تسرع كثير من الشباب المسلم، لتصدر العمل الدعوي العام، وتبوُّء مقاعد قيادية وتوجيهية في صفوفه، مع قصر التجربة، وضحالة المعرفة، وفجاجة الممارسة، كما تُظهر أن بعض الأوساط الدعوية لا تعبأ بدراسة تجارب دعوية سابقة في تقدمها وريادتها، للاستفادة منها، وتجنب الوقوع في عثراتها وأخطائها، وكأن لسان حال أولئك يقول إنه لا يمكن الانتفاع بقانون السُّننية، والنظر في تجارب السابقين، إلا بأن يخوض كل شخص التجربة بنفسه، ليكتشف أخطاءه، ومواضع عثراته، ولتكن بعدها التحولات والتراجعات والمراجعات المفتوحة على كل الاتجاهات.