في عقلانية الشيخ حسن الصفار واعتداليته
ثمة رجال دين مسلمون في الخليج يفرضون احترامهم ووقارهم العلمي الواثق على الجميع.. داخل طوائفهم أو مذاهبهم، وداخل طوائف أو مذاهب الآخرين، فضلا عن أوساط سائر القوى والتيارات السياسية والثقافية الناشطة، الرسمية منها والمعارضة.. فضلا عن القوى العلمانية، والأخرى المستقلة أو غير المؤطرة، والتي يمكن تصنيفها من ضمن ما يسمى بحراك المجتمع المدني، والنخب أو الفئات الليبرالية، والحداثوية والتنويرية الخ...
ومن رجال الدين هؤلاء، نذكر باحترام وتقدير الشيخ حسن الصفار، أحد رجال الدين الثقات من الطائفة الشيعية الكريمة في المملكة العربية السعودية، والذي طبقت شهرته الآفاق الخليجية والعربية والإسلامية كافة، نظراً لعقلانيته واعتداله، ووسطيته ومرونته ووطنيته وسعة صدره وخلاصاته الوازنة والراجحة في الحكم على التطورات المعقدة والملتبسة من حولنا هذه الأيام وبخاصة في الواقع الإسلامي الخليجي والعربي بشكل عام.
كان هذا الشيخ ولايزال، يخرج من كل عقدة شبه مستعصية، أو التباس شبه مغلق، بمزيد من نجاح التجاوز، والاستيعاب، وتحقيق رضا جميع المختلفين من حواليه. ومن آخر إنجازات آرائه العقلانية المحترمة، موقفه من مسألة المتمردين الحوثيين، واختراقهم الحدود السعودية، وقتلهم وجرحهم لعدد من الجنود وحرس الحدود السعوديين، إذ دعا سماحته إلى دعم سياسة بلده المركزية هنا، والآيلة إلى الحفاظ على التراب الوطني السعودي، وصدّ أي عدوان عليه، ومنع أي لعب بالنار المذهبية، أو القبائلية هذه التي تشتعل -مع الأسف- في غير مكان من عالمنا العربي والإسلامي، ويراد لها أن تشمل هذه المرة منطقة جنوب الجزيرة العربية، ودول الخليج، انطلاقاً من الشقيقة الكبرى السعودية، فما يفعله الحوثيون يمكن أن يتحول، إذا لم يقطع دابره فوراً، إلى حرب تأخذ بالفعل طابع الفتنة الكبرى، بين أكبر بلدين في المنطقة: السعودية وإيران.. مع ما يستتبع ذلك من قسمة أكبر وأخطر مما هي عليه الآن لعالمنا العربي والإسلامي، والذي يكاد يكون هو المنطقة الوحيدة المشتعلة بالحروب دون سائر مناطق العالم.
إن موقف الشيخ الصفار ينطلق أولاً، من حرصه على تراب بلده، ومجتمعه السعودي، واستطراداً على إسلامه، الذي لا يريد له مزيداً من التمزق والتخلع والحروب المستدامة.. تماما كما يطبخون لذلك في الغرف الدولية السوداء، والتي لا يهمها من منطقتنا إلا تحقيق أمن اسرائيل وسيطرتها المطلقة على المنطقة بثرواتها وقراراتها السيادية والمستقبلية. ولن يتحقق لهم ذلك إلا بإثارة الفتن المذهبية بين المسلمين، ودفعهم دفعاً إلى التقاتل، وبأي ثمن، وتحت أي راية سياسية، أو شعار سياسي.. فكل شيء جاهز للفتنة.. من مال وسلاح وإعلام ومذكيات شتى، طالما أن الهدف واحد، وهو ضرب وتمزيق ديننا الحنيف، ومجتمعاتنا الآمنة، وبلداننا التي باتت اليوم مهددة عملياً لا نظرياً بتقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية وإتنية لا يقر لها قرار.. وهذا الامر بات واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، ونشرته العديد من مراكز الأبحاث الإستراتيجية في الغرب والشرق على السواء.. وجربت ترجمته، وعملانياً على الأرض، (ولاتزال) قوى غربية بعينها، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
إذن ما يفعله الحوثيون يصبّ في خانة إذكاء الفتن، والتحريض على الاقتتال المذهبي، وإن تحت شعارات تستجرّ وراءها ما تستجره من تأييد من طوائف ومذاهب بحالها في اليمن وجواره.
نعم، شهادة الشيخ الصفار، تثمن هنا بامتياز، ولها دلالاتها الكبيرة والقاطعة الساطعة في مثل هذه الظروف الحرجة والحساسة جدا التي تمر بها بلداننا وأمتنا.
وهذا على كل حال ليس بمستغرب من رجل دين حكيم مثل الشيخ حسن الصفار، كان ولايزال داعية حوار حول كل المختلف عليه، دينياً وسياسياً وثقافياً، وقد لقي في ذلك تجاوباً عميقاً من مركز القرار في عاصمة بلده الرياض، لا بل سكة الحوار عينها، هي التي قادته للعودة إلى بلده، بعدما كان معارضاً مقيماً في الخارج. يقول الصفار في واحدة من أحاديثه الصحافية: «هناك تغيرات واضحة طرأت على أوضاع الشيعة في السعودية منذ العام 1994، فالحوار الذي جرى بيننا وبين الحكومة، قاد لإنهاء عملنا السياسي والإعلامي المعارض للحكومة في الخارج، وعدنا للمملكة لينفتح الباب أمام حوارات مباشرة مع المسؤولين من أجل معالجة المشكلات، وإلى غاية الآن لم تعالج كل الأمور، ولكن لايزال التواصل قائماً».
وجرت في المملكة جولات حوار دينية سنية- شيعية، وأخرى بين قوى إصلاحية، مع قوى رسمية في السلطة، وكانت النتائج مقبولة، وتبشر بمزيد من التحول الإيجابي، الذي لا يضرب الأمن والنظام من جهة، ويحقق مزيداً من الاتجاه نحو الإصلاح في المؤسسات السياسية والتعليمية والاجتماعية وحتى على مستوى تمكين المرأة من جهة ثانية.. وكانت الثمرة مؤخراً قيام مشروع «كاوست» أهم صرح تعليمي حداثوي في المملكة يقبل التشارك بين المرأة والرجل كطلاب في صرح تعليمي واحد.
عبر كل جولاته الحوارية في الرياض، وفي مكة، كان الشيخ حسن الصفار رجلاً جريئاً، واقعياً، وموضوعياً في طرح الأمور، والخروج منها بحل يفيد المجتمع والدين، ويخرجهما واحداً متماسكا في الخطاب والرؤية المنهجية.
ويكفي الحوار أنه حقق كسراً للجمود الذي كان حاصلاً بين القوى الدينية على الأرض، وخروج الجميع إلى التنفس الصحي خارج دوائر الشرنقات الضيقة، التي كادت تطبق على عقول الكثيرين.. ولا نخلص هنا للقول بأن الأمور باتت جيدة، أو شبه جيدة.. على العكس إنها تحتاج إلى مزيد من ثقافة الانفتاح، وتعضيدها، وجعلها حالة دائمة من كلا الطرفين وبمساعدة أو رعاية من القرار القيادي السعودي.
ولا نكون في وضعية المغالاة البتة، إذا قلنا إن الشيخ حسن الصفار، هو داعية توحد إسلامي بامتياز، وهو ينطلق بذلك، ليس من موقعه كأقلوي شيعي في المملكة، يريد لطائفته أن تسلّك أمورها في واقع أكثري طائفيا، وإنما من حرص على الإسلام الواحد، الذي يتعرض، هذه المرة، لحرب منهجية هي الأخطر عليه منذ وجود الرسالة وإلى اليوم.
وفي الوقت الذي تصنّف فيه بعض المنظمات والهيئات الدولية الشيعة في السعودية بأنهم، مثلا، يشكلون 15 في المئة، أو 20 في المئة من مجموع السكان.. وبعضهم يرى أن نسبتهم أقل من ذلك بكثير الخ.. وهذا كله ينظر إليه الشيخ الصفار بعين الريبة والشك. ولذلك نراه مثلا، يرفض إجراء أي إحصاء، أو تصنيف للشيعة داخل مجتمعهم. يقول: «إننا لا نرغب في تصنيف المواطنين طائفيا. فكلنا مواطنون مسلمون، ولا ينبغي أن يكون التنوع المذهبي سببا للفرز، أي أن الرجل ينطلق من أن مجرد حدوث مسألة النسبة، وما نستهدفه من الإعلان عنها، يحصل الفرز التوظيفي السلبي، ويتم التعامل مع السنة والشيعة في المملكة، وخارجها، على أنهم «شعبان» أو «هويتان» أو «دينان».. وفي هذا مخالفة فادحة لأبسط تعاليم الدين الحنيف، وكذلك لمفهوم الهوية والأمة والجماعة.
إن موقف الشيخ الصفار ضد الإحصاء والفرز هنا ينمّ عن موقف جديد، ومنيع، ضد الفرقة، أو الشرذمة الإسلامية، ويكاد يكون فيه من أجرأ وأنبل وأعظم الظواهر الموقفية التي وجدناها من رجال دين مسلمين، وأهميته أنه يصدر في جو هستيري طائفي محموم، يضرب مع الأسف عالمنا العربي والإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.