العلاقة مع الآخر من التنظير إلى التطبيق
قرأت ما تناوله سماحة الشيخ محمد الصفار في مقاله الأخير المعنون بـ «العلاقة مع الآخر من الثقافة إلى المبادرة» الذي نشرته صحيفة «الوسط» البحرينية الغراء يوم الإثنين الموافق: 15 مارس/ آذار 2010 والذي تناول فيه مشروع الوحدة والعلاقة مع الآخر، الذي تبناه سماحة الشيخ حسن الصفار ومجموعة من النشطاء والمثقفين في السعودية من أجل بناء المجتمع وتعزيز موقعيته الوطنية، وذلك منذُ أمد ليس بالقصير مع ما شاب هذا المشروع من غمز ولمز واتهام بالتنازل، في ظل النقلة الجميلة التي يعيشها المجتمع السعودي في العمل على تطبيق مفاهيم العلاقة مع الآخر والتأكيد على المبادرة في ذلك.
في البداية أشكر الشيخ محمد الصفار على هذهِ اللفتة المهمة التي تناولها في مقاله لما لها من الآثار الطيبة على مستقبل الوحدة والتعايش مع الآخر في المملكة العربية السعودية والعالم العربي بشكل عام.
من المؤكد أن ماكينة التعايش والوحدة مع الآخر خصوصا بين السنة والشيعة تسير ضمن المعطيات المكتسبة التي يتبناها كل طرف، وفقا للأهداف الدينية والوطنية النبيلة التي يجب السعي والنضال في سبيل تحقيقها ونقلها من التنظير إلى التطبيق، وليس من المنطق الوصول إلى التعايش مع الآخر والتأكيد على احترامه في ظل التفرد بالرأي وحتمية الإساءة له ولرموزه أو اتهامه في دينه وانتمائه، كما أشار إلى ذلك المفكر السعودي الأستاذ محمد محفوظ في مقاله الجميل الذي جاء بعنوان «من الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية «حيث يقول فيما جاء فيه: وإن النواة الأولى لتعميق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع إرثه التاريخي متعدد، هو تعميق الوحدة الشعورية لدى أبناء الوطن الواحد. حيث أن وحدة الشعور هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية. لهذا ينبغي الاهتمام الجاد بمسائل احترام شعور الآخرين، وعدم العمل على استفزازهم والاستهزاء بمشاعرهم. لأن هذا الاستفزاز والاستهزاء هو الذي يؤلب النفوس، ويعمق الأحقاد، ويبني حواجز سميكة تمنع التلاقي والتعايش المشترك.
والخصوصية المذهبية لا تقبل المساومة وهذا ما يؤكد عليه العلماء الوحدويون في كل العصور من السنة والشيعة بل يؤكد عليه الدين الإسلامي نفسه، بحيث كل طرف يبقى على خصوصية مذهبه وحفظ خصوصيته لا تعني إلغاء خصوصيات الآخرين أو الإساءة لهم، وليس من الصحيح التوجس والقلق من الانفتاح على الآخر حفاظا على الخصوصية، لأن هذا التوجه يشير إلى ضعف الثقة بالذات، فالانفتاح لا يعني إضعاف الهوية ولا التنازل عن شيء من الثوابت، بل يستهدف خدمة مصالح المجتمع واحترام خصوصيته. وأذكر في هذا الصدد ما قاله المرجع الديني السيد السيستاني في كلمته المشهورة «لا يجوز أن نساهم حتى بشطر كلمة من شأنها أن تؤدي إلى التفرقة» في التأكيد على توثيق العلاقة مع الآخر والسعي من أجل تحققها وعدم المساهمة في إشعال نار الفتنة والتناحر بين طوائف المسلمين، بالإضافة إلى المقالات التي يؤمن بها عشرات الكتاب في الوطن من السنة والشيعة في التأكيد على مبدأ التعايش والتواصل والتي تم نشرها في الصحف المحلية والمواقع الإلكترونية.
ودائما ما يؤكد الشيخ حسن الصفار في خطاباته وكتاباته التي استعرض جزءا منها الشيخ محمد الصفار في مقاله الأخير من أن الوحدة والانفتاح على الآخر لا تعني التنازل والذوبان في الآخر والمساومة على حساب المذهب والطائفة، وإنما تعني احترام الآخر والتواصل معه وتلاقح الأفكار وبناء الوطن يدا بيد بعيدا عن التعصبات الدينية والمذهبية، وفي كتاب له بعنوان «الانفتاح بين المصالح والهواجس» أشار الشيخ الصفار فيه بكل وضوح إلى هذهِ النقطة بقوله: كثيرا ما يثير البعض من أن الدعاة للوحدة يتنازلون عن العقيدة والمبدأ والشعائر لأجل التقرب من الطرف الآخر وكسب ودّه، وهنا يجب أن نقول - بكل وضوح - علينا أن لا نستغفل الناس بالعناوين التي تدغدغ مشاعرهم وعواطفهم، وأن لا نقبل باتهام الآخر في دينه لأنه يختلف معنا في الرأي، فالتشكيك في نيّات الآخرين وأديانهم مرفوض، ومن أيَّ جهة صدر. وفي نص آخر يشير أن: الاجتهاد وشرعية الاختلاف مبدأ متفق عليه، ولا يحق لأحد أن يتهم الرأي الآخر بالخروج والمروق من الدين بسبب ذلك، فهذا خلاف الأخلاق والدين وخلاف المنهج العلمي.
كما أشار أيضا إلى هذه النقطة بالتحديد في لقائه الأخير على قناة «المنار» اللبنانية ضمن حلقات برنامج «الكلمة الطيبة»من خلال تركيز جلّ حديثة على هذا الجانب وتصحيح الرؤيا الموجودة في أذهان البعض من أن الوحدة والانفتاح على الآخر مقاصدها تمييع العقيدة والتنازل عن الثوابت والمعتقدات.
ومن العجيب بمكان أن نسمع كلام يشوبه الشك والاتهام من بعض الشيعة والسنة في جدوى هذا المشروع الذي يتناغم مع المنطلقات الدينية والنصوص الإسلامية، ويؤكد عليه علماء الأمة، في وقت نجزم من خلاله أن من يثير هذا الاتهام لم يطلع على مسارات التغيير والانفتاح على الآخر والمكتسبات التي سيجنيها المجتمع مع تراكمات التواصل والتعايش المشترك مع مرور الوقت، وهذه مشكلة ومعضلة كبيرة يعيشها هؤلاء الأشخاص من خلال فرض العزلة على أنفسهم، إصدار التهم وسوء الظن للآخرين.
لذلك فإن بيان علماء الشيعة في المملكة العربية السعودية بمناسبة أسبوع الوحدة الإسلامية والذي جاء بمصادقة من خمسين عالما، جاء ليرسم خطوط عريضة لمشروع الوحدة في الوطن ويؤكد على مناخ التعايش والانفتاح المذهبي والاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى الدعوات المنادية حول وثيقة التعايش بين السنة والشيعة التي تكفل حقوق كل طرف وتؤكد على مبدأ المساواة والتعايش المشترك والاحترام المتبادل بين جميع المواطنين.
هذا المناخ الجديد الذي تشهده أجواء السنة والشيعة في الوطن وهذه المبادرات فيما لو كتب لها التطبيق بشكل مباشر ستعزز مسئولية الجميع في انتشال حالات التعصب لذواتنا وآرائنا ويدعونا جميعا للمضي في تمكين مفهوم المواطنة والتعايش مع الآخر من خلال البحث عن المشتركات وتوفير الأجواء المساعدة والمؤاتية من منطلق الآية المباركة ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا﴾.