دعوة لمشروع يحاصر المزايدين على التقارب
لم أفاجأ أبدا وأنا استمع للشيخ أبو المنتصر البلوشي، أحد إخوتنا السنـّة في إيران، وهو يصف مؤتمرات التقريب بين طائفتي السنة والشيعة بأنها كانت من الأوهام والأماني الكاذبات، وقال في حواره بقناة (دليل) الجمعة الماضية إن " من وقف وراء تلك المؤتمرات - التي شارك في بعضها شخصيا - مجموعة مخادعين ووصوليين من الجانب الشيعي لا يريدون سوى تنازلات منا، وعندما نطالبهم على الأقل ببعض المطالب – كفتوى جواز التعبد بالمذاهب السنية – يرفضون".
عدم مفاجأتي بهذا التصريح من هذا المعارض الإيراني المقيم في لندن هو بسبب تتالي التصريحات من لدن ثلة علماء ومفكرين انجرفوا وراء الأماني بحصول تقارب حقيقي بين أكبر طائفتين في الأمة، وصدموا بعد ذلك. غير ناسٍ ما قاله لي المرجع الشيعي المعروف محمد حسين فضل الله في مكاشفاته الشهيرة بصحيفة عكاظ بأن مؤتمرات التقارب التي حضرها كانت أشبه بالاستعراض وأنها فشلت، فيما فجر الشيخ يوسف القرضاوي موقفه من سنتين خلتا، واتهم إيران بنشرها للتشيّع، وطعن السنـّة في الظهر.
والآن وبعد أن هدأت الساحة الطائفية بعد كل تلك الاحترابات والتصريحات الكلامية التي تفجرت في الدوحة وبيروت وبغداد والقاهرة، لا بد للمهتمين بمسيرة التقارب أن يلملموا أوراقهم ويعيدوا حساباتهم من جديد ويقرأوا المشهد في ضوء التطورات الأخيرة وانفضاض أبرز دعاة التقارب.
وكنت قد قدمت ورقة قبل عامين في منتدى جعفر الشايب بالقطيف وكانت بعنوان (قراءة في مسيرة التقارب الطائفي) أكدت على أن من أهم أسباب انتكاسة وإخفاق التقارب هو عدم مشاركة علمائنا السعوديين فيها، نظرا لما يمثلونه من مكانة وثقل علمي في الساحة الشرعية الإسلامية، وأن ملاحظاتهم كانت في الصميم من المشكلة، بيد أن العلماء الآخرين المشاركين اكتفوا بالتربيت على أكتاف بعض وانصرفوا لبوفيهات الأكل.
الشيخ أبو المنتصر البلوشي وبعد أن رمى تلكم المؤتمرات بالزيف والخداع وأنها فاشلة، انتهى في نهاية الحلقة بقوله " لكي يتحقق المرجو من حوار الطائفتين لا بد أن تقام تحت مظلة صادقة، ولا أجد أفضل من هذه البلاد أن تقوم بذلك"..
هذه الدعوة التي طالما طالبتُ بها، وخاطبت بها شخصيا أمين عام مركز الحوار الوطني الأستاذ فيصل المعمر برعاية حوار وطني مذهبي بين علمائنا الكبار ونخبة من علماء الشيعة السعوديين، لأن نجاحها على المستوى المحلي سينعكس إيجابا على مستوى العالم العربي والإسلامي، وقد بات من الضروري جدا التواصل مع النخب الشيعية المعتدلة لكبح جماح تلك النخب المغالية التي بدأت قرونها في الظهور في ساحتنا المحلية، وأي عاقل سيدرك من وهلته ضرورة احتواء شباب تلك الطائفة عبر رموز معتدلة وعدم تركهم ينجرفون وراء أطروحات تأتي من عمائم سوداء من الضفة الأخرى للخليج، لا تكنّ لنا سوى العداوة والبغضاء.
الشيخ عبدالمحسن العبيكان الذي شارك في ذات البرنامج تحدث عن تجربته الشخصية التي قام بها بمباركة من بعض الشخصيات السعودية، وقتما التقى الشيخ حسن الصفار- أحد الرموز الشيعية السعودية - في لقاءات عدة وصفها بالمثمرة، وأنهما كانا بصدد إيجاد صيغة تفاهم ووثيقة تعايش مذهبي، إلا أن نفرا - وصفهم بالغوغاء والجهلة من الجانب السني - أوقفوا تلك الحوارات، ودعا إلى إعادة إحيائها لإيمانه التام بضرورتها وفائدتها.
أدري أن ثمة موقفاً متشائماً لكثير من سادتي العلماء وإخوتي الدعاة الذين لطالما اختلفت مع بعضهم – وهم ذوو مكانة أثيرة في نفسي - حيال هذه الرؤية التي تروم مصلحة هذا الوطن المضيء في قلوبنا، فضلا على أننا بتنا دعاة الحوار ومركزه على مستوى العالم، ومددنا أيدينا لأصحاب الرسالات والثقافات في أمم البسيطة، فالأولى أن نتحاور مع إخوتنا هؤلاء، لنبلور مشروعا وميثاقا حقيقيا لا صوريا يكون نموذجا خلاقا يتجاوز تراكمات الماضي ويقرأ الحاضر ويستشرف المستقبل.
ما يشجع على نجاح مثل هذا المشروع، هو نجاح الأمة في نبذ الجوانب السلبية للمذهبية، فمن يقرأ في مذكرات الشيخ علي الطنطاوي الشهيرة، وهو يتحدث عن ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وآفة المذهبية في بلاد الشام، وكيف انتهى الأمر بأن لا يزوج الحنفي الشافعي ولا يصلي أصحاب المذاهب إلا خلف أئمتهم، ولم ينصرم القرن إلا وتلك المذهبية في أرفف التاريخ. يقول أحمد الكاتب الباحث الشيعي المعتدل عن رؤيته للخلاف السني الشيعي "إذا حذفنا الجانب السياسي من كل مذهب، فإننا نحصل على عقيدة إسلامية واحدة تتمثل في توحيد الله والإيمان بالنبوة واليوم الآخر، والالتزام بأركان الدين من الصلاة والصوم والحج والزكاة والحلال والحرام، وهي واحدة لدى جميع المذاهب".
مشاركة علمائنا في بلورة وثيقة تراعي كل ملاحظاتهم مع الجانب الشيعي، تعطي كثيرا من الأمل في تمتين اللحمة الوطنية، وتقطع الطريق على كل المزايدين والغلاة سواء في الداخل المحلي أم أولئك المعارضين البؤساء الذين يقيمون في لوبيهات فنادق الخمس نجوم في لندن ونيويورك، كي يمتطيهم الغربي لابتزازنا واللعب بورقتهم، وإشهارها وقتما يريد، وعندما ينتهي دورهم يرميهم الأشقر والكابوي كمحارم ورق يسحبون عليها الماء– أعزكم الله – ككل العملاء في التاريخ.