الوطن .. حوار الاختلاف وتعايش الشركاء
الأمميون يتصورون أن نفيهم الذهني للوطن ينفي ارتباطهم به في عالم الواقع ، كما أن الذين لا يزالون يربطون مفهوم المواطنة بالدين أو المذهب أو العرق هم أمميون بالضرورة ؛ وإن كانوا لا يقبلون باستحقاقات المنطق الأممي ، أي أن يشاركهم كل أبناء دينهم/ مذهبهم مساحة الفضاء الجغرافي لوطنهم ، بما يتبع ذلك من حقوق وواجبات ؛ فالمصريون أو السعوديون أو الأردنيون مثلا ، ومهما توهّجت عواطف التسنن لديهم ، لا يقبلون أن يصبح كل سنيّ مواطنا لديهم ؛ لمجرد كونه سنياً ، كما لا يقبل الإيرانيون ، مهما رفعوا من الشعارات المذهبية ، ومهما أكدوا على هوية التشيع ، أن يصبح كل جعفريّ مواطنا إيرانيا . ومصر التي يناهز عدد مواطنيها من المسيحيين عشرة ملايين ، تعد هؤلاء مواطنين بلا تفريق بينهم وبين المسلمين ؛ رغم نص الدستور صراحة على أن دين الدولة الرسمي هو : الإسلام . فهذا النص لا يعني منح أيَّ مسلم الجنسية المصرية ، كما لا يعني حرمان من ليس مسلما منها .
بهذا نرى أن الوطن وإن تحدد بهوية دينية أو مذهبية كهوية عامة ، إلا أن المواطنة الكاملة لا علاقة لها بهذا التحديد الذي يُمثّل إضافة على الوجود الأصلي للوطن (= الوجود المادي) . كما أن تحديد الدين أو المذهب كهوية إضافية عامة ، لا يستلزم منه أن يتم وضع تراتبية للمواطنة على أساس من الدين الرسمي أو المذهب الرسمي . ليس هذا الارتباط لازماً كما يتوهم كثيرون ؛ إلا في حال استتبع ذلك التحديد العام انغماس أعمى في تأويلات ماضوية مُتشرنقة بتهويمات الأقدمين ، بحيث يُضطرّ المُشرّع القانوني إلى أن يتجاهل كل أنواع التطورات الحقوقية الإنسانية التي صنعها العصر الحديث ، والمرتبطة وجودياً بالبعد المدني للوطن .
إذن ، هناك نوع من الفصام ، يعيشه الإنسان التقليدي ، نتيجة تشكّل وعيه برُؤى أممية عائمة ، مدعومة بتشريع (نظري) أممي يستحيل تفعيله في الواقع ، بل الواقع يفرض التشريع النقيض . ولهذا أكاد أجزم أن تأزمات بل وانتهاكات مفهوم المواطنة في العالمين : العربي والإسلامي ، نابعة من عدم القدرة على تجاوز هذا الفصام ، أي من عدم القدرة على الفصل بين عالم الأفكار والمعتقدات والمشاعر من جهة (وهو العالم الذي لا وجود له في الواقع ؛ من حيث المفاصلة المواطنية على أساسه) ، وبين عالم الأوطان ذي الوجود المادي الذي يلاحق كل تفاصيل حياة الإنسان المعاصر بقوانين وأنظمة تفصيلية نابعة من هوية مدنية الوطن ، من جهة أخرى .
لقد نتج عن هذا الالتباس في الوعي التقليدي : أن الإنسان الأممي لم يظفر بأمميته ، على الأقل بالدرجة التي يتمناها ، وفي الوقت نفسه ، خسر وطنه القُطري ؛ عن طريق تذويبه في فضاءات الأممية ، وعن طريق تفتيته وتوزيعه على مفاصل الانتماءات الدينية والمذهبية من جهة أخرى فلم يعد الوطن وحدة فاعلة بذاتها ولذاتها ، وإنما أصبح مجرد قاعدة انطلاق لتدعيم الانتماء الإيديولوجي أو العرقي ، أي مجرد : (جسر) تعبر عليه الإيديولوجيات والأعراق والتحزبات الضيقة إلى الفضاء الأممي الموعود أو إلى الفضاء العرقي الموهوم .
إن التعاطي مع الوطن على هذا النحو ، يعني توظيف الوطن لجعله ميدانا لمهام (ما قبل وطنية) تنتهك الشرط المدني للوطن ، وهو الشرط الجوهري الذي لا وطن بدونه . ولهذا لابد أن ينتهي هذا التوظيف اللامدني بعدوان على الوطن ؛ بمجرد الاعتداء على مفهومه الأساس كوحدة مدنية . وهذا ما نراه واضحا في الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية داخل الوطن الواحد ، أو بالتجاذبات الإيديولوجية العابرة للأوطان ؛ لأن كل واحدة من هذه الانتماءات لا تعي مدنية الوجود الوطني فضلا عن أن تستوعبها ، بل لا تتصور الوطن إلا محصورا في حدود انتمائها الخاص . وهنا نجدها تختصر الوطن بذاتها الخاصة ، بهويتها الضيقة ؛ ليصبح (الآخرون = المواطنون) مجرد هوامش . وحينئذٍ ؛ يصبح من الطبيعي أن يتم التعامل معهم كمواطنين غير مواطنين ! ، أي كمواطنين بقوة النظام ، ولكنهم في الوعي الديني أو الوعي المذهبي الخاص ، غير مواطنين ! .
وإذا كان الوعي الديني أو الوعي المذهبي الخاص ، ذا زخم وقدرة على الفعل الواقعي ، وعلى التحكم بقبضة كهنوتية فولاذية بكل تفاصيل السلوك المدني اليومي ، فإنه بهذا يسلب بالشمال كل ما تمنحه الأنظمة والقوانين باليمين . فرغم قدرة الأنظمة والقوانين إذا ما كانت عادلة على توفير الحدود الدنيا من العدالة للجميع ، إلا أنها تتعرض للشلل الجزئي أو الكلي في حال وجود زخم ثقافي مقاوم لها . وهذا يعني أن مفهوم المواطنة المتساوية لا تكفي فيه الأنظمة والقوانين وحدها ، وإنما لابد من طروحات ثقافية إنسانية ذات قدرة على تحديد مسارات الوعي العام ؛ بحيث تدعم فاعلية هذه القوانين من جهة ، وتمارس مراجعتها وتعديلها على ضوء أحدث مفاهيم المواطنة من جهة أخرى .
لهذا نجد أن العالم الغربي المتحضر يكافح ثقافيا وباستمرار ؛ لتعزيز مفاهيم المواطنة المتساوية ، ولترسيخ قيم الإنسان أيضا ؛ رغم أن قوانينه ونظمه تنصّان على المساواة وعلى العدالة وعلى حفظ حقوق الإنسان على كل المستويات . الغرب يفعل ذلك ، رغم أن ثقافته العامة قد تأنسنت في خطوطها العامة منذ زمن طويل ، واحتمال أن تخترق الأهواء اللامدنية المتحيزة نظام القوانين الصارم يبقى احتمالا ضئيلا . يفعل الغرب ذلك ؛ لأنه يدرك بعمق أن القوانين ، وإن كانت مستقرة و واضحة ويمكن التحكم بها ، فإن الثقافة ذات وجود مُتموّج ومُتحوّل ، وهي عُرضة للوقوع تحت تأثيرات البدائيين ؛ لأنه يعي أن الحضارة رغم كل الجهود والتطورات لا زالت قشرة على السطح الإنساني ، ولا زال الإنسان بحاجة إلى مزيد من الحقْن المتواصل بخطابات الأنسنة ؛ من أجل الحفاظ على الإنسان داخل الإنسان .
وبينما يقلق الغرب الذي قطع خطوات طويلة في طريق ترسيخ قيم العدالة ثقافةً وقوانين ، نجد مع الأسى والأسف أن العالمين : العربي والإسلامي ، لا زالت أقطارهما لم تطرح بعدُ خطاب الحقوق بقوة ؛ رغم أنها (= الأقطار/ الأوطان ) أحوج إليها من الغرب الذي سنّ كثيرا من القوانين وقطع كثيرا من الأشواط في هذا المضمار . لا زال مفهوم المواطنة ، كقاعدة أولى للمساواة ، غير مطروح بالقوة التي تُوازي حجم العداء والتباغض والاحتقان الموجود داخل كل قُطر/ وطن من هذه الأقطار/الأوطان في عالميْ : العروبة والإسلام .
وبطبيعة الحال ، لا تخلو الساحة من محاولات ؛ لأن الإحساس بالمسؤولية لن يعدم بالكامل . فعلى المستوى المحلي ، قام الحوار الوطني بدور لا بأس به ، وخاصة في بداياته ؛ من أجل كسر الحواجز النفسية والثقافية ، الحقيقية والوهمية ، بين أبناء الوطن الواحد ؛ حتى لا يكون ثمة تمييز أو تهميش قانوني أو ثقافي على أسس مذهبية أو مناطقية أو عشائرية . فالراسخون في الوعي بالمواطنة يدركون أن أي تمييز لهذا الطرف أو أي تهميش لذاك الطرف ، هو سلوك ينتهك الوطن ، بانتهاكه مفهوم المواطنية القائم على أساس المساواة المدنية بين جميع المواطنين .
لكن ، ومع محورية ما قام به الحوار الوطني ، إلا أن الخطوة الأهم ، هي ما يقدمه الحراك المدني من تفعيل في هذا الاتجاه ؛ لأنه يعطي انطباعا أنه توجّه نابع من قناعات داخلية عند أغلبية المختلفين . فرغم أهمية الفعالية الرسمية ، وما تحمله من دلالات رمزية ، إلا أن هناك انطباعا ما ، غالبا ما يتسرب إلى الوعي العام ، وهو أن هذه الفعاليات لا تُمثّل إلا توجهات نخبة خاصة تتفاعل مع فضائها النخبوي الخاص . بينما الحراك المدني التلقائي يظهر وكأنه بداية تغيرات حقيقية في ثقافة المُختلفين الذين يظهرون وكأنهم يتحركون بمحض إرادتهم ، ووفق ما تتطلبه مصالح الجماهير.
لهذا ، كُنّا في انتظار المبادرات الأهلية الخارجة من رحم المجتمع المدني ، وخاصة تلك التي يشارك فيها رموز المذاهب والطوائف والتيارات ؛ لأن الرموز بما لها من ثقل تاريخي ، هي القادرة على تذويب جبل الجليد التاريخي من النفور والازورار والعداء . صحيح أنه كانت هناك مبادرات فردية ومحدودة لها أهميتها في سياقها ، كما كانت هناك بعض الفعاليات ذات النفس الموسمي . لكن ، لم يكن حجم التفاعل يرقى إلى المستوى المأمول ؛ لمحدودية الإمكانات المادية والبشرية التي لا تتحرك هذه الفعاليات ذات الهمّ الوطني إلا بها .
مؤخرا ، ظهرت بعض الفعاليات الكبرى ؛ مما يؤكد على تنامي الوعي بمسؤولية تعزيز مفهوم المواطنة عند جميع أطياف هذا الوطن . ففي محافظة القطيف ، عَقد (منتدى حوار الحضارات) الذي تأسس مؤخرا برعاية الأستاذ: فؤاد نصرالله ، لقاء وطنيا كبيرا بعنوان (التعايش ووحدة الوطن) في يوم الأربعاء 24 مارس2010م وقد حضره أكثر من سبعمائة مُهتم ، مابين مثقفين وشيوخ ونشطاء في مجال دعم وتطوير الفعل الاجتماعي . وتتجلى أهمية هذا اللقاء في كونه لقاء وطنيا شاملا ، ضم عددا كبيرا من الشخصيات التي لا تحدها إلا حدود الوطن . لقد كان ضيوف اللقاء من أطياف متنوعة ، فمن كل المذاهب ومن كل الاتجاهات ومن كل المناطق ومن كل التيارات حضر من يرى أن كل هذه الانتماءات مشروطة ، ولابد أن تكون تحت سقف الوطن الواحد (الوطن المدني الذي يتعامل مع المواطن مجردا من كل إضافة تزيد على صفة المدنية : مواطن) أي تحت سقف المساواة المواطنية ، تلك المساواة التي لا تتأسس على القوانين وحدها ، بل لابد أن تُدعم بخطاب ثقافي متسامح ، يصدر عن الجميع ويستهلكه الجميع .
وإذ حتّمت علي ظروفي الاعتذار عن تلبية الدعوة الكريمة لحضور هذا اللقاء ، فقد سعدت بالاطلاع على كثير من فعالياته ، وقراءة كثير من الكلمات التي ألقيت فيه . وقد اتضح لي أنها في مجملها مهمومة بترسيخ قيم التسامح والإخاء بين أبناء هذا الوطن . لقد كان واضحا أن معظم المشاركين يعون بعمق خطر القطيعة التي تجري بين أبناء الوطن الواحد لأسباب مذهبية أو طائفية أو مناطقية ، ويدركون أن التسامح بين الجميع هو في مُؤداه النهائي لصالح الجميع . كان واضحاً أن لدى الجميع إحساساً وحدوياً بأن الوطن (سفينة شراكة) وأن صراع الشركاء ، أو حتى عدم تعاونهم إيجابيا ، سيُعرّض الوطن / السفينة لكثير من الأخطار التي قد يصعب التحكم بها إذا ما تمكنت من الاستشراء بفعل زخم خطاب الكراهية والعداء .
لقد تم طرح كثير من الأفكار المحورية في تعزيز مفهوم التسامح . وكل منها يحتاج لموضوع خاص . لكن ، ربما كانت الجملة التي قالها الأستاذ : فؤاد نصر الله : " التعايش السلمي فريضة واجبة " ، هي الغاية التي يتمناها الجميع . ومع هذا يبقى السؤال الأهم ، السؤال الذي يصدر عنها كشعار ، وهو : كيف نتمكن من إقناع أولئك الأتباع السذج المشحونين بخطابات الكراهية ، والمسعورين بروح العداء ، أن التعايش السلمي فريضة غائبة ؛ بعد أن أقنعهم (النازيون الجدد) بأن الشحن بخطاب الكراهية والعداء والاحتراب فريضة حاضرة ؟ . هنا تكمن الأزمة ، وهذا هو مجال الكلام ومجال الفعل أيضا .
من جهته ألمح سماحة الشيخ :حسن الصفار ، إلى أن هناك مشاريع تدعم هذا الجانب التسامحي ، ولكنها لازالت بعيدة عن الواقع ، ولهذا أوصى بأن نلتف حول مشاريع الإصلاح، ونصرّ على تحويلها إلى واقع فعلي ، وأن لا تبقى مجرد شعارات . والشيخ : الصفار بهذا التأكيد على أهمية التفعيل الواقعي لمشاريع الإصلاح ، يطمح في مد مساحة القناعة من حيزها التنظيري النخبوي الضيق ، إلى رحابة الوعي الجماهيري العام ، الذي لا يتأثر بشيء قدر ما يتأثر بما يراه حياً في واقعه ، وأن مجرد رفع الشعارات لا يغني عن الواقع شيئا .
قد يتوهم بعض المنتمين إلى هذا المذهب أو ذاك ، أن التعايش السلمي بواسطة مفهوم المواطنة المدنية يعني التنازل عن أساسيات عقائدية . وهذا الوهم في تقديري هو سبب تردد بعض الشخصيات وإحجامها عن الدخول في ثقافة الحوار والسلم الاجتماعي . وهذا وهم بلا شك . فلم يطرح أي أحد في هذا اللقاء التسامحي أو اللقاءات الأخرى ، مسألة إجراء تغييرات عقائدية أو حتى فقهية أساسية بل على العكس أكد كثيرون أن ما يطلبونه هو التعايش رغم بقاء الاختلاف ، وأن المشكلة ليست في الاختلاف الواقع ، وإنما هي في التسلط ومحاولة فرض الرؤى الخاصة على الجميع . ولقد قال الشيخ : فهد أبو العصاري في هذا اللقاء : " لا سبيل لعاقل تجرد من نزعة التسلط , إلا أن يقبل الناس كما هم دون اقتراح أو إملاء. وإذا فرض الواقع علينا زمرا لا نحبها, فلعل ذلك ابتلاء من الله سبحانه ينظر لنا أنعدل فيهم أم يجرمنا شنآن قوم على غير ذلك " .
إذن ، فرغم أهمية المحبة ، إلا أنها ليست شرطا أساسيا ، فالمهم أن لا تكون هناك كراهية تمنع من الإنصاف . إن الإنصاف / العدل النابع من الاعتقاد الحقيقي بالمساواة والشراكة الوطنية هو المهم في السياق الوطني المدني . وهكذا ، إن لم يكن ثمة محبة ، فعلى الأقل ، حياد عاطفي ، يسمح للحياة بأن تسير بسلام ، ويسمح لعدالة القوانين بأن تأخذ حقها الطبيعي من الفعل في الواقع دونما عقبات .
لقد كانت هناك كلمات كثيرة معبرة ، وكلها تعي أبعاد المشكلة أو بعضاً منها على الأقل ، كما تدرك في الوقت نفسه أن الطريق إلى تأسيس ثقافة التعايش طريق طويل ، ولكنه يبدأ بمثل هذه الحوارات التي أدرك الجميع أهميتها ، والتي بقدر ما تدعم هدفها الأساس : السلم الاجتماعي على مستوى العلاقة بين المختلفين ، فهي تمارس تعزيزا مباشرا وغير مباشر لمنهج الاعتدال المأمول ، وهو المنهج الذي بمجرد ما يروج في الواقع ؛ سيحدّ بالضرورة من غلواء التطرف عند كل فريق ؛ ليصبح التطرف والتشدد مجرد استثناء .