البيئة الاجتماعية محضن ديني
لا تكاد تجد مجتمعًا بشريًّا في غابر الأزمان وحاضره، إلا وله صبغة وهوية دينية، وعضوية الفرد في مجتمعه تعكس تلك الصبغة الدينية على حياته، بدءًا من الأعراف والتقاليد الاجتماعية في استقباله كمولود جديد، وانتهاءً بمراسيم توديعه وتشييعه بعد مفارقة الحياة، مرورًا بقوانين الزواج، وأحكام الطقوس العبادية، ومقتضيات المناسبات والشعائر الدينية التي تسود مجتمعه.
حيث يجد الإنسان نفسه منساقًا للتفاعل والتكيّف مع أجواء بيته الاجتماعية في بُعْدِها الديني. حتى لو كان غير مقتنع بكلِّ أو بعض تلك التوجهات والممارسات؛ لأنه لا يريد أن يبدو عنصرًا شاذًّا مخالفًا للجو العام، مما قد يعرضه للضغوط، ويجعله منبوذًا في مجتمعه.
إن معظم الناس في مختلف الأديان والمذاهب لا يتعاطون مع المعتقد الديني كمسألة شخصية وقرار فردي، كما هو الواجب عقلًا على الإنسان، بل يتعاطون مع المعتقد كخيار اجتماعي، فيوفّرون على أنفسهم عناء التفكير فيه، ومسؤولية البحث في الخيارات البديلة.
وقديمًا قال الشاعر العربي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت | غويت وأن ترشد غزية | أرشد
لذلك يشعر أتباع كل دين ومعتقد بالرضا عمَّا هم عليه، وتوحي لهم أجواء التوافق العام في مجتمعهم بالثقة في معتقدهم، خاصة وهم ينشأون على حبِّ وتقديس زعامات وقيادات تأخذ في نفوسهم موقع التأثير والإجلال، ولا يتصورون أنها تسير بهم على خطأ أو توجههم لباطل.
وهذا ما نبّه إليه الإمام جعفر الصادق بعض أتباعه ممن بدا منهم الحماس والاندفاع في دعوة الآخرين إلى المعتقد والمذهب، قال : (لا تخاصموا بدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب... ذروا الناس، فإن الناس أخذوا عن الناس).
ثم إن في كل مجتمع مراكز قوى ترى نفسها معنية بالدفاع عن دين المجتمع، وحماية معتقداته ومقدساته، في وجه أيِّ تمرد أو خروج على المعتقد السائد، بدءًا من السلطة السياسية التي قد تستثمر المظهر الديني لتعزيز سلطتها، كما يحدثنا القرآن الكريم عن فرعون حين يرفع لواء الدفاع عن دين المجتمع في مقابل نبي الله موسى ، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾.
وهناك المؤسسة الدينية في كل المجتمعات، ووظيفتها حراسة العقيدة، والدفاع عنها، والوقوف بحزم أمام أي رأي مخالف.
إضافة إلى سائر القوى الاجتماعية التي لا تتساهل في ردع من تسوّل له نفسه الخروج على المسار الديني للمجتمع.
هذا الحال للبيئة الاجتماعية يصيّرها محضنًا للمعتقد الديني، تنشأ عليه الأجيال، وتلتزم به، وتنشدُّ إليه، ويحصّنها من التأثر بالدعوات المخالفة، والاتجاهات العقدية الأخرى.
وهو ما يفسّر لنا استمرارية الأديان والمذاهب وتوارثها عبر الأجيال، كما يفسّر لنا صعوبة مفارقة الأفراد للتوجهات الدينية السائدة في مجتمعاتهم. تلك الصعوبة التي لا يتحملها إلا من يوطّن نفسه على مواجهة شتى ألوان المعاناة والضغوط، وهم في العادة قلة من أفراد المجتمعات، كما يتحدث القرآن الكريم في سير عدد من الأنبياء، ففي سيرة نبي الله نوح يقول تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
وفي سيرة نبي الله موسى يقول تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾.
نعم، يسهل الأمر إذا تمكن الاتجاه الآخر والدعوة الجديدة من تكوين مجتمع موازٍ، يوفّر بيئة بديلة تلبِّي الحاجة لانتماء اجتماعي، والشعور بالحماية والأمن.