ضرورة التعايش.. مجتمع بلا متطرفين
هناك استشعار من الجميع لخطورة أن تمتد ثقافة الكراهية إلى الواقع، من قبل كان المتمذهبون يتخذون موقف الدفاع أما اليوم، فقد أدرك كل فريق أن التطرف لن يضر الآخر المختلف، بل سيلحق الضرر بالذات أولاً عندما طرح مصطفى الشكعة كتابه (إسلام بلا مذاهب) كان يهدف إلى نزع فتيل الاختلاف، وتعزيز فرضية: أن الاتفاق شرط الاتحاد. هذا الاتحاد لا يتحقق في تقديره إلا بالاتفاق على الإسلام في صورته الأولى، إسلام عصر الرسالة، فإذا اتفق عليه المسلمون؛ فسيتحقق الاتحاد (= الحلم المستحيل)؛ ويصبح المسلمون أمة واحدة في عقل واحد وجسد واحد. وهنا كما يتصور تتحقق الآمال، وتتلاشى مُزمنات التخلف، وتتوالى الانتصارات، وتنتهي مشاكل أمة الإسلام.
ربما كان الشكعة في طرحه رومانسيا حالما أو يكاد. لقد أقام رؤيته على فرضية ساذجة موهومة، وهي أن حالة: التنوع والاختلاف والتباين، حالة سلبية، وأنها هي بذاتها مصدر الخلل في واقع المسلمين. والأشد وهماً وسذاجة، أنه تصور أن هناك إمكانية واقعية للاتفاق على تفاصيل ما هو الإسلام في صورته الأولى. وكأن كل مذهب لا يتصور جازما بأقصى درجات اليقين أنه يتطابق تماما مع حقيقة الإسلام، تلك الحقيقة التي تختلف تفاصيلها عند المختلفين طائفيا ومذهبيا، ولا يمكن الاتفاق عليها بحال من الأحوال.
لا شك أن مثل هذا الطرح لا يلتفت إلى بؤرة التأزم، أي إلى أن المشكلة ليست في الاختلاف ولا في تعدد المذاهب وتباين الطوائف، وإنما هي في التطرف الذي تتعاطى به كل فرقة مع تراثها، أي في طريقة فهم وتوظيف المتعصبين المتطرفين لتراث المذهب أو الطائفة؛ ليصلوا من وراء ذاك إلى توظيف أتباع المذاهب والطوائف لأهدافهم الخاصة المتمثلة اليوم في الشهرة والزعامة والمال.
إذن، المشكلة ليست في الاختلاف من حيث هو حالة واقعة، وإنما هي في الطريقة التي يتم التعامل بها مع هذا الاختلاف فالاختلاف لن ينتهي ولن يضمحل، بل سيبقى ما بقي الإنسان متلبسا بإنسانيته. لن تنتهي المشكلة أبدا، فلو تراجع اختلاف المذاهب؛ فسيبقى اختلاف الطوائف، ولو تراجع هذان؛ فسيبقى اختلاف الأديان. الاختلاف باقٍ، وأياً كان موقفنا منه، سواء رأيناه: صحة وثراء أو تصورناه: مرضاً واختلالا، فإن الحل الوحيد أمامنا هو اجتراح طريقة للتعايش معه كوجود متعين في واقعنا، أي كجزء من وجودنا، لا يسعنا جهله ولا تجاهله، فضلا عن الدخول معه في صراع.
لابد من إدراك أنه لن يتحقق لنا التعايش السلمي في مجتمع واحد إلا بعد أن ندخل في جديلة التعايش على مستوى الفكر. لابد من وضع مقدمات فكرية للحراك في هذا المضمار الذي يحدد مستقبل الجميع. وفي تقديري، يمكن أن تكون الخطوات الأولى لمثل هذا الحراك على النحو التالي:
1- تعزيز مفهوم: أن الأوطان فضاءات جغرافية لمستوطنيها جميعا، وليست ملكا لأحد. وهذا ما أكدنا عليه تفصيلا في المقالين السابقين.
2- تعزيز المفاهيم الإنسانية، وأن تكون هي المشترك الأساس لأي تعامل في هذا الفضاء الجغرافي، فنحن قبل كل شيء: تجمعات بشرية، نعيش وجودنا البشري أولا. أما الاختلاف في الدين أو الطائفة أو المذهب فهو اختلاف له اعتباره في السياق الديني الخاص بكل فرقة من فرق التمايز والاختلاف. لكن، لا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مبرِّرَ كراهية، فضلا أن يكون مبررَ عداء.
في المجتمعات اللاإنسانية، أو التي لم تنضج بعد إنسانيا، تُنتهك حرمات الإنسان بمبررات مذهبية أو دينية أو عرقية. في مثل هذه المجتمعات، ينظر الإنسان إلى الإنسان الآخر المقابل / المختلف من خلال دينه الخاص أو مذهبه الخاص؛ فتصبح القيمة الإنسانية مرهونة بمدى القرب أو البعد من القناعات الفكرية / الدينية للأنا. وحينئذٍ، لا يحترم الإنسانُ الإنسانَ إلا من كان على دينه أو على مذهبه أو على تياره الفكري الخاص. أما الآخرون فإنسانيتهم مُعرّضة للانتهاك؛ لمجرد الاختلاف.
وفي هذا السياق، لابد من إدراك أن الوعي بالإنسان، من حيث هو إنسان، كُلٌّ لا يتجزأ. من الضروري الوعي بالإنسان بوصفه (وحدة) لها طابعها الكلي الشمولي، إذ لا يمكن أن أحترم الإنسان المختلف معي في المذهب مثلا لمجرد كونه مواطنا، بينما أمارس انتهاك إنسانية الآخرين لمجرد كونهم غير مواطنين. لا يمكن أن أكون إنسانيا إذ أحترم الإنسان ممثلا في مَن يمتلك النفوذ والجاه والمال، بينما أتعامل في الوقت نفسه مع سائقي الخاص بقاموس من الإهانات، لمجرد كونه لا يملك إزائي ضرا ولا نفعا. ضرورة الوعي بالإنسان تؤكد أن الإنسان: إما أن يوجد في وعينا كإنسان، أو هو في الحقيقة غائب، ولا يحضر إلا كشعار زائف.
3- في أي مجتمع، تبدو الأكثرية وكأنها ليست بحاجة إلى ترسيخ قيم المجتمع المدني المُعززة للتساوي في الحقوق، أو على نحو أدق تبدو وكأنها ليست الأحوج إلى هذا التعايش المدني. الأكثرية غير الواعية تتصور أن مهمة ترسيخ هذا المجتمع المدني الواحد، هي مهمة الأقلية التي تبحث عن مساواتها بالأكثرية ذات النفوذ، فهي في تصورها المتضررة، ويجب عليها البحث بنفسها عن كل ما يكفل لها حقوقها. وهذا بلا شك فهم قاصر عن تصور طبيعة الوجود المجتمعي، وعجز عن إدراك أن أي خلل أو اضطراب في مجتمع ما، سيكون مضرا بالأكثرية قبل الأقليات؛ لأنهم الأكثر حضورا على خطوط التماس فيه.
من هنا، فإني أرى أن مهمة تعزيز مجتمعات المواطنة، مهمة منوطة بالأكثرية بالدرجة الأولى. صحيح، أن الأقليات لابد أن تتخذ خطوات التعريف الأولى. لكنّ، تفعيل رؤى التعايش المدني هو مهمة الأكثرية أولاً؛ لأنها في الغالب الأقدر على الفعل، بل لا يمكن تحقيق شيء ذي اعتبار إلا من خلالها. ولهذا رأينا المسلمين في الهند، وهم أقلية، يحظون بمكانة تتجاوز نسبتهم في الواقع في سياق تعايش سلمي مدني. وبطبيعة الحال، فهذا لم يكن ليحدث؛ لولا أن الأكثرية الهندوسية كانت واعية بأهمية أن يكون التسامح سيد الموقف، وأن تكون الأولوية للإنجاز، وليست لانتماءات خارج مفهوم الوطن؛ كوجود مدني محايد.
4- لابد من الابتعاد عن المُهيّجات المذهبية والطائفية المتمثلة في مناظرات المتعصبين التي تجري على قنوات الاستغلال والاستغفال. فهذه القنوات الفضائية (المستغلة) التي لا تجد لها مجالا للحضور؛ إذ لا تمتلك أية إمكانية مادية أو فنية، بل لا تمتلك غير غرفة بث واحدة، تحاول استقطاب جماهير المتعصبين المغفلين بافتعال حوارات مذهبية وطائفية، تستحضر بواسطتها عفن التاريخ؛ لتؤجج الصراع من جديد؛ فتكسب بحجم اتساع مساحة التغفيل لدى جماهير المغفلين. وإذا تحقق لهذه القنوات الفضائية (المستغلة) ذلك، فلا يهمها أن تتفتت الأوطان، ولا أن تتحاقد طوائف الوطن الواحد؛ ما دام هذا يجني لها من المال ما تعيش به ترفها الباذخ هناك: في بلد الضباب!.
لقد أثبتت المناظرات المذهبية والطائفية على مر العصور أنها لا تغير شيئا من القناعات, بل هي تزيد من اشتعال الاحتقان، وترفع حدة التوتر بين جميع الأطراف. وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ: حسن الصفار في كتابه (الطائفية بين السياسة والدين)، فهو مقتنع بعدم جدوى مثل هذه المناظرات، وأن حل الإشكاليات الطائفية يتحدد في طريق: ترسيخ قيم التعايش؛ رغم وجود الاختلاف.
5- ضرورة النقد الذاتي. فإذا كنت أوافق الشيخ: الصفار على أن المناظرات المذهبية لا تجدي، فإنني في الوقت نفسه أرى ضرورة النقد الذاتي داخل كل طائفة وكل مذهب. إن المناظرات بطبيعتها تستحضر بُعداً سيكيولوجياً تغيب معه المعرفة، وتتجلى فيه ذهنية الصراع. وهنا يصبح المُناظر المعرفي ليس معرفيا، بل مجرد مُحامٍ يترافع عن المذهب أو الطائفة التي رشحته للدفاع عنها، وبهذا تصبح مسألة الربح والخسارة في مثل هذه المناظرات ليست تحولا لصالح الحقيقة التي لا يبحث عنها أحد من المتناظرين (فكلهم على يقين من صحة مذهبه)، وإنما هي لصالح الانتصار الذي يمنح المحامي مزيدا من التقدير والاعتبار.
إن الهجوم على أي مذهب أو أية منظومة فكرية من خارجها، يجعلها في وضعية: دفاع. وهذا سبب عدم تأثير كتب الردود الدينية والمذهبية رغم أنها تُعدّ بالآلاف. لكن، عندما يتم الحديث من الداخل، عندما يبدأ كل فريق بتشخيص أمراضه وعلله المزمنة، عندما تتم المراجعات والتراجعات تحت ضغط البحث عن الحقيقة، وليس تحت ضغط الضربات المُوجّهة في حلبات الصراع؛ حينئذٍ يمكن أن يعاين كل فريق ذاته بدون هاجس أنه قد يصبح غنيمة لغزوات الآخرين.
لا يمكن إرساء قيم التعايش بمجرد الإحالة على منظومة القيم المدنية، دون اعتبار لما يحمله التراث الديني (وهو المحرك للسلوك اليومي) لدى كل طائفة من تشريع لروح العداء. كيف أتعايش بذهنية التسامح المدني مع المختلف معي مذهبيا وأنا مؤمن بتراثٍ مذهبي خاص، يجعل عقيدتي لا تكتمل إلا بأن أحمل نحو الآخرين مشاعر الحقد والعداء؟ وكما يقول المفكر اللبناني: علي حرب، في كتابه الاستلاب والارتداد ص 113: "العلاقة بين السنة والشيعة تقدم مثالا على ذلك، لأنه لو أخذنا بالنصوص الأصول لكل من الفريقين، كنصوص ابن تيمية لدى السنة ونصوص ابن بابوية لدى الشيعة، لاقتضى الأمر أن يكفر أو يبدع بعض المسلمين بعضهم الآخر، بإخراجهم من دائرة الإيمان والإسلام". وهذا يؤكد أن السلام المدني، ورغم مرجعيته المدنية لا يتأسس إلا على خلفيات فكرية ذات طابع نقدي، بحيث تُمارس القراءات الفكرية النقدية تعرية ثقافة الكراهية التي أصبحت كحقول الألغام في عقول الأتباع البؤساء.
لقد أدرك كثيرون أهمية هذا المحور (= النقد الذاتي) في تخفيف حدة التعصب. هناك استشعار من الجميع لخطورة أن تمتد ثقافة الكراهية إلى الواقع. من قبل كان المتمذهبون يتخذون موقف الدفاع أما اليوم، فقد أدرك كل فريق أن التطرف لن يضر الآخر المختلف، بل سيلحق الضرر بالذات أولاً. لهذا، وجدنا أحد رموز الاعتدال، وهو الشيخ: حسن الصفار يقول في كتابه (الطائفية بين السياسة والدين) ص 128: " في هذا الوقت نجد انبعاثا لتيار سلفي شيعي، يركز على قضايا الخلاف ويضخمها، ويجدد طروحات الغلو والمبالغة في بعض القضايا الولائية والشعائرية، مما يربك الساحة الشيعية الداخلية، ويقدم صورة منفرة عن المذهب للآخرين ".
وبينما يمارس الشيخ: الصفار هذا النقد الذاتي النابع من الاعتدال، كما يمارسه بجذرية يحيى محمد في كتابه (مشكلة الحديث)، نجد الشيخ: رائد السمهوري في كتابه الصادر حديثا: (نقد الخطاب السلفي) يمارس دورا موازيا من قبل التيار السني، فضلا عن نقدية كل من: حمادي ذويب في كتابه: (السنة بين الأصول والتاريخ) ومحمد حمزة في كتابه: (الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث) وهما من أجمل ما يجب أن يُقرأ في هذا المضمار. والقائمة تطول؛ لتؤكد لنا أننا على بداية زمن جديد لا مكان فيه للمتطرفين.