حول الحوار المفتوح مع الشيخ الصفار: هل يمكن التأسيس لحالة حوارية؟
في لقاء تحت عنوان حوار مفتوح، عقد قبل عدة أيام حوار مع الشيخ حسن الصفار، حول المواضيع التي تطرق إليها في محاضراته خلال أيام عاشوراء لهذا العام، وقد تضمن الإعلان عن هذا اللقاء، دعوة إلى عملية تقييم ومراجعة نقدية لهذه المحاضرات، وما ورد فيها من أفكار وآراء، وهو الأمر الذي دفعني وشجعني لحضور هذا اللقاء والمشاركة فيه.
ويجب أن اعترف أولاً، إنني لم احضر أو استمع إلى محاضرات الشيخ، بل تابعت وقرأت في الخلاصات التي كانت تنشر حول مضمونها بشكل يومي. وإذا كان لي أن أجري عملية مراجعة وتقييم لما قرأت، بالإضافة لهذا الحوار المفتوح، فان ذلك يحتاج إلى مقاربة ذات وجهين. الوجه الأول يتمحور حول الأمور والدلالات الشكلية والظاهرية، أما الوجه الآخر فإنه يتجه إلى تقييم المضمون والمحتوى. وسأكتفي هنا فقط بذكر بعض الملاحظات العامة والشكلية، والتي يمكن أن تكون بمثابة المدخل أو المفاتيح التي تساعد على الولوج إلى المضامين والمحتوى ومناقشته وتقييمه بشكل موضوعي، وذلك عندما تحين الفرصة إلى ذلك مستقبلا.
إن دعوة الشيخ إلى عقد هذا اللقاء، وفتح حوار نقدي مفتوح حول الموضوعات التي تطرق إليها خلال موسم عاشوراء، هو سُنّة حسنة، ومبادرة خلاقة، وقيمة يجب أن تترسّخ اجتماعيا، من اجل تعميم ثقافة النقد والمراجعة والمحاسبة، حيث من المهم أن لا نتحول أو نظل دائما مستمعين سلبيين، لا نحاور ولا نجادل ولا نناقش ما يلقى على مسامعنا من أفكار وموضوعات وآراء، هي قابلة للاختلاف والأخذ والرد فيها، ولكي لا يظل الخطيب فوق مستوى النقد والمسائلة، ولكي يشعر هذا الخطيب أن هناك من يراقبه ويقيمه، وهو الأمر الذي يدفعه إلى العمل والاجتهاد والبحث بجد، كي يقدم لمستمعيه الأفضل من علوم ومعارف.
قد تكون لدينا مشكلة بنيوية نعاني منها في مجتمعنا، عندما نكتفي بالاستماع والتلقي، ولا نتفاعل مع ما يلقى أو يطرح على مسامعنا من موضوعات، من خلال مجادلتها ومناقشتها والبحث فيها، وخلق حالة حوارية تجادل هذه الأفكار والآراء، حيث يعاب علينا أننا نخاف من حالة الاختلاف، والدخول في مثل هكذا حوارات اتقاءً للمشكلات التي يمكن أن تجرها علينا، أو لأننا نستسلم ونسلم ونقبل بما هو معروض علينا من أفكار، نتيجة التقصير أو القصور الذاتي في بناء التراكم والحصيلة المعرفية.
انه لمن المهم الدعوة إلى الجرأة في مناقشة ما يقال ومجادلته، لان ذلك مدعاة لاستفادة جميع المتحاورين، ومصدر إثراء لهم، خصوصا الخطيب أو العالِم أو المتحدِّث الذي يفتح باب الحوار والنقاش مع أفكاره، لأنه من خلال الحوار تنكشف وتتكشف أشياء جديدة لم تكن واضحة قبل ذلك، بالإضافة إلى أن هذه الحالة الحوارية تخلق في المجتمع حراكا ثقافيا واجتماعيا، عندما يتطور ويعم، ويتحول إلى عادة وتقليدا اجتماعيا، ستساهم أجوائه الحسنة في رفع مستوى الاتصال والمثاقفة بين النخب وعموم الناس، وهو أمر لن يتحقق إلا من خلال حرية الرأي وفتح باب الحوار والاختلاف، الأمر الذي نحن أحوج ما نكون إليه من اجل الدفع بمجتمعنا إلى التقدم والتطور بشكل ووتيرة أكثر سرعة.
إن الإعلان عن موضوعات وعناوين المحاضرات قبل بدأ الموسم، هو من الأعراف والتقاليد الجديدة في السنوات الأخيرة عند بعض الخطباء والمحاضرين، وهو أمر جدير بالاهتمام والتعميم، ويدل على أن خلف هذه العناوين جهد مبذول، وعمل وبحث شاق، وتحضير مسبق قبل بدأ الموسم، كما تؤكد أن الخطيب لا يبخس عقول مستمعيه، بل هو يحترمها، من خلال إعداد ما يثري عقولهم من معارف وأفكار جديدة، تواكب التطورات الحادثة في العالم المعاصر. إن هذا الجهد والعمل والمثابرة يجب تقديره والثناء عليه، حيث لا يستوي الذين يُحضّرون ويجتهدون في العمل من اجل تقديم الجديد، مع الذين لا يهتمون بعملية التحضير، ويكررون ويعيدون ما يحفظونه دائماً وباستمرار.
إن ما يقدمه ويطرحه الشيخ الصفار من موضوعات وأفكار، تدل على الجهد الذي يبدله من اجل إعداد محاضراته، ويمكن تلمس هذا الجهد وملاحظته ورصده، من خلال لغة الخطاب الذي يحمل في طياته لغة حديثة، ويتضمن مفاهيم معاصرة، فيها مواكبة للحاضر ومعايشة له، لغة تحرص على تبيئة المفاهيم المعاصرة المستقاة من بيئات حضارية أخرى ومختلفة، والحرص على تأصيلها من خلال البحث عن جذورها ضمن الدائرة الحضارية الإسلامية، في عملية اجتهادية تحاول الموائمة بين التراث والمعاصر، والخروج من هذه الموائمة بصيغ وأفكار وأطروحات جديدة تعكس رؤية وثقافة الشيخ، وتجربته وخبرته في مجالي الخطابة والكتابة.
ومن المهم هنا ونحن نتحدث عن التراث والمعاصرة وما يشملانه من مفاهيم وقيم، وفي ظل ما يسمى ثورة الإنفوميديا "الإعلام والمعلوماتية"، أن يتطور الخطاب الديني، وترتقي لغته ومصطلحاته إلى مستوى التقدم المعرفي الحادث في الزمن المعاصر، وان لا يظل هذا الخطاب أسير لغة ومصطلحات أزمان وحقب ماضية. وعندما يرتقي مستوى الخطاب الديني ولغته، فسوف يرتقي برقيه مستوى وعي الناس وثقافتها إلى مستويات لغة العصر والحضارة المعاصرة.
لقد حضي الشيخ أثناء هذا اللقاء الحواري على الثناء والإطراء والشكر والتقدير، من قبل المداخلين، على ما قدمه من موضوعات وأفكار، كان لها اكبر الأثر والوقع على نفوسهم وفي عقولهم، إلا أنني اعتقد أن هذه المداخلات، بشكل عام، لم ترقى إلى مستوى ما يمكن تسميته بالمراجعة أو القراءة النقدية في مضمون محاضرات وموضوعات عاشوراء، والأفكار التي عرضت فيها، ولم تساجلها أو تناقشها بشكل معمق، ليس بقصد تفنيدها أو الرد عليها، وإنما من اجل استخراج القيمة الحيوية من مضمونها، وإثراء جو اللقاء بحوار يرتقي إلى مستوى اللقاءات الفكرية والثقافية الرفيعة.
وعلى الرغم من أن هذا اللقاء معلن عنه مسبقا ومعروفة هي أهدافه وأغراضه، إلا أن بعض ما طرح من أسئلة واستفهامات لم تكن على علاقة بموضوع اللقاء، بالإضافة إلى أنها أسئلة دائما ما تتكرر وأصبحت إجاباتها من فم الشيخ أيضا معروفة ومكررة. وقد كان من الأجدر بجمهور الحاضرين الاستعداد المسبق لهذا اللقاء، وتسجيل الملاحظات والأسئلة، حتى يمكن لهم حين اللقاء المشاركة بفاعلية، عوضا عن تلك المداخلات العفوية، والتي تخرج عن سياق وهدف اللقاء.
إن الدعوة إلى خلق حالة حوارية بين النخبة والجمهور، وكسر النمطية السلبية التي تتصف بها شخصية الفرد في مجتمعنا، يتطلب إتاحة فرص اكبر للجمهور في المشاركة، وتشجيعه على الإلقاء والتحدث والكلام والتعبير عن رأيه بكل أريحية ورحابة صدر. ومجالس العلماء يجب أن تكون مدارس في تربية أفراد المجتمع على الشجاعة والمبادرة والثقة بالنفس، وكسر حاجز الرهبة والتردد والخوف من الوقوف والتحدث وإبداء الرأي. وهو أمر في حال تأسسه، ستكون له مردوداته وانعكاساته الايجابية على المجتمع وأفراده عندما ينخرطون للعمل في الحياة العامة.
من المهم تأسيس وتكوين وبلورة البيئة المناسبة لتطوير الحالة الحوارية التي نعاني ونشتكي من ضعفها في مجتمعنا، وإيجاد الأطر المناسبة التي تمتلك الرؤية لتشجيع واحتضان وتنمية وتطوير هذه الحالة، وسيكون لمجالس العلماء والمنتديات الثقافية والاجتماعية المنتشرة في مجتمعنا دورا مهما في ذلك، وفي المساهمة في إنتاج الأفكار وصناعة الرؤى الجديدة، وتنشيط التفاعل الثقافي والاجتماعي بالشكل الذي يؤدي إلى تغييرات نوعية في ثقافة المجتمع.
وعندما يسود ويعم ويدب في مجتمعنا ذاك القدر من النشاط والفاعلية الثقافية الايجابية، والقدرة على إنتاج وصناعة الأفكار الخلاقة، فان ذلك سيكون مدعاة للفخر والاعتزاز، وسيكون له انعكاساته وتأثيره المؤكد في البيئات الاجتماعية الأخرى، من خلال التأثير والتأثر المتبادل، والذي يفرضه التواصل والتبادل الثقافي، في فضاء كوني مفتوح على كل آفاق المعرفة والمعلومات، وهي ميزة يجب الاستفادة منها، لتعميم ونشر ثقافة ورسالة التسامح والتآخي والتعاون بين بني الإنسان.
من الملاحظات التي يمكن قولها في هذه المناسبة أننا دائما ما ننفعل ونتفاعل مع القضايا ذات البعد العقدي، حيث يرتفع عدد القراء والمشاركين في هكذا موضوعات إلى أرقام قياسية، بينما الموضوعات ذات الأبعاد الاجتماعية والتربوية والثقافية والأخلاقية والحضارية، لا تحضا بالاهتمام والتعليق إلا ما ندر، وهو أمر يترك انطباعا بضعف الاهتمام بالموضوعات الأخرى غير العقدية والأيدلوجية، وبهشاشة البنية الثقافية في المجتمع، الأمر الذي يحتاج منا إلى مراجعة ودراسة وإعادة نظر.
هذا لا يعني بالطبع أن الدفاع عن الذات ورد التهم عنها هو أمرٌ خاطئ أو سلبي، بل على العكس من ذلك، فإن الدفاع عن الذات ضد التهم الباطلة والتشويه المتعمد والعنف المادي والمعنوي هو ضرورة، بل هو من الأمور الواجبة. إلا أن السؤال هو كيف يمكن أن تتحول إساءات المقرضين، أو تلك المشكلات العقدية، والتي هي قناعات متغلغلة وراسخة في النفوس ويصعب تبديلها، ومن ثم تحويلها من مجالها العقدي الأيديولوجي، ونقلها إلى مجالها الثقافي الفكري القابل للسجال والاختلاف، مع السعي إلى الدفع بالتي هي أحسن تلك الإساءات، ومحاججة المسيء بالعقل والمنطق والبرهان، والعمل على رفع مستوى أبناء المجتمع العلمي والثقافي والفكري والأخلاقي، ليكونوا النموذج والقدوة الحسنة، والمؤهلين أيضا لخوض غمار تلك الحوارات العقلانية، بعيداً عن لغة العنف وعنف الكلمة، والتي إذا ما انزلقت إلى الهاوية فإنها ستؤدي إلى أضرار فادحة، ومن ثم السقوط والإنجرار إلى متاهات لا تحمد عقباها.