السفه الطائفي والحراك القاعدي
المبدأ الطائفي مرفوض تماما، مهما كان مصدره وأيا كان مؤججه، فالطائفية فتنة لعن الله من أيقظها، غير أنّ إيران في صراعها السياسي تلتحف دائما بالمنطق الطائفي، والصراع السياسي الذي تقوده إيران ضد السعودية مؤخرا والذي تجلى في تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تصاعدت بالتزامن مع الاعتداء الحوثي على الحدود الجنوبية للسعودية، ونحن نتذكر تصريحات منوشهر متقي وزير الخارجية ونستحضر تصريحات لاريجاني في ذات السياق وأخيرا الوقاحة التي اتسم بها خطاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في اتهامه للسعودية بالاعتداء على المدنيين والتدخل في شؤون اليمن الداخلية!
معلوم أنّ إيران تستخدم الطائفية سلما للوصول إلى أهدافها السياسية وغاياتها الاستراتيجية، وقد دخل في السياق السابق بعض السياسيين العراقيين وانخرطوا في الهجوم على السعودية وكيل التهم جزافا بحقّها، وقد أعمتهم حرارة الانتخابات الداخلية ودفعهم الولاء القديم لإيران إلى استغلال خطبةٍ قالها واعظ صغير في السعودية تهجم فيها دون وجه حقّ على المرجع العراقي الكبير علي السيستاني.
لقد أخطأ هذا الواعظ دون شك، ولكنه لا يمثل إلا نفسه، وليست له أية صفة رسمية سياسيا أو دينيا، بينما جاء الرد من بعض العراقيين الساسة والمنضوين تحت مؤسسات الدولة الرسمية، وهذا هو المزلق الذي وقع فيه هؤلاء الذين ردوا على الواعظ الصغير، فلو كان لديهم شيء من التعقّل والحكمة لعلموا أن هناك تهجما على السعودية من بعض الوعاظ الشيعة في عدد من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، وقد تعاملت السعودية مع هؤلاء بتجاهلٍ تام، ولم تلق بمسؤولية أفعالهم لا على النظام السياسي في العراق ولا حتى على شيعة العراق والعالم، بل اعتبرتها تصرفات فردية خارج السياق العام، ولم تقابل السعودية هذا الضخ الإعلامي المستعر والمتزامن مع حرب في حدودها الجنوبية إلا بالعقل والحكمة والروية.
ولمزيد من تعرية المشهد لإبعاد الفرز الطائفي البغيض، فإننا يجب أن نلفت إلى الموقف المشرف لشيعة السعودية تجاه الاعتداء الحوثي على الوطن، والتصريحات الرصينة والواثقة التي أطلقها الشيخ حسن الصفار والمثقف توفيق السيف والأستاذ الخنيزي وغيرهم، والتي أكدوا فيها جميعا وقوفهم في صف الوطن ضد المعتدي بغض النظر عن طائفته أو مذهبه، وحين نستحضر هذا السياق فإننا نجد مطالبة الشيخ حسن الصفار لهذا الواعظ الذي تطاول على المرجع السيستاني بالاعتذار مطالبة منطقية ومستحقة.
يشير هذا المشهد المتداخل إلى أمر جدير بالعناية والتأمّل، وهو قدرة إيران على لجم أتباعها عبر آليات تم ترسيخها على مدى سنين طويلة، لا تسمح بفوضى إفتائية أو أعمالٍ خارجة عن التوجه العام، وهو عكس ما يحدث في المذهب السني.
حتى نضمن عدم اشتعال الفتنة الطائفية من جديد يحسب كاتب هذه السطور أن من الواجب علينا جميعا سنة وشيعة أن نحكم تضييق الخناق على السفهاء من الجانبين، والسفه الطائفي الذي يوقده الجهلة من الجانبين سيأكل الأخضر واليابس ولن يترك مجالا لتواصل العقلاء، والسفهاء الطائفيون من الجانبين ليسوا فقط من صغار السن والأغرار، بل بعضهم قد بلغ من العمر عتيّا، وبعضهم يشار إليه بالبنان على أنه عالم وفقيه، وهؤلاء يجب على دولهم أن توقفهم عند حدهم وذلك بنزع أي صفة رسمية يحملونها ومعاقبة من يتجاوز الحد منهم عبر مؤسسات الدولة التي يكونون فيها وإن لم يكونوا يمثلون موقفها الرسمي.
إن التزام حزب الله بتوجيهات الولي الفقيه وخضوعه الكامل لها، لا يقابله نموذج مماثل في الجانب السني، بل على العكس نجد الجماعات الدينية السنية في غالبها هي خارج سلطات المؤسسات، وكنموذج على هذا التمرد داخل الجانب السني يكفي أن نأخذ تنظيم القاعدة كمثالٍ، فهو تنظيم منشق ومعاد لكل الدول العربية والإسلامية ما خلا إيران، فهو قد مد نشاطه وعملياته لتشمل أغلب دول العالمين العربي والإسلامي، ضرب في إندونيسيا وفي باكستان وفي العراق وفي السعودية والأردن ومصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وتركيا وغيرها، وأخيرا يبدو أن التنظيم قد حط رحاله في اليمن وله حراك مريب في الصومال وأفريقيا.
لقد عاد هذا التنظيم للحراك من جديد بعد مرحلةٍ من الفتور والتقهقر، ويمكن للمراقب التساؤل عن سر استعادة التنظيم لشيء من حيويته رغم الضربات القوية التي وجهت له؟ نتذكر جميعا أن أسامة بن لادن قد انقطع لفترة طويلة عن الظهور في الإعلام أو الإدلاء بأي تصريحات من أي نوع، في الوقت الذي كان نائبه الظواهري يعلق على الأحداث بشكلٍ مستمر، غير أن بن لادن وبعد انقطاعه لفترة طويلة عاد قبل بضعة أشهر بعدد من التسجيلات المتوالية، وهو الأمر الذي ربما يفيد بأنه قد حصل على ملاذ آمنٍ منحه القدرة على التواصل مع أتباعه بشكلٍ مريح، ولنا هنا أن نتساءل هل كان لتلك الخطابات البنلادنية علاقة بما حصل بعدها من حراك قاعديٍ؟
يبدو هذا التساؤل تساؤلا مشروعا، خاصة بعد حراك القاعدة في اليمن وأخذها زمام المبادرة، وتبنيها لعمليات خارج حدود اليمن، مثل عملية النيجيري عادل عبد المطلب التي فشلت، ومثل عملية الطبيب الأمريكي من أصل أردني والذي أطلق النار على زملائه في قاعدة فورت هود الأمريكية بتوجيه من القاعدي اليمني أنور العولقي، وما فعله همام خليل البلوي بتفجير نفسه وسط قاعدة لقوات التحالف في أفغانستان وغيرها.
من جانب آخر، نجد أن الحكومة اليمنية بعد صمت عن تحركات القاعدة على أراضيها قد أصبحت تسعى للتأكيد على أنها جادة في ملاحقة التنظيم وقياداته وفلوله، فهي تقوم بعمليات عسكرية متتابعة ونوعية في استهداف رموز التنظيم والقضاء على بنيته التحتية، وهي تسعى لبناء تحالفات قبلية ضد التنظيم وعناصره، وهي تسعى للاستفادة من المعونة الدولية في محاربة القاعدة وحراكها الجديد الذي كانت أوضح صوره هي ما جرى في اليمن، وعلى الحكومة اليمنية وهي تخوض هذه الحرب المستحقة ضد القاعدة أن تعلم أنها ستكون حربا طويلة الأمد وأنها لن تحسم في شهر أو شهرين، وأنها حرب يجب أن تستمر سنين عددا حتى تؤتي ثمارها على أفضل ما يمكن.
بشكلٍ عام فإن الحرب على القاعدة وإرهابها الأعمى يجب ألا يقتصر فيها على الجانب العسكري والأمني فحسب، فهذا آخر الحلول وهو مثل الكي في العلاج، والوقاية خير من العلاج وأقل تكلفة وأجدر بالنجاح، فالقاعدة قبل أن تكون تنظيما عسكريا مقاتلا هي منظومة فكرية وأيديولوجيا دينية وحالة ثقافية، تحتاج إلى التعامل معها عبر خطة متكاملة وطويلة المدى، لتفكيك تلك المنظومة وتحطيم تلك الأيديولوجيا وتغيير تلك الحالة.